مقال رأي – بقلم: عروة درويش
في الرابع من تموز 2025، أعلن عبد القادر حصرية، حاكم مصرف سوريا المركزي، أنّ سوريا، بناء على «توجيه مباشر من الرئيس أحمد الشرع»، لن تلجأ إلى القروض الخارجية، بما في ذلك من «البنك الدولي». قد يبدو هذا التصريح فنياً في ظاهره، لكنه يعبّر عن لحظة سياسية واقتصادية مفصلية في مسار سوريا ما بعد الحرب، وقد يكون لها تبعاتها.
فبينما تسعى البلاد إلى إعادة بناء اقتصادها المدمّر، يفتح هذا الموقف الصريح الباب واسعاً لسؤالين مترابطين: إلى أي مدى يمكن لسوريا، الدولة «الطرفية» التي دمرتها الحرب، أن تواجه النمط المعهود في التنمية الغربية؟ وهل يكفي رفض قروض «صندوق النقد» كي تنعتق من قبضة الاستعمار المالي الحديث؟
ربّما الطريقة الأبسط لهذه المقاربة هي في التصريح ذاته: «بتوجيه مباشر من الرئيس أحمد الشرع»، فهذا التصريح يعني بأنّ البنك المركزي السوري ليس مستقلاً، بل يخضع لأوامر وإرشادات الحكومة، ما يعني بأنّه يخالف ما تروّج المؤسسات الغربية له وتضغط لتحقيقه، فما معنى هذا من خلال عدسة التفكير النقدي؟
«توجيه الرئيس الشرع» ضدّ «استقلال» المصرف المركزي
لطالما روّجت المؤسسات المالية الغربية – مثل «صندوق النقد الدولي» و«البنك الدولي» – لفكرة استقلال المصارف المركزية عن الحكومات المنتخبة، وقدّمتها كشرط «ضروري» للتنمية والتطور الاقتصادي الرشيد. لكن، وفقاً لنقّاد من طينة ديفيد هارفي David Harvey وسوزان سترينج Susan Strange، فإنّ ما يُسمى «الاستقلال» ليس حياداً تكنوقراطياً، بل هو اختطاف للقرار الاقتصادي من قبل النخب المالية، ووسيلة لضمان خضوع الدول لمصالح رأس المال المالي العالمي على حساب الإرادة الشعبية والأولويات الوطنية.
إذا ما اعتمدنا تحليلاً اقتصادياً سياسياً ماركسياً، فإنّ فرض نموذج «المصرف المستقل» على دول الجنوب ليس سوى آلية من آليات الهيمنة الأيديولوجية، إذ يتمّ تمرير السياسات النيوليبرالية باعتبارها «العقلانية الوحيدة» – مع آثارها لانسحاب الدولة من تمويل التعليم والصحة ودعم الصناعة والزراعة وغيرها – بينما تُصوَّر البدائل السيادية كرجعية أو شَعبوية.
في هذا السياق، يبدو قرار دمشق بالإبقاء على سلطة المصرف المركزي بيد الدولة والرئيس، تحدياً مباشراً لمنظومة الهيمنة النيوليبرالية، ورفضاً لادعاءات «الحياد النقدي» التي تُخفي في طيّاتها انحيازاً طبقياً لصالح رأس المال المالي العابر للقارات.
المال كأداة سيادية
منذ منتصف القرن العشرين، تكرّس ما يمكن تسميته بـ«عقيدة التضخم الصِفري» كمقدّس اقتصادي جديد: تقليص الإنفاق، رفع أسعار الفائدة، وتقييد دور الدولة. وكلها وُضعت تحت سلطة مصارف مركزية «مستقلة»، تفصل بين القرار النقدي والسياسة العامة.
لكن، وكما يقول الاقتصادي توماس باللي Thomas Palley، فإنّ هذه الاستقلالية ليست سوى حيلة سياسية لمنع الشعوب من اتخاذ القرارات الاقتصادية الكبرى، ولضمان أن تبقى الأولوية دوماً لحماية المستثمرين، لا لتوفير العمل أو تحسين الخدمات العامة.
