الكاتبة: ربى الكلاح
بعد سقوط النظام السابق في الثامن من كانون الأول الماضي، لم تمضِ سوى أيام قليلة حتى بدأت شوارع دمشق وساحاتها العامة تشهد ظاهرة جديدة وغير مألوفة، حيث انتشرت ظاهرة الصرافين الجوالين الذين ينادون بصوتٍ مرتفع: “صراف.. صراف.. دولار!”، في زوايا الأرصفة أمام البنوك والمحال المغلقة.
وما بدأ كحالات فردية هنا وهناك، تحول بسرعة إلى ظاهرة اقتصادية واسعة الانتشار، استغل فيها هؤلاء الأفراد الفراغ التنظيمي والرقابي الذي أعقب التغير السياسي، ليحولوا هذه الفوضى إلى فرص ذهبية لبناء سوق سوداء للعملات .
وباتت “بسطات الصرافة العشوائية” أمرًا واقعًا لا يمكن تجاهله، يتعامل معه المواطن السوري يوميًا في مشهد يعكس حجم الأزمة الاقتصادية التي خلفها النظام السابق.
وفي هذا الواقع الاقتصادي المتأزم، يجد السكان أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مرير، فمن جهة، هناك المصارف وشركات الصرافة المرخصة التي تعلن عن أسعار رسمية، لكنها في أغلب الأحيان تمتنع عن تنفيذ عمليات البيع أو الشراء، مما يفقدها دورها الوظيفي، ومن جهة أخرى، يقف صراف الشارع، الذي يوفر سيولة نقدية فورية، لكنه يفرض شروطه الخاصة، ويتحكم بالأسعار بعيدًا عن أي رقابة.
ويبدو أن ما يمنح هؤلاء الصرافين قوتهم هو قدرتهم على تقديم سعر للدولار أقل من السعر الرسمي بنحو 1500 ليرة سورية، وهو فارق يبدو مغريًا لكثير من المواطنين، لكنه في الحقيقة غلاف لاستغلال واضح وممارسات غير آمنة.
وتروي أم محمد، إحدى سكان دمشق، تجربتها قائلة: “اضطررت لبيع ما أملك من دولارات بسعر 11500 ليرة للدولار الواحد، عندما كان الدولار في المركزي بـ 13000 ليرة للدولار الواحد، وكان هذا أفضل سعر وجدته بعد بحث طويل بين صرافي الشوارع”.
حالها لا يختلف عن حال نضال، الذي فشل في تبديل عملته لدى شركات صرافة مرخصة مثل “الفؤاد” و”المتحدة” التي كانت تمتنع عن التصريف، لتفاجئه اليوم بعرض سعر يبلغ 9400 ليرة للدولار الواحد، وهو أقل بكثير من سعر البنك المركزي الرسمي البالغ 11000 ليرة.
ويقول نضال بمرارة: “بعد جدال طويل مع صراف في ساحة المحافظة، بعت الدولار بسعر 9500 ليرة، وعندما اعترضت، كان جوابه بسيطاً: إذا لم يعجبك السعر، اذهب وصرف من البنك المركزي”.
السوق السوداء: وخارطة طريق رسمية لإنقاذ الليرة
في مواجهة هذه الفوضى، تسعى الحكومة الجديدة لوضع حد للتلاعب واستعادة السيطرة على النظام المالي.
وفي مقابلة مع صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، كشف حاكم مصرف سوريا المركزي الجديد، عبد القادر حصرية، عن خارطة طريق طموحة لإعادة هيكلة السياسة النقدية وإنقاذ الاقتصاد المنهك.
وكانت أبرز بشائر هذه الخطة هي الإعلان عن إعادة ربط سوريا بنظام المدفوعات الدولي “سويفت” في غضون أسابيع، وهي خطوة مفصلية ستعيد دمج القطاع المصرفي السوري بالعالم بعد عزلة دامت أكثر من عقد.
وأوضح حصرية أن “البنوك والبنك المركزي قد حصلوا بالفعل على رموز سويفت، والخطوة المتبقية هي استئناف البنوك المراسلة معالجة التحويلات”، مؤكداً أن هذه الخطوة ستشجع التجارة الخارجية وتسهل عمليات الاستيراد والتصدير.
