المجتمع السوري

ملعب العباسيين في دمشق.. من مرمى أهداف إلى Resort and spa

بقلم: ريم ريا

في خبرٍ أشبه بالنكتة الثقيلة، هل يمكن القول حقاً: وداعاً لملعب العباسيين في دمشق؟

أعلنت وزارة الرياضة والشباب في سوريا يوم أمس عن نيتها بعدم ترميم ملعب العباسيين في دمشق، بل وطرحه للاستثمار السياحي بغية بناء فندق! أجل، لا نمزح، في سوريا فقط نستبدل الملاعب بالفنادق بدل تطويرها. الوزارة تطرح فكرة إنشاء فندق في مكان أهم منشأة رياضية عامة عرفتها العاصمة دمشق منذ أكثر من 60 عاماً.

الخبر صادم، لكنه في الوقت نفسه غير مفاجئ، نحن في سوريا معتادون على الإهمال، وملعب العباسيين نفسه ضحية جديدة لسياسات ربما ما زالت ترى الفضاء العام والمنشآت العامة بعين العبء لا القيمة. لكن ما أثار الجدل فعلاً وفتح باباً من الأسئلة، كيف يكون الحل بمحو ملعب العباسيين من على خارطة العاصمة؟ وكأن دمشق تعاني من فائض في المنشآت الرياضية العامة، وسكانها يريدون المزيد من كتل الإسمنت أمامهم لا متنفساً يلتقون فيه.

بين ذهولٍ وضحكٍ مرّ… تُرك السوريون وهم ينظرون إلى صرحٍ رياضي ارتبط بذاكرة الملايين، احتضن المباريات الدولية وصولاً لإقامة قدّاس البابا يوحنا بولص الثاني 2001، لينتهي به المطاف بغرفة فندق وجرس نزلاء! في مقالنا سنناقش هذا الطرح، مستعرضين تاريخ هذا الملعب العريق.

لمحة سريعة عن ملعب العباسيين في دمشق

أسس الملعب في العام 1957، كان ميداناً للأحلام الكروية وقلباً نابضاً في العاصمة السورية، ومسرحاً لأعظم المباريات الدولية وفضاءً للاحتفاليات الجماهيرية، إذ استضاف دورة الألعاب العربية عام 1976. من الصخب إلى الصمت مثقلاً بندوب الحرب وشاهداً حياً عليها. أمسى ملعب العباسيين في دمشق، بمدرجاته التي تحولت إلى أطلال، وأرضيته الخضراء التي باتت ساحة خردة تتكدس فيها بقايا القذائف ومخلفات الألغام.

تحت عشبه ترقد حكايات الدمار، بعد أن تمّ تحويله إلى ثكنة عسكرية إبان الصراع. هذا الملعب أقدم منشأة رياضية في سوريا، وذاكرة من الجراح لا تزال مفتوحة، ما عمّقها اليوم نيّة تحويله إلى فندق لتقديم الخدمات، بدلاً من إعادة إحياء هتافات الجماهير وصخب المدرجات وارتطام الكرات بالشباك.

اقرأ أيضاً: ملعب العباسيين «درة الفيحاء المنسية»

مقترحات ترميم الملعب بين الماضي والحاضر

في العام 2020، أوضح فراس معلا رئيس الاتحاد الرياضي العام في سوريا آنذاك، أثناء لقاء مع برنامج “الكابتن”، الذي كان يعرض عبر قناة “سوريا دراما” الحكومية، أن ملعب “العباسيين” في دمشق تصل تكلفة ترميمه إلى أكثر من ثلاثة مليارات ليرة سورية (مليون و428 ألفاً و571 دولاراً أمريكياً). وقال وقتها أن الملعب سيشهد أعمالاً للصيانة قبل نهاية العام 2020، على أن تُدفع المبالغ المحددة من قبل مجلس الوزراء، ومن خارج موازنة الاتحاد الرياضي العام.

لكن في عهد النظام السابق، كانت صيانة الملاعب بيد “المؤسسة العسكرية للإسكان” وتحت إشرافها فقط، والتي كان يسيطر عليها “آل شاليش”، المقربون من نظام الأسد، وبالتالي كان من المتوقع ألاّ يدفع الاتحاد الرياضي العام كل تلك المبالغ، خاصةً في ظل أزمة اقتصادية خانقة مُلمة بالبلاد، وفي ظل سماسرة ينهبون الأموال قبل صرف قرش منها على مخصصاتها.

