تعيش سوريا، منذ أكثر من عقد، على أطلال خبرات قديمة دون أن تنجح في تطوير قدرات شبابها واستثمار طاقاتهم بالشكل الأمثل. ففي الوقت الذي كانت فيه دول عديدة تقدّر هذه الطاقات، وتسعى لتدريبها وتوظيفها في مختلف مفاصل الدولة، كانت سوريا تعاني من هجرة الشباب إلى الخارج. أما من بقي منهم، فلم يكن يفكر إلا في تأمين قوت يومه، مجبرين أن يكونوا بعيدين عن أفق التطوير والاستقرار اللازم له.
وسط هذه الظروف، عُلّقت آمال كبيرة على مؤتمر الشباب الأول من نوعه في مدينة دير الزور، برعاية إدارة الشؤون السياسية في المدينة. جمع المؤتمر طيفاً واسعاً من فئات الشباب، ناقش أفكارهم، استمع إلى طموحاتهم، وفتح المجال أمام خمس ورشات تناولت القضايا السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، في مشهد غمرته الحماسة والجدية، عاكساً استعداد الشباب لتحمّل مسؤوليات المرحلة، وبذل الجهد في سبيل التغيير.
وقد تصدّر ملف إعادة الإعمار أجندة المؤتمر، خاصة في ظل حضور نشطاء حقوقيين، ومهندسين، وطلاب جامعات من مختلف التخصصات.
أسفر المؤتمر عن جملة من التوصيات، أبرزها التأكيد على أن دير الزور شريك أصيل في الثورة السورية، وأن شبابها جزء لا يتجزأ من مشروع بناء الدولة الحرة، والدعوة لدعم المبادرات الشبابية في المحافظة، وتمكينها من العمل بحرية بعيداً عن التهميش والتقييد، والسعي لخلق بيئة تعليمية ومهنية عادلة، توفّر فرصاً متكافئة للنمو والتطور، بالإضافة إلى دعم المشاريع الاقتصادية الصغيرة، وفتح مجالات التدريب والتأهيل المهني والتقني، وتعزيز الوعي الثقافي والسياسي من خلال برامج تنموية وتدريبية هادفة.
كما طالب المؤتمر الجهات المعنية بإشراك شباب دير الزور في مؤسسات المجتمع المدني والإدارات المحلية، وربطهم بسوق العمل الرقمي، وتمكينهم من أدوات العصر، إلى جانب إحياء القيم الوطنية الجامعة، وتفعيل الحوار بين مكونات المجتمع لبناء الثقة وتعزيز السلم الأهلي.
ومع هذه النتائج، قد يتبادر إلى الأذهان سؤال جوهري: كيف تنجح دول، عربية أو أجنبية، في تمكين شبابها ودعمهم، وإنتاج جيل قادر على مواكبة متغيرات العصر؟ في هذا السياق، تبدو التجربة السعودية الأقرب إلينا والأجدر بالاهتمام.
اقرأ أيضاً: تعيين أحمد سفيان بيرم مسؤول عن الابتكار والشركات الناشئة، لكن من هو بيرم؟
التجربة السعودية في تمكين الشباب
لا يمكن إنكار أن المملكة العربية السعودية باتت من الدول الرائدة في الشرق الأوسط في ملف تمكين الشباب، وقد أدركت أن هذا التمكين يبدأ بتوفير برامج تدريبية، وشراكات استراتيجية داخلية وخارجية. ومن خلال استعراض أبرز ملامح هذه التجربة، يمكننا استلهام ما يناسب واقعنا السوري في هذه المرحلة المفصلية من إعادة البناء.