كما أشار المحافظ إلى خطة استقرار تمتد من 6 إلى 12 شهراً، بالتعاون مع وزارة المالية، تهدف إلى إنهاء إرث التدخلات الحكومية السابقة، وإصلاح قوانين البنوك، واستعادة قدرتها على الإقراض، وتحقيق الشفافية اللازمة لبناء الثقة.
وأحد أهم أهداف هذه الخطة هو توحيد أسعار الصرف عبر الانتقال إلى نظام “التعويم المُدار”، وإلغاء دور الصرافين في المعاملات التجارية الخارجية، الذين كانوا، بحسب حصرية، يقتطعون 40 سنتاً من كل دولار يدخل سوريا.
ما هو التعويم المدار لليرة السورية؟ وما هي مخاطره؟
“التعويم المُدار” هو نظام نقدي يتيح تحديد سعر صرف العملة من خلال آلية السوق (العرض والطلب)، مع احتفاظ البنك المركزي بحق التدخل عند الضرورة لتوجيه السعر أو الحد من تقلباته العنيفة.
ويعد هذا النظام أكثر مرونة مقارنةً بنظام تثبيت سعر الصرف الكامل، ويستخدم على نطاق واسع في العديد من الدول التي تسعى لتحقيق استقرار نقدي تدريجي، دون استنزاف احتياطاتها من العملات الأجنبية.
ويرى الأكاديمي والباحث في الشؤون الاقتصادية عباس رشيد كعده، إن تطبيق هذا النظام في الحالة السورية، لا يمكن فصله عن الواقع النقدي المعقد القائم حالياً، والذي ما زالت فيه السوق السوداء تلعب دوراً مركزياً في تحديد سعر الصرف، متفوقةً على القنوات الرسمية من حيث السرعة والجاذبية والانتشار.
ويؤكد كعده أن الثقة بالمؤسسات النقدية لا تزال محدودة للغاية، نتيجة تراكمات سابقة من القرارات العشوائية، وتجربة طويلة من تعدد أسعار الصرف التي أربكت السوق وأفقدت المركزي هيبته، كما لا توجد حتى اللحظة سوق شفافة أو منصة رسمية فعالة تستوعب الطلب الحقيقي على الدولار من المواطنين أو المستوردين، ما يجعل من التعويم حتى ولو مداراً خطوة محفوفة بالمخاطر إن لم يتم الإعداد لها بعناية فائقة.
ويشير إلى أن الدول تتجه نحو التعويم، سواء الكامل أو المدار، حين تواجه ضغوطاً اقتصادية حادة، مثل تآكل الاحتياطي النقدي، اختلال ميزان المدفوعات، أو فشل سياسة تثبيت سعر الصرف في تحقيق الاستقرار المطلوب.
لكن التعويم ليس وصفة جاهزة للنجاح، فهو يتطلب مؤسسات نقدية قوية، وقدرة على التدخل المحسوب والدقيق في السوق. وبدون ذلك، يتحول التعويم إلى تفلت في سعر الصرف لا يخضع لأي ضوابط، ما يعمّق الأزمات بدلاً من حلّها.
ويحذر كعده من أن الاتجاه نحو تطبيق تعويم مدار في سوريا، من دون أدوات تنفيذية واضحة وشفافة ومسبق إعدادها، قد لا يفضي إلى ضبط السوق كما يؤمل، بل على العكس، قد يزيد من تقلبات السوق ويدفع الليرة نحو مزيد من التراجع، خصوصًا إذا تم التدخل النقدي من المركزي بطريقة متأخرة أو ارتجالية.
ويرى أن التجربة قد تنزلق بسهولة إلى فوضى سعرية إذا لم تترافق مع خطوات تمهيدية شاملة، تشمل إصلاح البنية النقدية، وتعزيز الشفافية، وتوفير سيولة نقدية داخلية كافية، واستعادة ثقة المستثمرين والمواطنين بجدّية السياسات الجديدة.
اقرأ أيضاً: تعديلات جديدة على رسوم التأشيرات في سوريا.. ما الدوافع ومن المستفيد؟
حملات حكومية لتجفيف منابع السوق السوداء
لم تكتفِ السلطات برسم الخطط المستقبلية، بل تحركت على الأرض لضبط إيقاع الشارع، فخلال الأشهر القليلة الماضية، شنت الأجهزة الحكومية حملات واسعة النطاق استهدفت “بسطات الصرافة” في دمشق.