أما بعد زوال النظام السابق وآل شاليش معه، طرحت وزارة الرياضة والشباب تصوراً جديداً يقوم على تحويل الملعب إلى منشأة متعددة الوظائف، لا تقتصر على الرياضة، بل تشمل أيضاً جوانب تجارية وثقافية. وهذا التحول سيجري بالشراكة مع القطاع الخاص، من خلال نماذج استثمارية مثل “BOT” و”PPP”، بما يضمن الحفاظ على الملكية العامة للموقع وتحقيق مردود مجتمعي واقتصادي.

فبعد حل الاتحاد الرياضي العام في سوريا، وإلحاق مهامه بوزارة الرياضة والشباب، أصبحت هي الجهة الوحيدة المخولة بإدارة ملفات المنشآت الرياضية، ومنها استاد “العباسيين”، ما يعني أن أي قرار بشأن مستقبله سواء التأهيل أو الاستثمار، يعود مباشرة إلى الوزارة دون أي كيان وسيط.

الجدير ذكره، أن مذكرة التفاهم التي وقّعت مع الجانب القطري لدعم المنشآت الرياضية في البلاد، لا تتضمن ملعب العباسيين، بسبب الكلفة العالية لإعادة تحديثه وصيانته، والتي تقدّر بأنها توازي تشييد ملعب جديد على الطراز العالمي. فانطلاقاً من غياب التمويل بدأت الأفكار بالتخلّي عن ترميم الملعب واستبداله بمنشآت ذات طابع سياحي.

فأين ذهبت الشراكة مع القطاع الخاص؟ هل يعقل أنه من غير الدعم الخارجي لا نستطيع تدبر أمورنا وإيجاد حلول بجهود محليّة حتى لو مؤقتة وإسعافية! على الأقل احتراماً لذاكرة السوريين وذكرياتهم، وحفاظاً على منشآت عامة لها تاريخ عريق وأصالة ما يزال يصدح صداها لليوم في وجدان الجماهير.

مناقشة منطقية لفكرة التحويل إلى أوتيل .. لمعرفة جدواها

لننطلق بمناقشتنا من حاجة دمشق إلى منشآت رياضية عامة، في إحصائية سريعة لعدد المنشآت الرياضية العامة التي هي ملك للدولة في العاصمة، ونسبتها عدد السكان، نطرح السؤال التالي: هل هناك توافق واكتفاء لدمشق بعدد المنشآت الرياضية؟ حتى نفكر في استبدال إحداها ومحوه من الوجود!.

تتوزع المنشآت الرياضية العائدة ملكيتها إلى وزارة الرياضة والشباب في دمشق إلى ثلاث مدن رياضية وملعب رئيسي، ويقدر عدد سكان العاصمة في العام الحالي بحدود 5.6 ملايين نسمة، أي أنّ هناك منشأة لكل 1.4 مليون نسمة.

بهذا العرض لعدد السكان وعدد المنشآت الرياضية نلاحظ أن دمشق تتحمل العشرات من المنشآت الرياضية الأخرى لسد احتياجاتها، تحديداً أن الشعب السوري شعب فتي وشعب عاشق للرياضة.

فدولة قطر على سبيل المثال يبلغ عدد سكانها حوالي 3.12 مليون نسمة تقريباً هذا العام، بني فيها 8 ملاعب تتسع لملايين المتفرجين أثناء المونديال، عدا عن المنشآت الرياضية العامة الأخرى في قطر، حيث أفاد تقرير إحصائي حكومي أن عدد المنشآت الرياضية في قطر في العام 2019-2020 قد بلغ 291. أي أنّ هناك منشأة لكل 10721.65 شخص.

بالمقارنة بين دولة بمساحة قطر وتعدادها السكاني، وبين مدينة كدمشق وتعدادها السكاني الحالي وبمساحة تفوق دولة قطر كلها، هل رأت الوزارة أنه يجب أن يهدم ملعب العباسيين بسبب فائض المتنفس الرياضي في البلاد؟ لا نتحدث هنا عن إعادة ترميمه كملعب رياضي، بل عن عن ترميمه كمنشأة رياضية عامة، لكن لماذا التحويل إلى فندق؟

في زمن النظام البائد، كان القائمون على الأمر، ونقصد تحديداً القائمين على الاتحاد الرياضي العام من أشخاص مباشرين وغير مباشرين مرتبطين بشبكات الفساد الكبرى، يحوّلون المنشآت الرياضية إلى مطاعم وأماكن لبيع المازوت، كانوا يسرقون أحلام الجماهير ويتاجرون فيها، ويحوّلون أملاك الشعب الرياضية إلى دكاكين بالاتفاق مع السماسرة والمستثمرين.