اعتمدت السعودية خطة زمنية واضحة ضمن “رؤية 2030″، خصّصت أهدافاً محورية لتمكين الشباب، انطلاقاً من قناعة بأن استثمارهم اليوم يصنع قادة المستقبل، ولهذا أطلقت برنامج “تنمية القدرات البشرية (HCDP)”، الذي ركّز على تحسين جودة التعليم والتدريب، ومواءمة المهارات مع سوق العمل المتغير، وترسيخ ثقافة التعلم مدى الحياة. وقد شملت إنجازاته تحديث المناهج التعليمية للتركيز على مهارات العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات (STEM)، إلى جانب المهارات الرقمية، وإقامة شراكات مع جامعات عالمية مرموقة لتوفير فرص تعليم عالٍ متقدّمة.
وفي بلد يقوم اقتصاده على نشاط القطاع الخاص، كان لا بد من تمكين ريادة الأعمال، فدعمت المملكة الشركات الناشئة، وأطلقت منصات مثل “منشآت” لتقديم الموارد والتمويل والإرشاد، بالإضافة إلى إنشاء حاضنات ومسرّعات أعمال لتحفيز الابتكار.
ومن هنا ندرك أن الشباب، مهما تعددت البرامج والتدريبات، يحتاجون إلى تمويل فعلي لإطلاق مشاريعهم. لذا أنشأت السعودية برامج تمويل عبر مؤسسات مالية تقدّم قروضًا ومنحًا مخصصة لرواد الأعمال الشباب. وتجدر الإشارة هنا إلى أن سوريا امتلكت سابقاً نماذج مشابهة، كقروض المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي دعمت الكثير من المبادرات الشبابية.
ولم تُغفل السعودية تمكين المرأة، بل خصّصت لها برامج نوعية، وسعت إلى رفع نسبة مشاركتها في سوق العمل إلى 30% بحلول عام 2030، وقدّمت دعماً خاصاً لرائدات الأعمال من خلال منح وتوجيه مهني.
لكن كل تلك البرامج ما كانت لتثمر لولا تهيئة الأرضية المناسبة، وأولها إصلاح منظومة التعليم لتتوافق مع رؤية 2030، مع التركيز على محو الأمية الرقمية، وتعزيز مهارات التفكير النقدي، وتوسيع نطاق الوصول إلى منصات التعلم الإلكتروني مثل “مدرستي”، والشراكة مع شركات تكنولوجيا تعليم عالمية.
وعلى صعيد التدريب المهني، أنشأت السعودية مراكز تخصصية في مختلف المدن، ركّزت على قطاعات تحتاجها الدولة، مثل الطاقة المتجددة، والتحول الرقمي، والخدمات اللوجستية، إلى جانب برامج تدريب داخلية بين القطاعين العام والخاص، لإتاحة تجارب مهنية حقيقية للشباب.
ولعل أبرز ما يعكس جدية السعودية في هذا الملف هو استثمارها في مشاريع كبرى مثل نيوم، والقدية، ومشروع البحر الأحمر، إذ استُخدمت هذه المشاريع لتوظيف وتدريب الشباب في مختلف المراحل، من التخطيط إلى التنفيذ، في مجالات تشمل التكنولوجيا والهندسة والترفيه والسياحة، إضافة إلى تطوير المدن الذكية باستخدام الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء.
تؤكد الأرقام هذا التوجّه، إذ تُظهر تقارير أن 76% من الشباب السعودي ينظرون إلى الحكومة كمحرك إيجابي للتغيير، ما يعكس ثقتهم برؤية 2030 وارتباطهم بأهدافها الوطنية.
ختاماً، التجربة السعودية نموذج جدير بالاستفادة منه، خاصة في هذه المرحلة التي تمر بها سوريا، حيث نحتاج إلى استقطاب الخبرات، من الخارج والداخل، لتدريب شبابنا وتمكينهم، ولا يقل تطبيق مخرجات المؤتمرات أهمية عن عقدها، فالشباب السوري لم يعد يكتفي بالكلام النظري، بل بات بحاجة إلى حلول عملية تفتح له أبواب التطور الحقيقي في تعليمه وعمله وحياته.
اقرأ أيضاً: سوريا في عيوننا; مبادرة لدعم مواهب الشباب