المجتمع السوري

منظمات المجتمع المدني في سوريا: من الظل إلى المشاركة الوطنية

بقلم: ريم ريا

في سوريا، حيث كانت الأحلام مؤجلة والحرب قائمة، برزت منظمات المجتمع المدني كمنافذ آمنة ومساحات ضوء صغيرة تَقشع العتمة. ليست شعارات براقة تخرج من الأفواه ومؤسسات باردة لا حراك فيها، بل هي أيادٍ ممدودة للناس ومنتشلة لهم، وحاضنة لأوجاعهم. حاولت أن تعيد هذه المنظمات للإنسان السوري كرامته في وطن ممزق، مُزقت فيه الإنسانية والقيم وأثقلته سنوات الحرب.

من بين الركام وأصوات القصف ونحيب النزوح عملت تلك المنظمات، وكانت جسر الأمل بين هاوية الموت وخيط الحياة.. في هذا المقال سنعرض مراحل منظمات المجتمع المدني وبنيتها التنظيمية، وكيفية عملها بعد التحرير، وأين هي اليوم، كما سنطرح ما الفرق بين المجتمع المدني كمنظمات NGOs وكمجتمع أهلي civil society.

ما الفرق بين المجتمع المدني كمنظمات NGOs وكمجتمع أهلي civil society

بداية وقبل أن نستفيض بالحديث عن المنظمات في سوريا، علينا توضيح الفرق بين المجتمع المدني كمنظمات والمجتمع الأهلي، فعند الحديث عن المنظمات الإنسانية أو الإغاثية كثيراً ما يَجنح الناس بتفكيرهم للمجتمع الأهلي أو المحلي.

المجتمع المدني له فضاء أوسع ويجمع كل أشكال التنظيمات والعلاقات التي يبنيها الناس خارج إطار الدولة والأسرة، مثل النقابات المهنية والجمعيات الأهلية والروابط المجتمعية والحركات الاجتماعية ومختلف الأنشطة التطوعية غير الرسمية.. ما يعكس الطابع الأهلي والشعبي للتنظيم الاجتماعي.

أما المنظمات غير الحكومية NGOs فهي جزء من هذا المجتمع، لها طابع رسمي وتنظيم مؤسسي، وعملها عادةً يتركز في مجالات التنمية وحقوق الإنسان والإغاثة والخدمات الاجتماعية.. يكون تمويلها إما محلي أو دولي وتكون خططها وبرامجها واضحة. بشكل مبسط: المجتمع المدني هو الإطار الأوسع والأكثر تنوع، أما المنظمات غير الحكومية فهي شكل مؤسسي داخل هذا الإطار الواسع.

البنية القانونية للمنظمات في سوريا

هذه المنظمات ليست محدثة في سوريا، بل كانت نشطة منذ أفول الدولة العثمانية، زاد نشاطها مع تراجع دور السلطة المركزية خلال مرحلة الحكم العثماني مع تعاظم دور الجمعيات القومية تحديداً العربية منها. وقد تم اعتماد القانون الأساسي الثاني عام 1909 لقانون تنظيم الجمعيات فَنُظّم العديد منها.

أما مع الانتداب الفرنسي، عمد الانتداب لاستصدار قرارات تنظيمية إضافية لقانون الجمعيات كي يستحوذ على الحركة الوطنية السورية، فنّص أول دستور للدولة السورية 1930 على ضرورة حفظ حق تشكيل وتأسيس الجمعيات السورية.

بعد الاستقلال نص دستور عام 1950 على حق السوريين في تأليف الجمعيات، وجاء قانون رقم 47 لعام 1953 ليكون أول قانون للجمعيات السورية. أما مع قدوم البعث للسلطة زادت الرقابة والقيود على تلك المنظمات فعُدّل قانون الجمعيات في مرسوم تشريعي يحمل الرقم 224 للعام 1969، حتى اندلاع الثورة في 2011 ليضيف عندها الأسد الابن مواد دستورية جديدة هي 10 و45 كجزء من الاستجابة لمتطلبات المجتمع المدني لكن بطابع شكلي.

