بقلم: هلا يوسف
في ظل التطورات المتسارعة على الساحة الدولية بين إيران وإسرائيل، والتي تمثلت في تبادل القصف الذي طال البنى التحتية والمنشآت النووية، كالقصف الذي استهدف مفاعل نطنز الإيراني وأسفر عن تسريب إشعاعي محتمل، تزداد المخاوف في منطقتنا العربية، ولا سيما في سوريا. إذ لا يسعنا، نحن السوريين، إلا أن نفكر في السيناريو الأسوأ الذي قد ينعكس على واقعنا الإقليمي، خصوصاً إذا ما تعرض مفاعل ديمونا النووي لتسريب إشعاعي، ما يشكل خطراً مباشراً على المواطنين في الدول المجاورة.
في هذا المقال، سنتناول معلومات مهمة حول مفاعل ديمونا، ونبحث في احتمالية تعرّضه لقصف من إيران ضمن الأوضاع المتوترة، وما إذا كانت مخاوفنا في هذا الشأن مبرّرة. كيف يمكن أن نتأثر نحن في حال وقوع مثل هذا القصف؟ وما مدى الخطورة التي قد نكون ضمن نطاقها؟ كما سنسلّط الضوء على أشهر الحوادث لتسرّب الإشعاعات في العالم، لفهم الأبعاد المحتملة لأي كارثة نووية مشابهة.
مفاعل ديمونا
بدأت إسرائيل فعلياً ببناء مفاعل ديمونا عام 1958، بمساعدة فرنسا التي زوّدتها بجميع المعدات والآليات اللازمة. واستمرت عملية البناء حتى عام 1964، حيث أعلنت إسرائيل آنذاك اكتمال البناء وبدء تشغيله لتوليد الطاقة. وقد كان الهدف المعلن من بنائه هو توفير الطاقة لمنشآت تعمل على استصلاح الأراضي في منطقة النقب، التي كانت تُعرف تاريخياً بـ”الصحراء الفلسطينية”. وكانت قدرة المفاعل آنذاك لا تتعدى 26 ميغاواط، مما مكّن إسرائيل من تصنيع قنبلة نووية واحدة تزن 20 كيلوغراماً.
وفي مطلع السبعينيات، أعادت إسرائيل رفع الطاقة الإنتاجية لمفاعل ديمونا لتصل إلى أعلى قدرة تشغيلية له، بلغت 70 ميغاواط، أي بزيادة قدرها 44 ميغاواط. ومن الجدير بالذكر أن العديد من أسرار هذا المفاعل تم كشفها عام 1986 على يد مردخاي فعنونو، التقني السابق في المفاعل، والذي اختُطف لاحقاً على يد عملاء الموساد في إيطاليا، ليُقدَّم للمحاكمة بتهمة إفشاء أسرار الدولة.
مفاعل ديمونا…الخطر المحدق بدول الجوار
بعد أربعين عاماً من تشغيله، بدأت الشائعات تحيط بمفاعل ديمونا النووي. فوفقاً لما يُتداول، فإن أي انفجار أو استهداف لهذا المفاعل قد يؤدي إلى كارثة إشعاعية تمتد آثارها إلى الدول المجاورة لإسرائيل، مثل سوريا، الأردن، لبنان، ومصر. وبحسب موسوعة “ويكيبيديا”، فإن الإشعاع الناتج قد يصل إلى دائرة نصف قطرها يشمل قبرص، بالإضافة إلى دول الجوار.
ويُذكر أن المفاعل بات متهالكاً، وجدرانه على وشك الانهيار بسبب انتهاء عمره الافتراضي. ووفقاَ لما نشرته صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، فقد أجرت إسرائيل العديد من أعمال الصيانة والإصلاح في منشأتها النووية، إلا أنها لم تكشف عن طبيعة هذه الإصلاحات، ولا عن الطريقة التي تم تنفيذها بها.
وفي الآونة الأخيرة، تعرّض المفاعل لعدة أعطال، من بينها انبعاثات مشعة، مما تسبب بتأثر الأردن بالغبار الذري المنبعث.
كما أفادت القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي عام 2003 أن العشرات من العاملين في المفاعل لقوا حتفهم نتيجة إصابتهم بالسرطان. وتتعامل المحاكم الإسرائيلية حالياً مع أكثر من 45 دعوى قضائية رفعتها عائلات المهندسين والفنيين الذين عملوا في مفاعل ديمونا، بسبب انتشار أمراض السرطان بينهم، مع مطالبتهم بتعويضات تصل إلى خمسين مليون دولار.
ولا تتوقف الكارثة عند هذا الحد، إذ تشير التقارير إلى أن نحو 70% من سكان منطقة النقب يعانون من أعراض مرض السرطان.
الخطر على سوريا
بحسب المعلومات المتوفرة، يبعد مفاعل ديمونا عن مدينة دمشق ما يقارب 296 كيلومتراً، وتشير التقديرات إلى أن انفجار المفاعل، في حال حدوثه نتيجة هجوم صاروخي، قد يؤثر على منطقة لا تتعدى بضع عشرات من الكيلومترات، لذا لا يُتوقع أن تشكل هذه الحادثة خطراً مباشراً على المدن السورية من حيث الانفجار نفسه.
لكن في المقابل، قد نواجه مشكلة التلوث الإشعاعي، إذ إن الغبار النووي سيتناثر لمسافات قد تصل إلى مئات الكيلومترات، تبعاً لاتجاه الرياح في ذلك الوقت. كما ستتأثر إمدادات المياه السطحية، مثل الينابيع، بالتلوث، وستتلوث التربة أيضاً.
ومن المرجح أن تكون المياه في المناطق الريفية أقل تلوثاً مقارنة بالمدن في المراحل الأولى، بينما تحافظ المياه الجوفية على جزء كبير من نقائها من الإشعاع، وقد تعود إلى حالتها الطبيعية بفضل التدفق المستمر، رغم أنّ هذا قد يستغرق وقتاً ليس بالقصير.
أما بالنسبة للأطعمة، فستكون ملوثة نتيجة تلوث التربة، كما أن اللحوم والحليب سيحملان آثاراً إشعاعية بسبب تناول الحيوانات لنباتات ملوثة. وفي حال استهلك الإنسان كميات كبيرة من هذه اللحوم أو النباتات، فقد يتعرض للتلوث الإشعاعي أيضاً.
اقرأ أيضاً: إسرائيل تكشف تفاصيل غير مسبوقة عن عملية تدمير المفاعل النووي السوري عام 2007
إسرائيل عاجزة عن احتواء أي تسريب
صرّح المدير العام السابق لوزارة الصحة الإسرائيلية، غابي بارباش، بأن إسرائيل تفتقر إلى الإمكانيات اللازمة للتعامل مع أي تسرب قد يحدث في مفاعل ديمونا، مما قد يؤدي إلى كارثة إنسانية وبيئية حقيقية. ولم يُخفِ الرئيس التنفيذي السابق لهيئة الطاقة الذرية، عوزي إيلام، الإجراءات التي كانت تُتّخذ بين الحين والآخر، مثل تفريغ الماء الثقيل من المستودعات. كما أشار إلى أن النظام المركزي للمفاعل لا يمكن استبداله أو الاستغناء عنه، رغم انعدام الأمان في الوعاء الصلب الذي يحتوي على جوهر المفاعل النووي.
وتحت عنوان “تشيرنوبل في إسرائيل… هلع نووي”، استعرض المحلل العسكري، يهودا آري جروس، المخاطر المحتملة لانفجار مفاعل ديمونا ومجمّع شمعون بيريز للأبحاث النووية. وقد خلص إلى أن المدن الإسرائيلية لن تتضرر بشكل مباشر في حال تعرّض المنشأة النووية لهجوم صاروخي، إلا أن القلق الحقيقي ينبع من تقادم المفاعل وتصدّعه، وسط حالة من التكتم الشديد من قبل الحكومة الإسرائيلية حول وضعه الحالي. ويُعتقد أن سبب اطمئنان الإسرائيليين لعدم تعرّضهم لخطر الإشعاعات يعود إلى قيام الحكومة بتوزيع كبسولات وأقراص مخصّصة لتقليل الأضرار الصحية الناجمة عن الانبعاثات النووية، على السكان المقيمين في محيط مفاعلي ديمونا وسورك، وذلك وفقاً لإيلام.
اقرأ أيضاً: الوكالة الدولية للطاقة الذرية تحيي تحقيقها المتعطّل حول موقع الكبر النووي في دير الزور
ماذا يحصل لو تعرض المفاعل لقصف
في حال نجحت إيران في اختراق الدفاعات الجوية ومنظومة القبة الحديدية المحيطة بمفاعل ديمونا، فإن الماء الثقيل المكثف سيتسرب، ما قد يؤدي إلى سلسلة من الانفجارات والحرائق الناتجة عن الوقود النووي المشع، لينبعث منه إشعاعٌ خطير قد يتحول إلى سحابة تُحمَل مع الرياح بعيداً عن ديمونا.
إلا أن الواقع يشير إلى أن إسرائيل تعتمد بشكل أكبر على التحصينات العسكرية، أكثر من اعتمادها على سلامة المفاعل نفسه من حيث صلاحيته وكفاءته. فعندما وجّه مراسل القناة الإسرائيلية الثانية عشرة، نير دفوري، سؤالاً إلى الحكومة بشأن هذا الموضوع، أجابت بأن حماية المنشآت النووية تتم عبر منظومة الدفاعات الجوية والبرية، إلى جانب مناورات سنوية يجريها الجيش لمحاكاة تعرض المفاعل لقصف صاروخي أو حادث إشعاعي. كما تعمل إسرائيل على تطوير دفاعاتها السيبرانية ضد أي هجوم إلكتروني، من خلال شعبة تكنولوجيا الاتصالات للجيش.
يأخذنا الحديث السابق إلى استعراض أبرز ست حوادث نووية وقعت عبر التاريخ في عدة دول عظمى تمتلك مفاعلات نووية، وكيف تعاملت تلك الدول مع هذه الكوارث.
أبرز ستة حوادث نووية عبر التاريخ
لا بد من الإشارة إلى أن معظم الحوادث النووية تم التكتّم عليها بشكل كبير لأسباب عسكرية وسياسية. ففي الحادثة الأولى، والتي تُعرف بـ”حادثة ماياك” عام 1957، في مدينة كيشتيم الروسية، وقع انفجار نووي أدى إلى تسرب نحو 80 طناً من النفايات إلى البيئة. ومع ذلك، لم يُعلن عن هذه الحادثة إلا بعد مرور عشرين عاماً، وذلك بسبب عدم معرفة أي دولة بوجود مفاعل ماياك. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية رصدت التغيرات الكبيرة في مستويات الإشعاع في الهواء، إلا أنها آثرت الصمت، لأنها كانت بدورها تقوم بتجارب نووية مشابهة.
أما الحادثة الثانية، فقد وقعت في بريطانيا، وتحديداً في منشأة “سيلافيلد” النووية التي تم إنشاؤها عقب الحرب العالمية الثانية. بدأ الحادث بنشوب حريق في القسم الأول من المنشأة عام 1957، واستمر الحريق لمدة ثلاثة أيام، نتج عنه تسرب إشعاعات نووية انتشرت في أنحاء أوروبا. قامت السلطات الأوروبية حينها بإتلاف المزروعات ضمن نطاق 500 كيلومتر حول المنشأة، كما أُصيب 240 شخصاً بمرض السرطان نتيجة لذلك.
