لطالما كان الفن مرآة تعكس آلام المجتمعات وجوارحها وتجسد مخاوفها، تترجمها إما في لوحة تصرخ ألوانها بالقضية المجسدة، أو بأغنية يحتضن لحنها صدى الألم وينقل المعاناة عبر الكلمات، وهذا ما أظهره معرض “معتقلون ومغيبون”.
يشكل الفن رسالة الإنسان التي يبوح بها عن مكنوناته ويجسد آلامه من خلالها ويسلط الضوء على قضايا تكاد تكون منسيه لولا خلود الفن.
ففي المتحف الوطني بالعاصمة دمشق، عانق الألم والرجاء سكون المكان واخترق هيبته معلناً افتتاح معرض “معتقلون ومغيبون” المنظم من قبل منصة “ذاكرة إبداعية للثورة السورية”، برعاية من وزارة الثقافة والمديرية العامة للآثار والمتاحف، حيث يستمر المعرض حتى السادس من حزيران من العام الحالي.
أقسام معرض ” معتقلون ومغيبون” وأبرز الحاضرين
ينقسم المعرض إلى عشرة فصول تعيد فتح فصول الذاكرة السورية المشبعة بالألم، فلقد جمعت تلك الأقسام نتاج 14 عام من العمل المتواصل المكرس لتوثيق معاناة السوريين عبر الفن.
وأرادت الفنانة سناء اليازجي مديرة منصة “ذاكرة إبداعية للثورة السورية” أن توثق شكلاً من أشكال السعي نحو العدالة عن طريق بوابة الفن.
فصول المعرض تجسد عمر الثورة وصولاً للختام بلوحة “سقوط المخلوع”. فكانت البداية من العام 2011: عام الاعتقال الأول، إلى 2012: الفن في المعتقل، ثم 2013: التدهور الكبير الذي رافقه كيماوي الغوطة، وقيصر 2014-2015، 2016-2017: المسالخ البشرية، مروراً ب 2018: قوائم الموت، حتى 2019-2020: محاكمات لانتزاع العدالة، وصولاً إلى 2024-2025: سقوط الطاغية.
وأوضحت اليازجي أن الدافع الأهم لهذا العمل التوثيقي منذ بداية الثورة هو صون هذه الأعمال وحفظها لأن النظام البائد كان قاتل لكل شيء حتى التعبير، ويعتبر أي محاولة فنية تعبيريّه خطراً عليه ومزعزعة لأركانه، فقد غيب العديد من الفنانين بالمعتقلات واعتقل آخرين بوحشية مطلقة.
ويذكر أن منصة “ذاكرة إبداعية” تأسست في العام 2013 كأرشيف رقمي له استقلاليته الخاصة يوثق كافة أشكال التعبير الحر الفني والفكري في سوريا منذ اندلاع الثورة، وتعتبر حافظة لباكورة النتاج الإبداعي السوري في مواجهه سياسة القمع والتكميم والتعتيم.
وبحضور لافت لوزير الثقافة السيد محمد ياسين صالح وإشادته بالمعرض قال: “نفتتح هذا المعرض بالتزامن مع صدور المرسوم الجمهوري القاضي بتشكيل الهيئة الوطنية للمفقودين، إيماناً منا بأن الثقافة لا تبنى إلا على أسس الحقيقة ولا كرامة تصان إن لم نمنح المغيبين حقهم في المعرفة والاعتراف”.
أما أمينة سر المتحف الوطني بدمشق الدكتورة ريما خوام أشادت برمزية احتضان هذه الفعالية في هذا المكان بالذات، حيث تعد المرة الأولى التي يحتضن فيها المتحف الوطني بدمشق هذا النوع من المعارض بهذه الجرأة والشفافية، فصرحت قائلة: “هذا المكان يؤرخ لتاريخ الإنسان، ويمنح اليوم في جنباته مساحة لذاكرة السوريين المعاصرة عن الألم والصبر والفقد”.
ومن جهته صرح حسام براقي ممثل مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية من أجل الديمقراطية الاجتماعية والداعم لمنصة ذاكرة إبداعية للثورة السورية، قائلاً: “المعرض فعل سياسي ودعوة إلى الكرامة وإلى تحقيق العدالة لا بالتمني بل بالعمل والسرد والمواجهة، نحو سوريا أكثر عدلاً وإنسانية”.