كان للمعارضة السورية اهتمام ومساحة أكبر فيما يخص تلك المنظمات، ففي حكومة الإنقاذ اعتمدت القرارات 10 و11 في العام 2021، لتنظيم عمل تلك الجمعيات والمنظمات.

اقرأ أيضاً: المجتمع السوري وأزمة المواطنة: هشاشة تعرّت أم اكتسبت

المنظمات في سوريا: عهد الأسدين

عند استلام الأسد الأب السلطة ضيّق الخناق على المنظمات والجمعيات، وشدد الرقابة عليها وأدخلت تعديلات على قانون الجمعيات تزيد من الرقابة عليها، فانخفض عددها إلى 513 بعد أن كانت تزيد عن 596 خلال مرحلة ما قبل وصول البعث 1946-1963، في محاولة من البعث لترويض المجتمع الثالث.

أما في عام 2000 ومع قدوم الأسد الابن كان هناك انفتاح محدود على المعارضة السياسية، وكان هناك مطالبات بتنظيم قانون عمل الأحزاب والجمعيات ومنحها حرية أكبر، هذه المطالبات واجهها تصعيد من قبل مسؤولين في النظام السابق أمثال “عدنان عمران” والذي وصف المجتمع المدني بالاستعمار الجديد، مع ذلك وفّرت وزارة الشؤون الاجتماعية آنذاك تسهيلات لتشكيل منظمات جديدة في سورية أخذت طابع “المنظمات غير الحكومية المنظمة حكومياً” (GO-NGOs) أو القطاع النصف حكومي، كما في نموذج الأمانة السورية للتنمية التي أسستها أسماء الأسد زوجة بشار عام 2001 والتي حاولت من خلالها تصدير نفسها كداعمة للتنمية المجتمعية، لكنها في الأصل كانت “ديكور للمجتمع المدني”.

رغم اعتماد النظام السابق سياسة “اقتصاد السوق الاجتماعي” وحدوث انفتاح، لكنه بقي مقيد لحرية المنظمات. كان هناك شبكات اقتصادية سورية منها “شبكة الأغا خان للتنمية” التي عاودت عملها في سورية العام 2001 وما زالت موجودة لليوم. في حينها ارتفع عدد المنظمات في هذه المرحلة فبلغ حوالي 1486 منظمة.

بعد اندلاع الحراك 2011، حرص النظام في مناطقه على إيقاف عملية تشكيل المنظمات سوى تحت رقابة أمنية شديدة، وقد شكّل جمعيات تابعة له وتوجيهها بما يخدم أجندته السياسية والاقتصادية، إذ بلغ عدد المنظمات بين أعوام 2011-2021 التي شكلتها شبكات مقربة من الأسد وتعمل لصالحه ما يزيد عن 40 جمعية من أصل 83 جمعية عاملة في حلب في مناطق النظام.

اقرأ أيضاً: التفاعل المؤسسي والمجتمعي بين حلب ودرعا: قراءة في جدلية التنمية السياسية

المنظمات في سوريا بعد اندلاع احتجاجات 2011

بدأت الجمعيات والمنظمات تنتشر بكثرة في المناطق التي خرجت من سيطرة النظام، لكن كان هناك تباين في تنظيمها تبعاً لأجسام المعارضة التابعة لها وممن تتلقى الدعم. لنبسط الأمور في الطرح والفهم سنعرض أنماط المنظمات المدنية العاملة في تلك المناطق كالتالي: منظمات مرخصة في تركيا وتعمل في مناطق الإنقاذ والمؤقتة، منظمات مرخصة لدى حكومة الإنقاذ وتعمل محلياً، منظمات غير مرخصة لديها تنسيق مع الحكومة المؤقتة، منظمات دولية تعمل في مناطق الحكومتين.