في حين وقع أسوأ حادث نووي في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1979، وذلك في محطة الطاقة النووية بجزيرة الثلاثة أميال في ولاية بنسلفانيا، والتي تحتوي على مفاعلين. فشل نظام التبريد في المفاعل الثاني، مما أدى إلى ذوبان قلب المفاعل وتراكم الغازات المشعة. وبعد يومين، صدرت تعليمات بنقل غاز العادم المشع إلى خزان التحلل، وفي هذه المرحلة حدث تسرب، إلا أنه كان بكميات منخفضة – كما ادعت الحكومة الأمريكية – ولم يؤثر على الصحة العامة. ومع ذلك، صُنّف هذا التسرب على المستوى الخامس وفقاً للمقياس الدولي للحوادث النووية، وتم لاحقاً إلغاء جميع مشاريع إنشاء محطات طاقة نووية جديدة في البلاد.
ومن منا لم يسمع بحادثة تشيرنوبل، إحدى أعظم الكوارث النووية في التاريخ؟ وقعت هذه الحادثة في أوكرانيا عام 1986، عندما حاول العاملون إجراء تجربة على المفاعل تتعلق بالمدة الزمنية التي تستغرقها توربينات الطاقة للعمل في حال انقطاع التيار الكهربائي. وعلى الرغم من ضغط العاملين على زر الطوارئ، إلا أن درجة الحرارة ارتفعت بشكل كبير، مما أدى إلى تفاعلات سريعة. ومع ذوبان النواة النووية داخل المفاعل الرابع، انتشرت سحابة من الانبعاثات النووية فوق مدينة بريبيات، وأجزاء واسعة من الاتحاد السوفييتي وأوروبا ودول البحر الأسود وتركيا. وبحسب التقارير، تسببت هذه الكارثة في وفاة أكثر من 200 ألف شخص بشكل مباشر وغير مباشر.
أما اليابان، فكان لها النصيب الأكبر من الحوادث النووية. فقد شهدت حادثتين بارزتين، أولاهما حادثة محطة ميهاما للطاقة النووية عام 2004، والتي وقعت بسبب نقص مياه التبريد في توربين المفاعل، مما أدى إلى وفاة خمسة أشخاص، رغم إعلان الحكومة اليابانية عدم حدوث أي تسرب إشعاعي. كما تم حرق جثث 18 شخصاً، وتعرض 400 عامل لمستويات متفاوتة من الإشعاع.
أما الحادثة الثانية، فهي كارثة فوكوشيما عام 2011، التي جاءت نتيجة زلزال مدمر بلغت قوته 9 درجات، تبعه تسونامي ضرب المدينة. تُعد هذه الحادثة الأخطر بعد تشيرنوبل، حيث واجهت اليابان كارثتين في يوم واحد. فقد انقطعت الكهرباء عن المفاعل النووي القريب من البحر بسبب التسونامي، مما أدى إلى تبخر النواة وارتفاع حرارة المفاعلات. وكانت النتيجة إصابة 400 شخص من فرق التدخل السريع بكميات كبيرة من الإشعاع، وإجلاء 160 ألف شخص من محيط المفاعل. ورغم عدم تسجيل وفيات مباشرة، إلا أنه تم تشخيص تشوهات خلقية لدى 44% من الأطفال الذين عاشوا في المنطقة، كما انتشر الإشعاع في أنحاء متفرقة من العالم.
في الختام، تبقى الاحتمالات مفتوحة بشأن ضرب مفاعل دايمونا في ظل الحرب بين إيران وإسرائيل. وعلى الرغم من عدم اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بامتلاك إسرائيل لأسلحة الدمار الشامل، بما في ذلك قنابل ذرية يُقدّر عددها بنحو عشرين قنبلة، واستمرارها في التكتّم الشديد حول هذا الملف، فإن الأمر بات مكشوفاً ومعروفاً لدى المجتمع الدولي. فقد وُضعت إسرائيل مراراً في دائرة المساءلة بشأن برنامجها النووي، وسط دعوات متزايدة للشفافية والمحاسبة.
اقرأ أيضاً: إبراهيم حميدي: إيران والرد على إسرائيل.. ما ساحات الانتقام من دون مواجهة شاملة؟