الماضي الرياضي الإداري في سوريا حَمل استثمارات ضائعة وفساد ومخالفات وتجاوزات إدارية وقانونية ومالية، وكان عنواناً لهدر المال في كل مكان في البلاد وتحديداً  العاصمة وحلب. كان الفساد طاغياً على عدم النهوض بالمنشآت الرياضية وحاجباً لتطويرها.

لكن إن لم يكن هذا هو الحال اليوم، ولم يكن لدينا فساد كما في الماضي، فما الحجة؟ نقص التمويل! من المفترض أن الفساد سقط مع النظام، إذاً استسهال الهدم هو سيد الموقف الآن ونقص التمويل وفق الطرح ما هو إلاّ شماعة.خبر كهذا أثار تساؤلات عديدة حول أولويات السياسات الرياضية العامة في العاصمة.

إذا أردنا عرض القرار من وجهة نظر الوزارة، يبدو منطقياً من حيث المنظور الاقتصادي المحدود، فالملعب بحاجة إلى صيانة باهظة حتى “قطر” لم تتكفل بها، والملعب بوضعه الحالي لا يواكب المعايير الدولية للمنشآت الرياضية، والاستثمار السياحي بديل مغري وسريع وأقل كلفة من الترميم ويدر أرباحاً على الدولة دون إنفاق ضخم.

لكن على المقلب الآخر ومن واقع الحال، هذا القرار يظهر انعكاساً لمفهوم ضيق وقصير النظر للفضاءات الرياضية العامة وينمّ عن عدم إدراك وإحاطة كافيين لاحتياجات المواطنين، ليتم التضحية بالمصلحة الاجتماعية لقاء المكاسب المالية، وكأننا أمام العقلية القديمة لكن من بابٍ آخر.

العاصمة أصلاً مفتقرة للمنشآت الرياضة العامة المفتوحة، وهذا الملعب هو فضاء مشترك للسكان وعنصر مهم في جودة الحياة. فالشعب السوري كما ذكرنا شعب صحيّ ونشط بطبيعته، واعتماده على مثل هذه المنشآت أساسي للتنفيس عن نفسه وممارسة هواياته الرياضية.

حتّى الدراسات تؤيد ما نقول: فتوفّر المنشآت الرياضية العامة في بلد ما بكثرة هي مؤشر على صحة السكان ومقياس لنوعية الحياة وجودتها، ناهيك عن أن هذا الملعب يشكل جزءاً من الهوية المجتمعية الدمشقية، والتفريط فيه يعني التفريط بجزء من التاريخ الرياضي والاجتماعي معاً.

فالحلول الأكثر منطقية وسهولة.. في حال استسهلت الوزرة الهدم على إعادة الاستثمار، تكمن في الترميم الجزئي على سبيل المثال، وتحويل ملعب العباسيين إلى منشأة محلية تبقى مفتوحة للمباريات المحلية والأنشطة المدرسية. التكلفة لفكرة كهذه أقل من كلفة الهدم الكامل وإعادة البناء.

كذلك الشراكة مع القطاع الخاص، من الحلول الجيدة، بل أكثرها معقولية في ظل غياب الدعم الخارجي، لكن فلتكن شراكة رياضية مع القطاع الخاص، مضبوطة لتناسب العامة وليس النخبة.

مشروع الفندق مشروع خدمي تجاري ضخم، يمكن استبداله بمشروع خدمي رياضي، لكن مع الحفاظ على الفضاء العام ودون فقدانه، مثال: استثمار جزء من الملعب كمقهى أو افتتاح مركز رياضي إضافي، أو تخصيص ركن ليكون مساحة تجارية صغيرة يستثمر بها أصحاب المشاريع المحدودة ويستمر الملعب متاحاً للجميع.

بالمحصلة، وزارة جديدة مستحدثة كوزارة الرياضة والشباب، عليها أن تكون ذات أفق أوسع، وعقلية أحدث في مجاراة الأمور وإيجاد الحلول لمخلفات الإرث القديم…. علّ وعسى أن يتم التراجع عن فكرة تحويل ملعب العباسيين إلى فندق، ليعود إلى السوريين، ولا يُسرق منهم من جديد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى