شهدت سوريا تغييرات كبيرة بعد سقوط النظام السابق في ديسمبر 2024، عقب حرب استمرت أكثر من عشر سنوات. وعلى الرغم من الأوضاع الاقتصادية الصعبة والدمار الواسع في البنية التحتية والقطاعات الإنتاجية، بدأت الحكومة الجديدة في التحرك نحو الانفتاح الاقتصادي من خلال مفاوضات مع دول وشركات عربية ودولية لعقد اتفاقيات استثمار.
ويتركز هذا الحراك بشكل خاص في مجالات الطاقة والموانئ والخدمات المالية، ضمن جهود أولية لإطلاق عملية إعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد.
ومع ذلك، تشير تقارير المؤسسات المالية العالمية إلى استمرار التحديات وتعقيد المشهد الاقتصادي، مما يجعل تحقيق التعافي السريع أمرًا غير مؤكد في الوقت القريب.
التوجهات الغربية: عودة حذرة أم انفتاح جديد؟
لعل أبرز هذه التطورات هو إعلان الحكومة السورية عن توقيع أول اتفاقية استثمارية دولية كبرى منذ انتهاء حقبة النظام السابق.
فقد وقعت اتفاقية مع شركة الشحن والخدمات اللوجستية الفرنسية العملاقة (CMA CGM) لتطوير وتشغيل ميناء اللاذقية على البحر المتوسط لمدة ثلاثين عاماً.
وتعد هذه الخطوة مؤشراً قوياً على بداية مرحلة جديدة من الانفتاح الاقتصادي بعد سنوات من العزلة الدولية والحرب.
وتشمل الاتفاقية، التي وقعت في دمشق، استثماراً أولياً بقيمة 230 مليون يورو (نحو 260 مليون دولار أميركي)، سيخصص جزء كبير منه لتحديث البنية التحتية للميناء وإنشاء رصيف جديد بعمق 17 متراً، ما سيمكن الميناء من استقبال سفن الحاويات العملاقة للمرة الأولى.
وبحسب مصادر إعلامية، ستبدأ الشركة بضخ 30 مليون يورو في العام الأول، على أن تتبعها استثمارات إضافية بقيمة 200 مليون يورو خلال السنوات الخمس الأولى.
وتهدف هذه الاستثمارات إلى تحويل ميناء اللاذقية إلى مركز لوجستي إقليمي يربط بين الشرق الأوسط وأوروبا.
وتعود علاقة الشركة الفرنسية بالميناء إلى عام 2009، لكن الاتفاقية الجديدة تأتي بعد إعادة تفاوض من قبل الحكومة الجديدة لتعديل البنود بما يتناسب مع أولويات مرحلة إعادة الإعمار.
وينظر إلى هذا العقد كأول استثمار أجنبي مباشر كبير في سوريا منذ أكثر من عقد، ويعكس تحسناً تدريجياً في العلاقات الدولية وتغيراً في بعض المواقف الغربية بعد نهاية الحرب وبدء المرحلة الجديدة.
وينص الاتفاق على تقاسم العائدات بنسبة 60% لصالح الدولة السورية و40% لصالح الشركة الفرنسية، مع إمكانية المراجعة مستقبلاً.
إلى جانب ذلك، استقبل وزير الطاقة السوري وفداً يمثل شركة “غولف ساند” البريطانية لبحث سبل إعادة تفعيل الاستثمار في القطاع النفطي الذي شهد تراجعاً حاداً منذ عام 2011.
فقد انخفض إنتاج النفط اليومي من 385 ألف برميل إلى نحو 110 آلاف برميل حالياً، فيما تراجع إنتاج الغاز الطبيعي من 30 مليون متر مكعب يومياً إلى نحو 9.1 ملايين متر مكعب.
ويظهر الاهتمام البريطاني، وإن كان في مرحلة المباحثات، رغبة محتملة في استكشاف فرص العودة إلى هذا القطاع الحيوي.
اقرأ أيضاً: سوريا تعود إلى خارطة السفر الإقليمية.. وقفزة نوعية في تصنيفات 2025
الدعم العربي: جسر للتعافي الاقتصادي؟
على الصعيد العربي، تتواصل الجهود لدعم الاقتصاد السوري، فقد بحث نائب الرئيس الإماراتي الشيخ منصور بن زايد مع وزير المالية السوري وحاكم مصرف سوريا المركزي سبل تعزيز التعاون الثنائي في المجالات المالية والتجارية.
وتأتي هذه المباحثات في إطار متابعة لزيارة الرئيس السوري إلى أبوظبي قبل أسابيع، والتي تناولت تعزيز العلاقات المشتركة.
وفي خطوة ذات دلالة، أعلنت كل من المملكة العربية السعودية ودولة قطر عن تسديدهما الديون المستحقة على سوريا للبنك الدولي، والتي بلغت نحو 15 مليون دولار.
وقد عبرت الخارجية السورية عن تقديرها لهذه المبادرة، التي تساهم في تخفيف بعض الأعباء المالية وتمهد ربما لمسارات دعم أخرى.
التعاون الإقليمي: تركيا وأذربيجان على خط الطاقة
لا يقتصر الحراك على الدول الغربية والعربية، بل يمتد ليشمل الجوار الإقليمي، فقد بحث وزير الطاقة السوري مع نظيره الأذربيجاني تعزيز التعاون في مجالات الطاقة، من بينها توريد الغاز والطاقة المتجددة وتبادل الخبرات.
وكشف الوزير السوري أيضاً عن محادثات متقدمة مع تركيا لاستجرار الكهرباء عبر خط بجهد 400 كيلو فولت، والعمل على إنشاء خط غاز طبيعي بين كيليس التركية وحلب، بهدف توريد نحو 6 ملايين متر مكعب من الغاز يومياً لمحطات توليد الكهرباء في سوريا، ما يمكن أن يساهم في تحسين وضع الطاقة.
كما يجرى العمل على خط طاقة آخر بين الريحانية التركية ومنطقة حارم السورية لنقل نحو 80 ميغاواط من الكهرباء إلى شمال سوريا.
وتطرقت المباحثات إلى فرص التنقيب عن الغاز الطبيعي في المياه الإقليمية والمعادن مثل الفوسفات والليثيوم، مع دعوة الشركات التركية للاستثمار في مختلف مجالات الطاقة.
الاستثمار المحلي والمغترب: رؤوس أموال سورية تعود
لا تقتصر جهود جذب الاستثمار على الخارج، بل تشمل أيضاً استقطاب رؤوس الأموال السورية المغتربة.
وفي هذا السياق، زار وفد من رجال وسيدات الأعمال السوريين المقيمين في كندا المدينة الصناعية بحسياء للاطلاع على البيئة الاستثمارية وبحث إمكانية إقامة مشاريع صناعية.
وتسعى الإدارة إلى تسليط الضوء على مزايا المدينة من حيث الموقع والبنية التحتية والتسهيلات الإدارية.
ويضم الوفد متخصصين في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والتطوير العقاري وصناعة الطيران، ما يفتح آفاقاً جديدة للقطاع الصناعي.
وتشكل هذه الزيارة خطوة أولى ضمن سلسلة لقاءات تستهدف تشجيع المستثمرين السوريين في الخارج على المساهمة في إعادة بناء الاقتصاد الوطني.
اقرأ أيضاً: ما المكاسب المحتملة لسوريا من مشاركتها في اجتماعات الربيع 2025؟
تحديات ما بعد الأزمة: اقتصاد منهك وآفاق غير واضحة
على الرغم من هذه التطورات الإيجابية، يظل الواقع الاقتصادي في سوريا بالغ الصعوبة.
فوفقاً لصندوق النقد الدولي، انكمش الاقتصاد السوري بنحو 60% منذ عام 2011، وتحذر المؤسسة الدولية من أن هشاشة المؤسسات واستمرار الاختلالات الكلية يضعان البلاد في مسار بالغ الصعوبة.
ويتفق البنك الدولي مع هذا التقييم، متوقعاً انكماش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 1% في عام 2025، بعد تراجع بنسبة 1.5% في 2024.
ويعزو البنك هذا الانكماش إلى استمرار الاضطرابات الأمنية، واحتمالات انقطاع إمدادات الطاقة، فضلاً عن شح السيولة ونقص التمويل.
وتظهر الأرقام الصادرة عن المؤسسات الدولية تفاقم معدلات الفقر المدقع، حيث وصل إلى نحو 74.8% من السكان في عام 2025.
كما تعاني البلاد من تآكل شبه كامل للبنية الإنتاجية وتراجع قدرة القطاع العام على تأمين الخدمات الأساسية.
وحتى مع التوقعات بتراجع معدل التضخم نسبياً، ينظر إلى ذلك كمؤشر على استقرار مدفوع بتراجع الطلب المحلي والقدرة الشرائية أكثر منه تحسناً هيكلياً.
وتشكل عودة اللاجئين والنازحين، وإن كانت مرحباً بها وطنياً، ضغطاً فورياً على الموارد المحدودة، رغم أنها قد تساهم في تحريك بعض الأنشطة الاقتصادية على المدى المتوسط إذا ما اقترنت ببرامج دعم إنتاجية وتمويلات صغيرة.
ويشير الخبراء إلى أن غياب الإحصاءات الرسمية الدقيقة يعقد تقدير حجم الأزمة، وأن الأرقام الدولية قد تكون أقل تشاؤماً من الواقع في المناطق الأكثر تضرراً.
ويرى البعض بأنّ الانتقال إلى اقتصاد السوق الحر، المصحوب بسياسات شفافة وتدفق استثمارات خارجية، هو المسار الوحيد للتعافي، وهو مسار لا يزال يواجه عقبات كبيرة، أبرزها تأثير العقوبات المستمر رغم تخفيفها على بعض القطاعات، وتجميد الأصول، ومحدودية الوصول إلى النظام المصرفي العالمي.
ويبقى التحدي الأكبر هو كيفية تحويل هذه المبادرات الأولية والاتفاقيات الناشئة إلى زخم حقيقي قادر على إحداث فرق ملموس على أرض الواقع، في ظل اقتصاد منهك وبنية تحتية مدمرة وقطاعات حيوية تحتاج إلى استثمارات ضخمة وجهود إعادة بناء تتجاوز بكثير ما هو مطروح حالياً.