اقرأ أيضاً: مرسوم رئاسي بتشكيل «الهيئة الوطنية للمفقودين»
معارض مشابهه له على أراضي الجمهورية العربية السورية
أقيم في معرض الباب بريف حلب الشمالي، معرض فني من قبل رسامات سوريات حمل عنوان “نبض السجون”، من خلاله وثقت الانتهاكات التي تعرض لها المعتقلون في سجون النظام من خلال عشرات اللوحات التشكيلية.
شارك في هذا المعرض 12 فنانة سورية من خلال 72 لوحة جسدت حالات التعذيب والمعاملة الوحشية التي واجهت المعتقلين في أقبية سجون الأسد الأمنية، لتكون هذه اللوحات صدى صوت المعتقلين في ظلمات السجون.
وقد صرحت إحدى المشاركات صالحة طه لوكالة الأناضول أنها شاركت بالمعرض عبر 5 لوحات “لدعم الأسرى وعائلاتهم”، وأشارت إلى تركيزها في لوحاتها المقدمة على أحلام السجناء وآمالهم.
وفي توثيق آخر لمراحل الثورة السورية عبر الفنون ومعارضها أقيم معرض فني بعنوان “رحلة انتصار” في مديرية الثقافة بحماة رصد واقع الثورة السورية وبدايتها منذ سلميتها حتى انتصارها.
أهم ما ميز هذا المعرض تقديمه السرد البصري لمسار الثورة عبر لوحات حاكت المظاهرات السلمية وما قوبلت به من قمع بالرصاص مروراً بالمعتقلات والدمار الذي خلفه القصف الوحشي وصولاً لمراحل التحرير مع التركيز على رموز الثورة وأيقوناتها.
وصرح الفنان محمد أسامة السلقيني المشارك في المعرض لوكالة سانا: “إن اللوحات تتحدث بلسان الشهداء والمناضلين أبناء الثورة”.
وقد عبرت سمية عمرين أحد زائرات المعرض، عن أن هذه خطوة فنية جريئة في سوريا ما بعد الحرب، تروي قصة شعب عانق الحرية بعد أن تشجع وطالب بها.
اقرأ أيضاً: ناجون من سجن صيدنايا يعيشون كابوس الحياة بعد الاعتقال
معارض دولية تطرح ” التجسيد الفني للاعتقال” بصورة مغايرة لمعرض “معتقلون ومغيبون”
افتتح معرض “لا يمكن إغلاق الطريق أمام الفن والأدب” في برن السويسرية، حيث جرى من خلاله عرض أعمال المعتقلين السياسيين في السجون التركية وكوردستان، وهذا المعرض كان إضاءة على أعمال المعتقلين وليس قضاياهم فحسب.
وافتتح المعرض عبر جمعية دعم معتقلي “الفرات- دجلة” في بيت الثقافة في بروغر في برن، ومن خلاله عرض كاريكاتور آينور ابلي المعتقلة منذ 28 عام ومحمد بوغا تكين المعتقل منذ 26 عام مع عرض رسائل ويوميات المعتقلين، ليكون هذا المعرض فريد من نوعه يحاكي فكره الاعتقال ومعاناته ويجسدها بالفن لكن بلسان حال المعتقلين أنفسهم.
وعلى غراره أقيم معرض أعمال فنية لسجناء “جوانتانامو” في عام 2017 في مدينة نيويورك حيث سلطت جريدة “الجارديان” البريطانية الضوء على هذا المعرض الفني.
وكان أبرز الأعمال المعروضة مجسم لسفينة كبيرة ابتكره السجين معاذ العلوى، وكان قد صنعه من الكرتون المقوى والزجاجات البلاستيكية وبعض من خيوط سجادة الصلاة وحبات السبحة، ويعتبر واحد من 36 عمل فني أبدعها السجناء وهم مقيدين في زنازينهم.
ختاماً، معرض “معتقلون ومغيبون” أوصل رسالة أن الفن أداة الشعوب في ترسيخ أحلامها وتجسيد معاناتها، وهو أرشيفها الممزوج بلحظات الفرح والحزن. ليشكل بذلك الذاكرة البشرية بمختلف انفعالاتها ويكون بصمة رمزية للصراع الإنساني المعبق بالألم و المفعم بالإبداع.
اقرأ أيضاً: كاريكاتير: الإفراج عن المعتقلين في سوريا