ارتبطت بعض المنظمات العاملة في سوريا بعد الثورة بمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، وزادت من نشاطها في تركيا بشكل ملحوظ وعززت من برامجها ليشمل الشريحة السورية في تركيا، خاصة بعد قرار مجلس الأمن 2165 لعام 2014 وما تلاه من تمديد أو تعديل خلال القرارات اللاحقة.

خلال أعوام 2015-2019 شهدت تلك المنظمات حالة من الازدهار، بينما تراجع دورها مع بدء مسار “التعافي المبكر” بعد قرار الأمم المتحدة الخاص بالمساعدات الإنسانية عام 2021. في نهاية العام 2023 كانت المنظمات في أسوأ أحوالها المادية جراء تراجع الاهتمام الدولي بالقضية السورية على حساب قضايا أخرى كالحرب الأوكرانية – الروسية، والقضية الفلسطينية خلال اجتياح غزة.

في سياق متصل، تشير آخر الإحصائيات في أيلول من العام الماضي 2024، بأنّ عدد منظمات المجتمع المدني العاملة في سوريا ومقرّها تركيا، حوالي 100.943، وتشمل هذه الإحصائية المنظمات السورية العاملة في الشأن الإنساني لكن دون وجود قدرة على تحديد عددها بدقة كونها منظمات يتم التعامل معها على أساس قانون الجمعيات التركي.

بينما كان عدد المنظمات الأجنبية العاملة في تركيا، والتي تهتم بالشأن السوري، 129 منظمة وفق وزارة الداخلية التركية.

المنظمات في سوريا بعد سقوط الأسد 2024

عند بدء عملية “ردع العدوان” التي قادت للتحرير، عملت منظمات المجتمع المدني على مرحلتين: الأولى، مع بدء العملية العسكرية وركزت نشاطها في حلب باعتبارها التجربة الأولى بعد إدلب، فاتخذ عمل المنظمات فيها طابعاً إسعافياً وإغاثياً، إذ ساهمت في طمأنة السكان وتنظيم الحياة العامة، مع استمرار العمليات العسكرية في بقية أنحاء البلاد.

أما المرحلة الثانية عند السقوط وما بعده، فَرضت تحديات، أولها: توسع عمل تلك المنظمات على نطاق جغرافي أوسع، إضافةً إلى نقص الكوادر وغياب السياسات التنسيقية، فوجهت تركيزها إلى العاصمة دمشق، ليأتي دور المجتمعات المحلية والأهلية في سد الفراغ في المحافظات الأخرى كحمص وحماه ودرعا.

الخلاصة، يمكن تقسيم واقع المنظمات العاملة في سورية بعد سقوط النظام، ووفق الواقع الجديد لخمسة نماذج: منظمات عملت في مناطق حكومة الإنقاذ وتوسعت كما في “حالة الاستجابة الطارئة”، منظمات عملت في مناطق الحكومة المؤقتة وتوسعت كما في حالة “وحدة المجالس المحلية”، منظمات تابعة للأسد وعاملة في مناطق النظام قبل سقوطه كما في حالة “الأمانة السورية للتنمية”، منظمات لم تدعم النظام وعملت في مناطقه، لكنها أعادت صياغة موقفها من الثورة كما في حالة “منظمة سند التنموية”، منظمات ومبادرات تشكّلت بعد سقوط النظام السابق كما في حالة “رجعنا يا شام” و”بقجة”.

