المجتمع السوري

معركة الذباب الإلكتروني.. كيف تؤثر على الشارع في سوريا؟

في أتون الصراع المرير الذي عاشته سوريا منذ عام 2011، لم تكن المواجهات فقط عسكرية أو سياسية، بل امتدت إلى الفضاء الرقمي حيث برزت ظاهرة “الذباب الإلكتروني” كأحد الأدوات المؤثرة في إعادة تشكيل الرأي العام وتجييشه. فقد سخّرت أطراف مختلفة جيوشاً من الحسابات الوهمية وجندتها لنشر روايات مضادة للواقع وفي بعض الأحيان وهمية. وقد تم ذلك عبر بث الشائعات على مواقع التواصل الاجتماعي، والتلاعب بالحقائق.

مع تطور الأحداث في ساحة سوريا، لعب الذباب الإلكتروني دوراً كبيراً في تعميق الانقسامات وشق الصفوف بين أفراد المجتمع السوري، وهدم ثقة المواطنين بالمصادر الإعلامية، وتحويل النقاش العام إلى ساحة شحن وتعبئة مليئة بالتشويش والتضليل. هكذا أصبحت الحرب الرقمية تخاض عبر معركة الذباب الإلكتروني، لتتحول إلى وجه آخر من وجوه الصراع في سوريا، لا يقل خطورة عن المواجهات العسكرية في الميدان، وربما يتفوق عليها.

ما هو الذباب الإلكتروني الذي اجتاح سوريا

برز مصطلح “الذباب الإلكتروني” حديثاً، وهو مصطلح يستخدم لوصف حسابات وهمية أو شبه وهمية، تتم إدارتها بشكل جماعي وممنهج على منصات التواصل الاجتماعي، الهدف منها التأثير على الرأي العام وقيادته، وتضليل الجمهور، إلى جانب الترويج لأجندات سياسية أو أيديولوجية تخدم مصالح مُشغليها.

يندرج تحت مسمى “الذباب الإلكتروني” العديد من المسميات الأخرى التي تصب في نفس الهدف لخدمة أهداف معينة يحددها المُشغل، ومن هذه المسميات “المتصيدون” و”BOO” و”BOTNET”، التي يتحكم ببعضها روبوتات بشكل تام، وبعضها الآخر يتحكم به أشخاص بشكل غير مباشر.

منذ سقوط النظام في سوريا، انتشرت صفحات وحسابات وهمية كالنار في الهشيم، أشعلت الفوضى على مواقع التواصل الاجتماعي، استغلت الحسابات الوهمية غياب الإعلام والمصدر الرسمي السوري في بداية السقوط، وبدأت بتداول أخبار ومعلومات تسببت بإثارة النزاعات الاجتماعية والسياسية في المجتمع السوري عن طريق تضخيم الخلافات، وتأجيج المشاعر السلبية، وزيادة التوتر والفتن والشائعات.

لوحظ النشاط الكثيف لهذه الهجمات قبيل الأحداث الأمنية في كل من الساحل، جرمانا، السويداء، وكانت قائمة على شحن النفوس وتأجيج العواطف المضادة للطرف الآخر.

اقرأ أيضاً: الإعلام الرسمي بين المساءلة والدعاية: سقط النظام فمتى تتغير العقلية؟

آلية عمل الذباب الإلكتروني .. ونظامه

هذه الحسابات الوهمية المنشأة تعمل على مهاجمة معارضين أو شخصيات عامة، والترويج لدعاية معينة، وتعود تبعية هذه الحسابات في الغالب إلى جهات حكومية أو مجموعات سياسية وأمنية أو حتى شركات خاصة، تخدم أجندات معينة. رجح بعض الخبراء التقنيين أنها عبارة عن شبكة من أجهزة الكمبيوتر المصابة ببرامج ضارة يتحكم بها مدير “الروبوتات”، وهو الشخص الذي يدير البنية التحتية لعمل الروبوتات.

فتنشأ العديد من الحسابات الوهمية، التي تستخدم أدوات آلية “Bots” أو حسابات يديرها أفراد مدربون “Trolls”، هذه الحسابات تكون مزودة بأسماء وهمية، وصور مزيفة، وسير ذاتية غير حقيقية. بعدها تُنسق هذه الحسابات فيما بينها عبر مجموعات مغلقة (واتساب، تلغرام، فيس بوك) وغيرها، يتم فيها تحديد ما يعرف بال “هاشتاغات” وتحديد مواضيع النقاش، أو شخصيات مستهدفة للهجوم.

تنتشر أسراب الذباب الإلكتروني وتباشر عملها عبر تكرار المنشورات، أو إعادة التغريدات، وتشن هجمات التعليق الجماعي، أو التفاعل الزائف لرفع محتوى معيّن في خوارزميات المنصة. هكذا يُخلق الانتشار السريع و يُصنع التفاعل المصطنع. الهدف هو خلق انطباع أن “الرأي العام” يسير باتجاه معيّن، مما يؤثر نفسياً على الجمهور العادي، ويجعله يتخبط ويخلط أوراقه، لينقاد تباعاً وراء موجة ما أحدثته هجمات الذباب الإلكتروني.

