نقابة المهندسين في سوريا، بعد مرحلة خدمية واستثمارية شحيحة في البلاد، تطرح خطتها الاستثمارية الجديدة التي تستهدف الكفاءات الخارجية لاستقطابها، وتضع نصب أعينها كفاءات الداخل وتحسين أوضاعهم، فهل ستنجح هذه الخطة بالاستقطاب والتحسين؟ لاسيما أن هاجس السفر لازال يخيم على مهندسي سوريا إما بسبب الأوضاع المعيشية، أو بسبب الواقع الاستثماري المتراجع، أو بسبب غياب – حتى الآن – أي جانب من جوانب التطور العمراني الذي يحاكي أساليب البناء الحديثة، مما يقوض خبراتهم ويجعلهم تقليديين في التخطيط والبناء ويحد من قدراتهم على التقدم.
في إعلان صادر عن نقيب المهندسين في سوريا، أن النقابة في إطار العمل الحالي على إنجاز مجموعة من الأنظمة والقوانين التي من شأنها أن تسهل عمل المهندسين العائدين من الاغتراب وتحسن من أوضاع مهندسي الداخل وتطورهم، فهل سيصلح “العطار الاستثماري الجديد” ما أفسده الصراع وسنواته؟
واقع المهندس السوري من سنوات وحتى الآن، ونقابة المهندسين تحصي أعداد المنتسبين
صراع طويل هدم العمران والأحلام. في مختلف دول العالم المهندسين من الفئات المتقدمة والنشطة في المجتمع وتقود هذه الفئة بلدانها إلى مصافي الدول المتقدمة من حيث أساليب البناء الحديثة المتطورة والمريحة، بدعم لا محدود من نقاباتهم وبمردود مالي يناسب جهودهم. أما سوريا فالكفاءات مهدرة رغم كثرتها، حيث يسعى معظم الخريجين الجدد في كليات الهندسة السورية إما للسفر أو الهجرة. وفي حال لم يحالفهم الحظ، يحتمون باستقلاليتهم ويجنحون خارج التعاقد مع المؤسسات الحكومية.
في حين أن الإحباط يغزو المهندسين وينهش عقولهم ويحد من قدراتها، النقابة تحصي أعدادهم فقط، فقد قدرت النقابة نسبة أعضائها العاملين في مؤسسات الدولة والذين يتقاضون رواتبهم بشكل شهري بحدود 80% من أصل المهندسين من كل الاختصاصات.
وحسب إحصاءات نقابية في العام 2024، فإن أكثر من 67 ألفاً من المهندسين السوريين هم أعضاء في النقابة حتى نهاية عام 2021، وكانت التوقعات بارتفاع العدد إلى 73 ألفاً مع نهاية حزيران من العام الماضي 2024. ووفقاً لمهندسين، فإن حوالي نصف هؤلاء قد انفكوا أو استقالوا أو غادروا من دون تبليغ للنقابة. وحال الخريجين الجدد يصدح بمحاولات التهرب من التسجيل في النقابة، أو التعاقد مع مؤسسات الدولة، أملاً في فرص مجدية في القطاع الخاص أو خارج البلاد.
بينما يرى آخرون أنه ومع تعثر وانسداد الأفق وفرص السفر والعمل المجدي اضطرت فئات من المهندسين السوريين للاستلام إلى واقع الحال وراحت تبحث عن أعمال تحقق لها مورداً معيشياً يفي بمتطلبات الحد الأدنى للمعيشة الصعبة وضمن الإمكانات المتاحة، فبعضهم وجد الفرصة في مجال التعليم وآخرون في المحاسبة وغيره من الفرص الضئيلة التي تؤمن لهم الحد المقبول من العيش.
وفي تصريح حصري «لسوريا اليوم 24» قالت المهندسة المدنية نغم حيدر من فرع نقابة المهندسين في اللاذقية: “أن النقابة في السنوات الماضية لم تؤمن لنا فرص عمل لا بالجهات الحكومية ولا حتى بالخاصة، ولم تؤمن لنا فرص تدريبية كافيه، وأن الرَسم الذي يدفع بشكل سنوي للنقابة لا مقابل له من خدمات أو تدريب أو تطور”.
ولم يقدم فرع النقابة على حد قولها أي رحلات ميدانية يمكن الاستفادة منها، أو أي من الفعاليات التي من الممكن أن تسهل انخراطهم بسوق العمل.
وأضافت: “رغم عقد النقابة لاجتماعات تناقش ظاهرة جديدة في البناء، إلّا أنها غير كافيه وغير مثمرة ولا تتعدى سرد المعلومات دون توجيه لآلية التطبيق أو المساهمة في تجريب تلك الآليات”.
وفي ظل الإحباط الذي يعيشه المهندسون السوريون، صرح المهندس المدني ياسر العلي لأحد المواقع أن “واقع المهندس السوري بكافة الاختصاصات أصبح مزرياً ويستحق الشفقة بعدما كان يُصنف من الفئات الأكثر إنتاجاً واستقراراً، وأن مشاريع الإنشاء والإعمار هي العمود الفقري لعمل كل مهندس ولغالبية الاختصاصات في البلاد، وهذه أصبحت عملة نادرة في معظم المناطق، وانحصرت في بعضها كالعاصمة دمشق وريفها دون غيرها”.
تصريحات المهندسين تعكس الواقع المرير المعاش من قبلهم، وما هي إلا تجسيد للتهميش والإهمال من قبل نقابة المهندسين على مدى السنوات الماضية، فهل النقابة اليوم وبعد التحرير ستغير من استراتيجية عملها وتستقطب كفاءات الداخل وتحتويهم مثلما تسعى لكفاءات الخارج؟
اقرأ أيضاً: انفتاح اقتصادي متسارع بين سوريا وتركيا: مصالح مشتركة في جهود إعادة الإعمار
المؤتمر العام لنقابة المهندسين بدورته ال 46 العام الماضي ناقش واقع المهنة
وكان المؤتمر العام للمهندسين الذي عقد في شهر حزيران من العام الماضي، قد رفع سقف الاستفادة من صندوق تكافل المهندسين إلى مليونَي ليرة سورية، مع رفع الاستفادة من صندوق نهاية الخدمة والوفاة إلى 3 ملايين ليرة سورية، ورفع الراتب التقاعدي إلى حدود 330 ألف ليرة.
ونرى أن مجموع ما تحصل عليه عائلة المهندس عند الوفاة لا يتعدى مبلغ 5 ملايين ليرة سورية، وهو لا يكفي لمعيشة العائلة مدة شهر واحد، والراتب التقاعدي لا يطعم عائلة لمدة يومين، فالمهندس السوري الذي بذل كل جهده للتفوق في سنوات الدراسة، وكلف عائلته مبالغ طائلة قبل الحصول على الشهادة، وجد نفسه أمام سياسة تُشجع على انحدار التعليم والتخصص وتمحي أي بوادر للتشجيع على التخطيط والإعمار.
اقرأ أيضاً: سوريا تنهض: مشاريع لإعادة بناء القطاع الصحي في إدلب
النقابة وخطتها الاستثمارية الجديدة، هل من إنقاذ للواقع؟
قال نقيب المهندسين مالك حاج علي، في تصريح لوكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا): “إنه تم تشكيل (لجنة الاستثمار) ضمن النقابة، مهمتها التواصل مع المستثمرين السوريين، والعرب، وتأسيس شراكات حقيقية معهم”.
وصرح أن من أعمال هذه اللجنة ومهمتها، تندرج ضمن إعداد دراسة جدوى اقتصادية للمشاريع الاستثمارية المملوكة لخزانة تقاعد المهندسين، وعرض بعضها للاستثمار، بما يعود بالنفع على المهندسين، ويؤمّن فرص عمل حقيقية لهم، حسب تعبيره.
والنقابة ضمن خطتها الجديدة، تقوم بوضع المواصفات والشروط الفنية للأعمال الهندسية، وتنسق مع الكليات والمعاهد الهندسية في الجامعات السورية، والمدارس المهنية، لجهة خطط التعليم الهندسي وتقديم المقترحات بشأن المناهج الدراسية.
وبرأي النقيب أنها تساهم في تطوير أداء القطاع العام، وتعزز دوره في خطط التنمية، وتعد مشاريع القوانين والأنظمة المتعلقة بمهنة الهندسة، وأنظمة البناء، والتخطيط الإقليمي والعمراني.
وصرّح أن عدد المهندسين السوريين المنتسبين إلى النقابة يبلغ 207,351 مهندساً ومهندسة، من جميع الاختصاصات، وأن النقابة حريصة على توفير مجالات العمل لهم، وتعمل على تحسين أحوالهم المادية والاجتماعية، وترعى مصالحهم.
وأنها تقدم خدماتها لهم من خلال وسائل متعددة، مثل صناديق الضمان الصحي، التكافل، الوفاة، الشيخوخة، نهاية الخدمة، التسلي. وقد لمسنا في التصريحات السابقة للمهندسين عدم رضاهم الفعلي عن تلك “الامتيازات” مطالبين النقابة بالنظر بأوضاعهم وإيجاد حلول واقعية جذرية لأحوالهم المهنية وبالتالي الاجتماعية.
وبنظر النقيب، تعمل النقابة على تشجيع المبادرات والمواهب الهندسية، ورعاية المبدعين وتشجيعهم، ودعم الدراسات العليا، والبحث العلمي الهندسي، وحماية حقوق المؤلفين والمخترعين من العاملين في حقل الهندسة، والتعاون مع المنظمات الهندسية العربية والدولية، في جميع المسائل المتعلقة بمهنة الهندسة.
وأضاف: “أن النقابة تعمل على تدريب وتطوير الأطر الهندسية، من خلال دورات تعليمية وتدريبية للمهندسين، بالتعاون مع كليات الهندسة والجهات العامة ذات العلاقة، والاتحادات والهيئات الهندسية العربية والدولية، إضافة إلى تنظيم تبادل المعلومات والآراء العلمية، عن طريق نشر الدراسات والمؤلفات، والاشتراك بالمؤتمرات والندوات والمحاضرات الهندسية والعلمية، داخل الجمهورية العربية السورية وخارجها”.
وعند سؤال المهندسة نغم حيدر عن رأيها بتصريحات النقيب أجابت: “بسبب ما عانيناه في السنوات الماضية من الوعود التي تم إطلاقها ولم ينفذ منها شيء، تبقى هذه التصريحات وعوداً حتى يتم تنفيذها ولمسها على أرض الواقع، وأضافت: “الخطط كثيرة ولكننا لم نلمس أي تنفيذ”.
كما أرادت المهندسة توجيه رسالة للنقابة مفادها: تحسين أوضاع مهندسي الداخل وربطهم بسوق العمل، وبشركات خاصة وبمكاتب خاصة، وأن تفرض النقابة على حد تعبيرها على كل مكتب أن يدرب مجموعة من المهندسين حديثي التخرج، وأن تقدم رحلات ميدانية لأماكن بناء جديدة ولا مانع من دفع أجور رمزية لقاء ذلك، فقط في سبيل اكتساب الخبرات، كما أن على النقابة من وجهة نظرها أن ترفد القطاع العام والمؤسسات الحكومية بالمهندسين كلّ حسب اختصاصه وفي مكانه الصحيح.
ختاماً، على نقابة المهندسين في سوريا ردم الهوّة بينها وبين مهندسي الداخل، والعمل على ربط تصريحاتها بالواقع وتنفيذها. فمن خلال عرض تصريحات نقيب المهندسين لم نرَ ملامح خطة استثمارية واضحة وتحديداً بما يتعلق باستقطاب كفاءات الخارج؟!
هل ستبقى التصريحات في الهواء كما العهود السابقة أم ستجد الخيط الذي يربطها بالواقع بقادم الأيام، وتنسج كل تلك الأحلام واقعياً وبمظهر عمراني متطور وحديث، وواقع مهني ميسور ومقدّر للمهندسين.
اقرأ أيضاً: ماذا يتضمن النظام الجديد للاستثمار في المدن الصناعية وما هي أهدافه؟!