المنظمات في سوريا: تحديات ما بعد السقوط

مع توسع رقعة الانتشار الجغرافي لتلك المنظمات، وانتهاء حالة الحرب في البلاد، واجهت المنظمات في سوريا بعد التحرير تحديات كبيرة يمكن تلخيصها في خمس نقاط أساسية:

توقف الدعم الدولي، تغيرت السياسات الخارجية، فتراجع دور بعض المنظمات وضعفت قدرتها على تغطية الاحتياجات الواسعة رغم حضور الدعم المحلي لكنه محدود. ضعف التنمية التشاركية، الانقسام وصل للمنظمات الإغاثية والإنسانية فبين منظمات دعمت الثورة وأخرى دعمت النظام تعمق الشرخ وتلاشى التعاون فيما بينها.. ناسين أن بوصلتهم المجتمع لا السلطة ولا يهم إن بقيت أو زالت فخدماتهم هي للمدنيين والمتضررين. الترخيص والتحول المؤسساتي، بعض المؤسسات تجد صعوبة في الانتقال من العمل التطوعي الجماعي إلى العمل المؤسسي الرسمي وهذا ما يتطلب تنظيم عمل هذه المنظمات في قانون وتسهيل انتقالها للعمل المؤسسي عبر أحكام قانونية وإجراءات تبيّن ما يجب اتباعه من خطوات.

التحدي المجتمعي، المجتمع السوري متنوع وعمل تلك المنظمات لم يبقَ محصوراً في الشمال، والواقع المجتمعي اليوم مفتت وضائع، فعلى تلك المنظمات استعادة الثقة بين السوريين ورأب الصدع، إذ تختلف الأولويات ما بين دمشق وحلب وأريافهما، والساحل ودرعا، وهذا ما يتطلب إعادة بناء وتأهيل رأس المال الاجتماعي. إرساء السلم الأهلي، بعد التوسع الجغرافي والسيطرة على تغطية كافة الاحتياجات يأتي إرساء السلم الأهلي كتحدي فرضه إرث الانقسام الناتج عن الحرب، فتبرز الحاجة للحوار المشترك من الأحياء الصغيرة وصولاً للمحافظات، فبغير ذلك لا مدخل لبناء مجتمع مدني متكامل تمهيداً لبناء دولة قادرة على حماية الحريات.

المنظمات في سوريا ووزارة الشؤون الاجتماعية

في آذار الماضي صدر تعميم عن وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل رقم (2391)، موجه إلى مؤسسات المجتمع المدني، ينص على عدم مخاطبة المنظمات الدولية ووكالات الأمم المتحدة والشركاء الدوليين أو الاتحادات العربية أو التواصل معهم أو مخاطبة وزارة الخارجية والمغتربين أو تبادل وثائق المشاريع ومقترحات وخطط التعاون إلا عن طريق مديرية التخطيط والتعاون الدولي.

كما طالب التعميم عدم  إرسال أي كتاب إلى تلك الجهات، وفي حال ورود أي مراسلة أو اتصال من تلك الجهات يتوجب إعلام المديرية المعنية، مع الحرص على وجود منسق من مديرية التخطيط والتعاون الدولي في أي اجتماع مع أي طرف من الجهات المذكورة.

نظمت بعدها وزارة الشؤون الاجتماعية في شهر نيسان الماضي من العام الحالي، ورشة حوارية بعنوان “مقدمات أولية لتطوير قانون المنظمات غير الحكومية”، شارك في الورشة ممثلون عن المنظمات غير الحكومية في سوريا، وتركزت محاورها على أشكال قوانين المنظمات غير الحكومية في عدد من دول العالم، إضافة إلى مناقشة مواضيع متعلقة بعدم وجود عقد اجتماعي مكتمل في سوريا، وغياب التعريف المعياري للمجتمع المدني، وأطر عمل المنظمات غير الحكومية، ومعايير وضوابط النفع العام.

بدورها أكدت الوزيرة هند قبوات، أن العمل الحالي يتركز على بناء دولة جديدة بالشراكة مع جميع الجهات الحكومية والمجتمع المدني بغية الوصول إلى دولة واحدة قوية.

بالمحصلة، تحتاج هذه المنظمات لقوانين تضبط عملها وتوّجه مسارها وتحدد آليات تنسيقها مع بعضها أو مع الدولة، إلى جانب تنظيم انتشارها لتغطي مختلف الحاجات في أنحاء البلاد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى