تعد تربية النحل في سوريا جزءاً أساسياً من التراث الزراعي والاقتصادي للبلاد، وقد شهدت هذه الصناعة في العقود الماضية اهتماماً كبيراً من الدولة آنذاك ما جعلها تصل إلى قمة المجد… وعلى الرغم من الصعوبات التي واجهها هذا القطاع في سنوات الحرب، إلا أن هناك جهوداً ملحوظة تُبذَل اليوم من أجل إعادة إحيائه، فهل سيعود النحل في سوريا إلى سابق عهده، أم أن التحديات الراهنة أقوى منه؟
قبل أن نتحدث عن الصعوبات التي مر بها قطاع النحل في سوريا ولا زال يمر بها، لا بد من أن نلقي نظرة على سنوات ازدهاره… ففي ثمانينيات القرن الماضي، تبنّت وزارة الزراعة مشروعاً طموحاً لتطوير تربية النحل، ورصدت لدعمه مخصصات مالية سنوية.
وفي عام 1988 تحديداً، تم تأسيس جمعية للنحالين السوريين تحت إشراف نقابة المهندسين الزراعيين، لتكون مرجعاً علمياً وتوعوياً للمربين في كافة جوانب تربية النحل.
و تأسست جمعية تربية نحل جديدة تابعة للاتحاد العام للفلاحين في عام 1993، مع فروع في كافة المحافظات السورية، لتستمر في تقديم الدعم والمشورة الفنية للمربين، كما أنشأت وزارة الزراعة لجاناً خاصة لمربي النحل في اتحاد الغرف الزراعية منذ عام 1998، بهدف تعزيز تربية النحل وتطويرها.
ومن الجانب الاقتصادي، كان المصرف الزراعي يتولى منح القروض الزراعية التي تساعد النحالين على صيانة خلاياهم وزيادة أعدادها، كما وفرت الوزارة تراخيص للمربين على السيارات الزراعية (بيك آب) لتسهيل نقل الخلايا والنحل.
وتنتج سوريا أنواعاً كثيرة من العسل الطبيعي بفضل تعدد المصادر النباتية التي يجني منها النحل الرحيق، وتزهر هذه النباتات في أوقات مختلفة من السنة، ما يتيح للنحالين إنتاج أنواع متعددة من العسل في مختلف فصول العام، ومن أهم هذه الأنواع عسل الحمضيات، عسل اليانسون وحبة البركة، عسل الكينا، عسل الزعتر، عسل دوار الشمس، وعسل العجرم والحلاب.
اقرأ أيضاً: انخفاض أسعار السيارات في سوريا.. بين فرحة المواطنين وخسائر التجار!
من الازدهار إلى الانهيار
كما قلنا سابقاً، ازدهر قطاع تربية النحل في سوريا منذ عقود واستمر بتألقه حتى اندلاع الحراك الثوري عام 2011 وما رافقه من قمع وما تبعه من حرب وصراع بين الجهات المختلفة، وفي عام 2007، قدّر عدد طوائف النحل في سوريا بحوالي 530 ألف طائفة، وبلغ إنتاجها من العسل نحو 2319 طناً، ومن الشمع 111 طناً، ووصل الإنتاج إلى ذروته في عام 2010 إذ بلغ 3000 طن.
ولكن مع تصاعد النزاع، تراجع هذا القطاع بشكل كبير، حيث انخفض عدد قفران (خلايا) النحل من 635 ألف قفير إلى 150 ألفاً في عام 2016، كما أشار تقرير للأمم المتحدة في عام 2019 إلى أن النزاع ألحق أضراراً جسيمة بإنتاج العسل، ما أدى إلى انخفاض عدد القفران بنسبة 86% بسبب الدمار والإهمال، بدءاً من ريف دمشق وصولاً إلى اللاذقية.
وبعد سنوات من الدمار الذي تعرضت له سوريا ككل وكان لقطاع تربية النحل حصة فيه، بدأ يستعيد عافيته تدريجياً، إذ تحسّن عدد قفران النحل والإنتاج رغم التحديات الكبيرة التي فرضتها الظروف المناخية والأمنية، فقد سجلت بيانات لجنة مربي النحل في سوريا لعام 2022 إنتاجاً يقارب 2500 طن من العسل، فيما بلغ الفائض عن حاجة السوق حوالي 1300 طن، بعد أن كانت الحاجة تقدر بـ1200 طن سنوياً.
