الكاتب: أحمد علي
يبدو أن الحكايات لا تنتهي عند سقوط الزعماء المخلوعين من العرش، بل تبدأ فصولها الأكثر غموضاً في الظل، بعيداً عن عدسات الكاميرا وقاعات الحكم. فما إن يُخلع حاكم عن منصبه، حتى تطرح الأسئلة عن مصيره: هل انتهت سلطته فانهار معها كل شيء؟ أم أنه لا يزال يعيش مترفاً في مكان آخر، محاطاً بالامتيازات ذاتها ولكن دون سلطة؟ هذه التساؤلات عادت للواجهة مجدداً بعد تقرير نشرته إذاعة فرانس إنفو (France Info) الفرنسية، سلط الضوء على الحياة الغامضة التي يعيشها الرئيس السوري السابق بشار الأسد في العاصمة الروسية موسكو.
الزعماء المخلوعين: ماذا عن الأسد؟
بحسب التقرير، فإن الأسد يعيش منذ قرابة ستة أشهر في موسكو بعد خروجه من سوريا، وسط ظروف وصفت بأنها «مرفهة ومحمية للغاية»، في مكان خاص محاط برجال الأمن الروس وبإشراف مباشر من أجهزة المخابرات. لم يكشف التقرير عن الموقع تحديداً، لكنه أكد أن كل شيء مُراقب بعناية، من مدخل المقر إلى من يُسمح لهم بمقابلته، في مشهد أقرب إلى العزلة رفيعة المستوى، التي تجمع بين الرفاهية والقيود المحكمة.
اللافت في ما كشفته فرانس إنفو أن الأسد ليس في وضع «منفي» كما اعتادت الشعوب وصف الزعماء المطرودين من الحكم، بل هو في وضع أشبه بإعادة احتواء داخل حماية دولة حليفة، تُؤمّن له حياة مستقرة بعيداً عن الأعين، لكنها في الوقت ذاته تفرض عليه سياجاً أمنياً صارماً، يمنعه من الحركة بحرية أو التفاعل مع العالم الخارجي إلا ضمن شروط محددة. وهذه المفارقة بين الاستقرار والعزلة تعيدنا إلى تساؤل قديم يتجدد مع كل زعيم مخلوع: كيف تكون حياة الطغاة بعد سقوطهم؟
الشاه بهلولي
للإجابة، لا بد من العودة إلى تجارب سابقة شكلت نماذج مختلفة لمسارات ما بعد الخلع. والشاه الإيراني محمد رضا بهلوي، الذي أطيح به عام 1979 عقب الثورة الإسلامية في طهران، كان أحد أبرز الأمثلة على السقوط الحاد من قمة النفوذ إلى عزلة المنفى.
تنقل الشاه بين دول عدة، بدءاً من مصر والمغرب ووصولاً إلى الولايات المتحدة، لكنه لم يحظَ أبداً باستقرار حقيقي. في نيويورك، عاش داخل مزرعة صغيرة تحت ظروف صحية متدهورة بسبب إصابته بالسرطان، فيما كانت تحركاته خاضعة لحراسة ومراقبة دائمة، ومعزولة عن الحياة العامة، حتى وفاته في القاهرة.
الديكتاتور بينوشيه
أما الديكتاتور التشيلي أوغوستو بينوشيه، فقد أمضى سنواته الأخيرة في لندن بعد أن لاحقته قضايا انتهاكات حقوق الإنسان. ورغم أنه عاش في حي هادئ وكان يتمتع بمعاش تقاعدي كرئيس سابق، إلا أنه لم يكن يعيش في رفاه فاحش، بل في منزل متواضع نسبياً بالنسبة لمكانته السابقة، وكان حريصاً على الابتعاد عن الأضواء، مكتفياً بحياة أشبه بالتقاعد القسري.
زين العابدين بن علي
وفي التجربة العربية، برز الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي الذي فرّ إلى السعودية في كانون الثاني 2011 بعد ثورة الياسمين. ما يميّز حالته أنه عاش في كنف دولة عربية حليفة، وفّرت له إقامة مريحة للغاية في فيلا داخل مجمع سكني فاخر يخص العائلة المالكة، مع رعاية طبية عالية المستوى وحياة أسرية شبه طبيعية. ورغم أنه لم يظهر للعلن، فإن التقارير تؤكد أنه عاش حياة كريمة ومترفة نسبياً مقارنةً بغيره، حتى وفاته في 2019.
اقرأ أيضاً: عبر أربع رحلات بطائرة مستأجرة.. كيف هرّب بشار الأسد الأموال قبل فراره؟
الأسد في قفصه الذهبي!
من خلال استعراض هذه النماذج، نلاحظ أن الظروف تختلف جذرياً تبعاً لهوية الدولة المستضيفة، وطبيعة العلاقات السياسية السابقة، وحجم الملفات الجنائية أو القضائية التي تلاحق الزعيم المخلوع. ففي حين عانى الشاه من ضغط صحي ونفسي كبير، وتمت ملاحقة بينوشيه قضائياً خارج بلاده، عاش بن علي حياة مريحة نسبياً، لكن تحت سقف صمت طويل. أما الأسد، إذا ما صحّت التقارير، فيبدو أنه ينتمي إلى تصنيف جديد: زعيم مخلوع يعيش في عزلة ذهبية، ترعاه قوة دولية نافذة، تحميه وتسيطر عليه في آن معاً.
وهنا، يصبح السؤال أكثر تعقيداً من مجرد الحديث عن حياة مرفهة أو بائسة، إذ إن حياة بشار الأسد في موسكو، وفقاً لما كشفته فرانس إنفو، تبدو مصمّمة بعناية كي لا تُفسَّر لا كمنفى قسري ولا كحرية مطلقة، بل كصفقة حماية مشروطة تحفظه من الملاحقة لكنها تجرده من هامش المبادرة أو القرار. هو ليس طليقاً، لكنه ليس سجيناً أيضاً. يعيش على أطراف المسرح السياسي العالمي، منتظراً ما ستؤول إليه أوراق القوى الكبرى، وربما ما سيُكتب له في صفحات التاريخ.
وهكذا، يتضح أن المخلوعين لا يعيشون جميعاً في رفاه دائم بعد خلعهم، لكن بعضهم، مثل الأسد، قد يحظى بمنفى مخملي يوفر له الأمان، ولو كان الثمن هو العزلة الكاملة. إنها معادلة لا يحظى بها الجميع، وكما يبدو، فإنها تبقى مرتبطة بتعقيدات التحالفات الجيوسياسية أكثر من كونها مكافأة على حكم سابق.
اقرأ أيضاً: ماذا يعني شطب سوريا من قائمة «الدول المارقة»؟!