من هنا، فإن تمسّك سوريا بمصرف مركزي خاضع للدولة، يعني إبقاء الباب مفتوحاً أمام احتمال إعادة توظيف السياسة النقدية في خدمة أولويات التنمية الوطنية إذا ما تحققت بقية الشروط لذلك، وأعني هنا إعادة الإعمار وخلق فرص العمل، وتحقيق الاستقرار النقدي بعيداً عن إملاءات السوق والمؤسسات المالية الغربية. يعكس هذا الموقف أيضاً ما وصفه سمير أمين بضرورة «فك الارتباط» مع مركز النظام الرأسمالي العالمي، كشرط أولي لتحقيق السيادة الحقيقية في سوريا.
ما بعد صندوق النقد: هل يكفي الإجراء أم يكون رمزياً؟
لكن، وبقدر ما يبدو الرفض السوري لقروض «صندوق النقد» و«البنك الدولي» موقفاً سيادياً جريئاً، إلا أنه لا يُمثل نهاية المطاف في معركة الاستقلال المالي. فالعالم اليوم يعجّ بأشكال جديدة من الديون، لا تقل سُمّية عن أدوات المؤسسات الدولية التقليدية: مثل سندات الأسواق الخاصة، إلى القروض الثنائية، وبعض نماذج «الشراكة بين القطاعين العام والخاص»، وليس كلّها، من التي تُخفي عبء الدين خلف واجهة «الاستثمار».
سوريا، وإن أوصدت باب سيادتها أمام «البنك الدولي»، قد تجد نفسها في المستقبل تحت ضغوط أشد إن لجأت إلى هذه البدائل من دون رقابة أو شفافية. فكما تحذر سوزان سترينج، فإنّ السلطة الحقيقية في النظام العالمي لا تُمارس بالسلاح بل بالمال، ولا عبر الاحتلال المباشر، بل من خلال التحكم بالائتمان وأسواق الدين.
إنّ تجارب الدول مع القروض الدولية، وتحديداً قروض صندوق النقد والبنك الدولي، تتحدّث عن نفسها، وهي دوماً مقترنة بشروط التبعية الواضحة نسبياً: تحرير السوق، وتقليص دور الدولة، وخصخصة الخدمات العامة بأيّة تكلفة.
لكن المشكلة اليوم في تحوّل النظام المالي العالمي إلى شبكة معقّدة من القروض الثنائية، والسندات السيادية، واستثمارات البنى التحتية المشروطة، والتي يتقاطع كثير منها في مفاعيله النهائية مع شروط القروض القديمة، أي يؤدي إلى إعادة إنتاج التبعية بأشكال أقل صراحة وأكثر خبثاً.
لنأخذ مثالاً على ذلك: أصبحت الأسواق المالية الخاصة – من صناديق التحوط إلى البنوك الاستثمارية – أدواتاً جديدة لفرض الانضباط على الدول. فكلما قررت دولة الاستدانة من هذه الأسواق عبر إصدار سندات، أصبحت رهينة مصالح ومزاج المستثمرين وتصنيفات وكالات الائتمان. وأي إشارة إلى «سياسة اقتصادية شعبوية» قد تطيح بثقة الأسواق، وتؤدي إلى انهيار العملة، وارتفاع فوائد الاستدانة، وحتى الإفلاس. هنا، لا يحتاج أحد إلى فرض الشروط، فهذه الأسواق كفيلة وحدها بتأديب الدولة.
إنّ ما تقدّمه هذه الآليات هو شكل جديد من «الإمبريالية المالية»، يتمايز عن الأشكال القديمة بأنه لا يفرض الهيمنة بشكل مباشر، بل يجعل الدولة نفسها شريكاً في إنتاج تبعيتها، ولهذا يجب الحذر منها، حالها كحال القروض الخارجية من البنك الدولي والمؤسسات الدولية القديمة.
ما العمل تالياً؟
في الحالة السورية، لا يمكننا إلّا اعتبار ما صدر عن الحصري، بتوجيه من رئيس الجمهورية أحمد الشرع، أمراً جيداً يستحق الإثابة، فهذا كما أشرت سابقاً، يعني أنّ الباب لا يزال مفتوح لإصلاحات وتغييرات لا تحدّ منها قروض المؤسسات الدولية وغيرها. لكن يبقى السؤال: كيف سيتمّ تمويل إعادة الإعمار؟ ومن أين ستأتي الأموال اللازمة لإجراء ما يلزم في البنية التحتية من أجل جذب الاستثمارات؟ وما هي الإجراءات لمنع تحوّل النخب المحلية – القديمة والجديدة منها – إلى وسطاء تابعين لرأس المال الخارجي.