وبدأت الحملة بإنذارات شفهية من دوريات جوالة، سرعان ما تطورت إلى إجبار أصحاب هذه البسطات على إخلاء أماكنهم خلال 24 ساعة.
ويقول “أبو أحمد”، أحد الصرافين الجوالين: “اضطررت لممارسة عملي بشكل متخفٍ، أتنقل بين الصرافات الآلية والمكاتب العقارية، لكن الحركة تراجعت بشدة، وتمر أيام لا أبيع فيها دولاراً واحداً”.
هذه الحملات لم تأتِ من فراغ، بل كانت استجابة لحوادث احتيال وتزوير متكررة.
ويروي بلال، أحد المواطنين، كيف وقع ضحية ورقة مزورة من فئة الخمسين دولاراً اشتراها من أحد هؤلاء الصرافين، وهو ما يبرر، من وجهة نظر السلطات، ضرورة القضاء على هذه الظاهرة الخطيرة.
وبالفعل، أدت الحملات إلى انحسار شبه تام لبسطات الصرافة في الساحات الرئيسية كساحة المرجة والأمويين.
ولم تقتصر الإجراءات على الصرافين غير المرخصين، حيث أصدر مصرف سورية المركزي قرارات حاسمة بإلغاء تراخيص شركتي “الفاضل” و”المتحدة” للصرافة، في رسالة واضحة بأنه لا تهاون مع أي جهة تتلاعب بسوق الصرف.
اقتصاد طفيلي خارج السيطرة
يرى خبراء اقتصاديون أن هذه الظاهرة أوجدت ما يسمى “اقتصاد الظل” أو “الاقتصاد الطفيلي” الذي ينمو على حساب الاقتصاد الوطني.
الدكتور عمار يوسف، خبير اقتصادي، يحذر من أن هؤلاء الصرافين المنتشرين على الأرصفة ليسوا سوى واجهة لجهات تمويل خفية تضخ كميات هائلة من العملات لتحقيق أرباح طائلة، ويتساءل يوسف: “كيف يحصل هؤلاء على الدولار والليرة السورية معاً وبهذه الكميات الكبيرة؟”.
وتتمثل خطورة هذا النشاط في عدة جوانب، أبرزها انتشار العملات المزورة، وفقدان البنك المركزي قدرته على السيطرة الفعلية على سعر الصرف، الذي أصبح يمليه صغار الصرافين والمنصات الخارجية، كما أن هذه التجارة تحرم خزينة الدولة من عوائد ضريبية هائلة.
ويقترح الدكتور يوسف كحلول لهذه المشكلة ضرورة ترخيص هؤلاء الصرافين، ولو بشكل مؤقت، أو فتح نوافذ خاصة لهم ضمن المصارف لضمان سلامة العملات وربط نشاطهم بالبنك المركزي.
ومن جهته، يؤكد معروف أبو فاضل، صاحب مكتب صرافة معتمد، أن الحملات الحكومية أعادت جزءاً من الاستقرار للسوق النظامي، مضيفاً: “نحن كمكاتب مرخصة شعرنا بالارتياح، بعد أن شهدنا حوادث وصلت أحياناً إلى استخدام السكاكين بسبب خلافات مالية بين الزبائن والصرافين الجوالين”.
وبينما تمضي الحكومة في خططها الإصلاحية وحملاتها الأمنية، يبقى الشارع السوري هو الميزان الحقيقي لنجاح هذه السياسات.
فالمعركة ضد فوضى العملة ليست مجرد إجراءات إدارية، بل هي صراع لاستعادة ثقة المواطن بالاقتصاد الوطني ومؤسساته المالية.
فهل ستنجح خارطة طريق البنك المركزي في لجم السوق السوداء وإعادة الاستقرار لليرة السورية، أم سيبقى صوت صراف الشارع هو الأعلى، معلناً عن قواعد اللعبة التي يفرضها بعيداً عن أي رقابة أو قانون؟.. في المحصلة، هل سيخسر “المركزي” معركته أمام “السوداء”؟
اقرأ أيضاً: تراجع الحوالات المالية الخارجية 40%.. والداخل السوري يدفع الثمن!