كما أظهرت إحصائيات عام 2023 أن عدد قفران النحل بلغ 400 ألف قفير، بإنتاج وصل إلى حوالي 1500 طن من العسل، ولكن بقي عدد مربي النحل منخفضاً نسبياً فقد أصبح 18 ألفاً بعدما كان 32 ألفاً قبل الحرب.
وتشير هذه الأرقام إلى أن قطاع تربية النحل في سوريا قد استعاد نحو 80% من نشاطه، بفضل الجهود المبذولة من النحالين والجهات المعنية، وإن كانت القفران لا تزال تعاني من انخفاض في الإنتاج بسبب التقلبات المناخية.
اقرأ أيضاً: إنعاش قطاع الثروة السمكية في سوريا.. خطة لإنتاج 10 ملايين إصبعية
تحديات تربية النحل في سوريا
لم يكن الدمار وحدة ما عطّل قطاع تربية النحل في سوريا طوال أكثر من عقد، إنما تكاتفت العديد من التحديات والصعوبات التي أدت إلى تراجعه.
ومن أبرزها الإتاوات التي فرضتها الحواجز الأمنية التابعة للنظام السابق على النحالين، فالنحل لا يمكنه أن يعيش في مكان واحد طوال السنة، حيث يتطلب التنقل بين مناطق مختلفة لمواكبة مواسم الزهور المتنوعة، ومع وجود الحواجز الأمنية، أصبحت حركة النحالين بين المناطق الداخلية والساحلية والشمالية والجنوبية معقدة ومليئة بالعراقيل، ما أثر سلباً على قدرة النحالين في متابعة ورعاية خلاياهم.
وتزامنت هذه العقبة مع ارتفاع أسعار الوقود، فإن توفر الطريق بسلاسة لنقل النحل عبر السيارات، إلا أن الأمر كان مكلفاً ومعيقاً… وفي وقت كان فيه الوقود نادراً، كانت تكاليف الإنتاج ترتفع أيضاً، لتتأزم المشكلة عند النحالين الذين علقوا بين ضرورة تأمين النقل وارتفاع الأسعار.
ولعب المناخ أيضاً دوراً كبيراً في تراجع إنتاج العسل، فالتغيرات الحادة في الطقس من الحرارة المرتفعة والجفاف إلى الصقيع، كان لها تأثيراً سلبياً بالغاً على أعداد النحل وإنتاجه، فتربية النحل تعتمد على الطقس المعتدل التي كانت سوريا تتمتع به منذ زمن، إلا أنها شهدت في العامين الماضيين وهذا العام شتاءً جافاً بشكل غير معتاد، إضافة إلى تقلبات مفاجئة في درجات الحرارة، ما تسبب في تدهور موسم اللوزيات والحمضيات، التي كانت جزءاً من سلسلة تحديات بيئية جعلت من الصعب على النحل أن يتكيف مع الظروف الجديدة.
كما أسهم انخفاض المساحات المزهرة نتيجة الحرب في تقليص غذاء النحل، فالكثير من الأراضي الزراعية التي كانت تنتج نباتات ذات فائدة للنحل تم تدميرها أو خروجها عن الخدمة.
وتضاف إلى هذه العقبات الآفات التي تصيب النحل، مثل حشرة “القراض”، التي تسببت في تدمير أعداد كبيرة من خلايا النحل، وعلى الرغم من توفر بعض الأدوية لمكافحة هذه الآفات، إلا أن ارتفاع تكاليفها ونقصها جعل من الصعب على المربين توفير العلاج الفعال لنحلهم، ما اضطر العديد منهم إلى بيع خلاياهم أو تقليص أعمالهم بسبب تراجع الطلب في الأسواق، نتيجة للارتفاع المبالغ فيه في الأسعار الذي جعل العسل حكراً على الميسورين.
كل هذه العوامل مجتمعة، أثرت بشكل كبير على مهنة تربية النحل في سوريا، ووضعتها في مواجهة مع تحديات غير مسبوقة قد تهدد استدامتها في المستقبل القريب.
ختاماً، رغم التحديات التي واجهها قطاع تربية النحل في سوريا ولا زال يواجهها، إلّا أن الجهود المستمرة تشير إلى تحسن ملحوظ في الإنتاج… ورغم الصعوبات المناخية والاقتصادية والأمنية، نتأمل أن يعود هذا القطاع إلى سابق عهده لينعش الاقتصاد، وليكون مصدر رزق رئيسي للكثير من الأسر السورية.
اقرأ أيضاً: سرقة الكابلات الكهربائية: تحدٍ أمني واقتصادي يفاقم أزمة الكهرباء في سوريا