الخطر هنا ليس فقط في الدائنين الخارجيين، بل في النخب المحلية التي ترتبط مصالحها بشكل عضوي بهؤلاء الدائنين. فكما بيّن غرامشي منذ وقتٍ طويل: لا يتمّ ممارسة الهيمنة من الخارج، بل عبر تواطؤ طبقات محلية تجد مصلحتها في استمرار التبعية للدائنين ورأس المال المالي الخارجي.
فإذا نجح هؤلاء بالالتفاف على قرار «رفض القروض»، وتحويله إلى ذريعة لفتح المجال أمام استثمارات غير شفافة، أو شراكات تُثري فئة محدودة على حساب الشعب، فإننا سنكون حينها أمام نسخة سورية من «الثورة السلبية»: شكل سيادي، ومضمون تابع، وهو الأمر الذي لا يجب أن يتمّ السماح بحدوثه.
إذا أرادت سوريا تحويل قرارها إلى خطوة نحو استقلال اقتصادي حقيقي، فإنّ عليها ألّا تسمح لرفضها القروض بأن يتحوّل إلى إعلان رمزي، بل أن تتبع قرارها الصائب بتبني سياسات تغيير بنيوية على الأرض، من بينها:
- وضع معايير صارمة للاستثمار والتمويل الخارجي: لا استدانة دون شفافية، ودون ربط التمويل بإنتاج فعلي لا باستيراد أو إنفاق عقيم.
- تنويع مصادر الاستثمار: بما يمنع الارتهان لقوة واحدة، ويوزّع المخاطر الجيوسياسية.
- بناء اقتصاد منتج: يرتكز على الصناعة والزراعة والتعليم، لا على العقارات أو الاستيراد أو الرأسمال الريعي.
- بناء أدوات السيادة النقدية الحقيقية: مثل الرقابة المرنة على تحويلات رأس المال، وفرض ضوابط على حركة العملة، وإنشاء صندوق سيادي لتوجيه الفوائض نحو الداخل.
- إشراك المجتمع في القرار الاقتصادي: عبر بناء آليات الشفافية البرلمانية، والمحاسبة الشعبية، ونشر تفاصيل أي اتفاق مالي أو استثماري مع الخارج، بل وعرض المشاريع ذات الطابع الاستراتيجي على الاستفتاء إذا لزم الأمر.
قد لا تكون سوريا اليوم دولة قوية اقتصادياً، ولا تملك أدوات مالية متطورة، لكن قرارها برفض الخضوع لشروط الدين الدولي هو نقطة بداية استراتيجية، واقتناعٌ بأنّ النموذج النيوليبرالي ليس قدراً محتوماً، وأنّ الدول، حتى الضعيفة منها، تستطيع أن تقول “لا” حين تفهم اللعبة وتكشف أقنعتها.
اقرأ أيضاً: 400 دولار للفيزا و110 غرامة أسبوعية.. رسوم جديدة لدخول سوريا
اقرأ أيضاً: الإيجارات القديمة و«التمديد الحكمي».. التفاصيل والتحديات والسيناريوهات المتوقعة!
————————————————————————————————————
تنويه
يفتح موقع «سوريا اليوم 24» صفحاته لكل من يحمل رأياً ويرغب في التعبير عنه بحرّية ومسؤولية، إيماناً منا بأن الحوار هو السبيل الأمثل لفهم الواقع وصياغة المستقبل. نحن نُجري لقاءاتنا مع ضيوف من مشارب فكرية وسياسية متعددة، نستمع إليهم ونعرض ما لديهم بأمانة وموضوعية، وننقل الآراء المختلفة من مصادر متعددة. ولكن نشرنا لآرائهم لا يعني بالضرورة تبنّيها، بل يأتي في إطار رسالتنا الهادفة إلى ترسيخ ثقافة الحوار وتبادل الرؤى في فضاء من الاحترام والانفتاح.