الجهة التي تقف وراء هذا النوع من الهجمات

لا توجد جهة محددة تقف وراء هجمات الذباب الإلكتروني، إذ بات أحد وسائل الحرب السيبرانية التي تستخدمها الدول ضد بعضها، وتديرها أجهزة مخابراتها بالاستعانة بمختصين وخبراء ومبرمجين. المشغل يختلف من بلد إلى آخر، ومن غاية إلى أخرى. لكن الهدف واحد نشر الشائعات، التضليل، خلق الأزمات، تعميق الشرخ ونشر الفتن، قولبة الرأي العام وإعادة تشكيله لخدمة الهدف المحدد.

تشير بعض المعلومات لتفاوت القوة السيبرانية باستخدام الذباب الإلكتروني بين الدول، فهناك صراع على تزعم معركة التضليل تتصارع عليها القوى الكبرى والدول التي ضدها، مثل إيران، روسيا، الصين، أميركا، وهناك دول عربية استخدمت معركة الذباب الإلكتروني ضد بعضها، مثال على ذلك أزمة الدول الخليجية مع قطر عام 2017، التي تحولت إلى صراع رقمي يقوده الذباب الإلكتروني.

في سياق متصل، وسط الحرب الرقمية لا يمكن أن ننكر تفوّق إسرائيل في هذا المجال، فهي تمتلك الوحدة 8200 ويشار إليها أحيانا باسم وحدة SIGINT الإسرائيلية، وهي فيلق وحدة الاستخبارات الإسرائيلية، مسؤولة عن التجسس الإلكتروني عن طريق جمع الإشارة (SIGINT) وفك الشفرة. وكذلك الوحدة مسؤولة عن قيادة الحرب الإلكترونية في الجيش الإسرائيلي.

هذه الوحدة ليست بعيدة عن حرب الفضاء الرقمي، فكثيراً ما استخدمت تلك الأداة “الذباب الإلكتروني” لشق صفوف المقاومة الفلسطينية وهدم الثقة بينها وبين الشعب الفلسطيني، كما استخدمت هذا الأسلوب لتفرقة الشعب الفلسطيني نفسه بمعزل عن المقاومة. لم تقف البجاحة بالكيان عند هذا الحد، فبعد العملية التي نفذها أحد أبناء العشائر الأردنية بحق الكيان رداً على العدوان على غزة، ضلعت الوحدة 8200 في محاولات بث التفرقة بين الشعبين الفلسطيني والأردني، ولا يمكن استبعاد أيادي الكيان عن الساحة السورية في بث الإشاعات وترسيخ الفتنة ونشر التضليل لخرق وحدة الشعب السوري، واستغلال أزماته الداخلية.

كما يشاع في الأوساط عن ضلوع بعض الدول العربية في حرب الشائعات التي تستهدف سوريا هذه الفترة. إلى جانب ذلك الجهات المُشغلة يمكن أن تشمل أيضاً مجموعات حزبية أو حتى شركات خارجية تُستأجر لتنفيذ حملات دعائية، والهدف الكامن وراء هذه الحملات، هو توجيه الرأي العام وفقاً لأجندة معيّنة، والسيطرة على الرواية الإعلامية.

سوريا ومعركة الذباب الإلكتروني.. رحلة طويلة

لعب هذا الذباب دوراً بارزاً في تأجيج الأوضاع السورية منذ عام 2011، فتقاذفت الأطراف آنذاك الإشاعات على مدى سنوات، ومارست التضليل في بعض الأحيان لخدمة مصالحها وإيهام جمهور الطرف الآخر بالهزيمة. لعلّ معركة ردع العدوان 2024 كانت مثال حيّ عن كيفية إدارة هجمات الذباب الإلكتروني. لكن التصعيد بلغ ذروته بعد سقوط الأسد.

مع نهاية عام 2024، وسقوط بشار نُشرت المعلومات المضللة، وتم تضخيم التوترات الطائفية، وقوّضت جهود تحقيق الاستقرار. في الشأن السوري غالباً هذه الحسابات مرتبطة بجهات فاعلة حكومية أو غير حكومية، مثل مؤيدي نظام الأسد، والقوى الخارجية الداعمة لها (مثل روسيا وإيران)، أو فصائل أو مجموعات طائفية أو عرقية متنافسة والقوى الخارجية الداعمة لكل منها. وتفيض المنصات الإلكترونية بجنود الذباب، خلال أحداث رئيسية مرّت بها سوريا، إذ يتم التلاعب بالروايات على منصات مثل تويتر (X)، فيسبوك، وتلغرام، لتفاقم حالة عدم الاستقرار والفوضى والتناحر بين أبناء البلد الواحد.

لعلّ أشرس الهجمات مورست في أحداث الساحل السوري في آذار 2025، إذ ضخّم الذباب الإلكتروني روايات كاذبة حول التدخلات الأجنبية والاشتباكات الطائفية، ورُصد تضخم الضخ قبيل الأحداث وأثناءها. كما أفادت قناة DW الألمانية أن هذه الحسابات، التي يعمل بعضها من الخارج، نشرت معلومات مضللة لتفاقم الأزمة، بما في ذلك مزاعم كاذبة عن غزوات عسكرية خارجية لإثارة الذعر بين السوريين من جهة، ومعلومات تضليلية تحريضية طالت الأقليات من جهة أخرى.

تلاها الهجمات الإلكترونية في نيسان 2025 في أحداث جرمانا وأشرفية صحنايا، وكانت عالية التنسيق، إذ تم تحليل سلوك الحسابات الإلكترونية التي كانت تنشر معلومات مضللة بشكل مكثف، حيث كانت تعيد التغريد لمصادر محددة دون تقديم تعليقات شخصية، مما يدل على وجود تنسيق واضح بين هذه الحسابات. وترافق تصاعد الخطاب الطائفي والتحريضي على وسائل التواصل الاجتماعي مع زيادة في أعمال العنف على الأرض، حيث شهدت سوريا صدامات عنيفة استهدفت الأقليات الدينية، مما أدى إلى إيقاع ضحايا من المدنيين وقوات الأمن والجيش.

كما أن الذباب ليس بعيداً عن أحداث السويداء الأخيرة من حيث التحريض قبل الأحداث وعند وقوعها، حتى أنه ما زال مستمراً حتى اليوم. وتم رصد العديد من فيديوهات التضليل التي تم تداولها على منصات التواصل الاجتماعي وتبيّن فيما بعد كذبها، بعد أن أثارت الرأي العام وأججته.

في سياق متصل، بينت تحقيقات صحفية أن الفتنة الطائفية في سوريا كانت تُشعَل من خلال “ذباب إلكتروني” خارجي. هذا الذباب لم يكن محلياً، بل كان مدعوماً من جهات أجنبية تهدف إلى إثارة التوترات بين الطوائف المختلفة. وتم رصد أكثر من مليوني منشور على منصة “إكس” متعلق بالأحداث في سوريا، حيث احتوت تلك المنشورات على خطاب الكراهية وبعض المعلومات المضللة، كما استخدمت هذه البوتات مقاطع فيديو مُعاد تدويرها من مراحل صراع سابقة لتصوير الاشتباكات الجارية بشكل زائف أو مبالغ فيه بشكل كبير. مما أدى إلى تصاعد العنف الطائفي في البلاد. ليُطرح سؤال مهم هنا، من يحرك الشارع السوري حقاً، الحدث نفسه أو الذباب الإلكتروني؟

اقرأ أيضاً: الإعلام والسياسة في سوريا الجديدة: من يصنع الرأي العام فعلاً

رصد حسابات وهمية في سوريا.. كيف نكافحها

كشف وزير الإعلام السوري “حمزة المصطفى” في حزيران الماضي بعد أحداث السويداء، عن وجود ما يقارب 300 ألف حساب وهمي على منصات التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا، هدفها نشر الأخبار المضللة التي تستهدف السوريين عبر خطابات تحريضية وتعتمد على تزييف الحقائق وشحن الشارع. وأضاف أن الوزارة رصدت تحركات الحسابات والإحصائيات الأولية تشير إلى وجود نحو 300 ألف حساب فاعل، يعمل على نشر محتوى مضلل، مشيراً إلى أن تلك الحسابات “تتوزع على 4 دول رئيسية”، لم يقم بتحديدها. لفت الوزير إلى أن “المحتوى المضلل الذي يُنشر، يأخذ أشكالاً مختلفة، بعضها مؤيد للدولة ولكنه يهتم بنشر خطاب تقسيمي”. وكنا قد تحدثنا في مقال سابق عن أبرز ما جاء به الوزير حول هذه الحسابات الوهمية.

لمواجهة تلك الهجمات علينا أولاً سد الفراغ المعلوماتي في سوريا، والانتباه إلى محدودية وسائل الإعلام الموثوقة، ما يضخم تأثير الذباب الإلكتروني. إضافةً إلى تعليم الجمهور كيفية التحقق من المعلومات أو على الأقل الشك بها قبل مشاركتها. ووضع آليات واضحة للإبلاغ عن الحسابات الوهمية على منصات التواصل الاجتماعي. لوزارة الإعلام والمؤسسات التابعة لها دور محوري في نشر هذه الثقافة، إلى جانب العمل على تمكين وتطويع أدوات وتقنيات التحقق من صحة الأخبار والمعلومات المتداولة على الإنترنت، والأهم على الإطلاق، العمل على سن قوانين تجرّم إنشاء ونشر الأخبار الكاذبة والهجمات الإلكترونية، مما يساعد في تقليل انتشار الذباب الإلكتروني. كما فعلت العديد من دول الخليج في العامين 2024 و2025.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى