مقال رأي: د. مشهور سلامة
في الفترات القليلة الماضية، تزايد بشكل لافت حجم التغطية الإعلامية الدولية التي تستهدف “الملف السوري: المفاوضات الأمنية مع إسرائيل”، وتحديدًا في السياق السوري. أثار الضخ الإعلامي المكثفّ تساؤلات مباشرة حول ما إذا كانت هناك مفاوضات غير مُعلنة، أو مسارات خلفية تُرسم بصمت في دهاليز السياسة.
هذا التركيز المكثّف، في توقيته وشكله، ليس بريئًا. إنه يعكس، على الأرجح، رغبة دولية وإقليمية في استشراف مشهد قادم، أو بالأحرى “تخيُّل مشهد” لم يُكتب بعد. وهنا يُطرح السؤال بصيغته الجوهرية:
هل ما يجري هو قراءة واقعية لمتغيرات المنطقة؟ أم محاولة لصناعة واقع بديل عبر الإعلام؟
“الملف السوري”، لمن أراد أن يقرأه، (ليس ورقة تفاوض تُختزل في البُعد الأمني فحسب)، هو نتيجة لتراكم تاريخي من التضحيات، للتقاطعات الإقليمية، للخذلان الدولي، ولإصرار شعب لم يختر التبعية. سوريا، كما نعرفها، ليست كيانًا هشًا يمكن الضغط عليه ببضع مقالات أو تقارير. هي فصل مركّب من كتاب الشرق الأوسط الجديد، ووجودها في هذا الكتاب ليس هامشيًا، بل محوريًا.
يخطئ من يظن أن المفاوضات الأمنية، أو غير الأمنية، تُدار فقط على طاولات مغلقة أو عبر وسطاء مجهولين. بل إن “الوعي العام، والذاكرة الشعبية، والثوابت الوطنية، هي جزء من المعادلة التفاوضية، شاء من شاء وأبى من أبى.
لا يمكن لصفقة أن تمر في سوريا دون أن تُدققها عيون من سكنوا المخيمات، ومن صمدوا في الزنازين، ومن كتبوا على الجدران ذات يوم: “الحرية“.
نحن اليوم أمام (سيولة جيوسياسية عالية)، وخلط أوراقٍ لم يكتمل بعد. تعثر مشاريع التطبيع، تصاعد التوتر على أكثر من جبهة، وانكشاف منظومات كانت تدّعي أنها بدائل للاستقرار. في هذا السياق، يُعاد تحريك الملف السوري كـ“مساحة اختبار” لما إذا كان بالإمكان فرض مسار تفاوضي يشبه التطويع لا التفاوض.
لكن ما يغيب عن كثير من المحللين، هو أن الصوت السوري اليوم – حين يُسمَع – فهو قادم من رحم الحرية لا من جوقة التبعية.
وإذا كانت دمشق تسمع في كل العواصم، فلأنها دفعت ثمن كرامتها من دمها، لا من دفتر شيكاتٍ سياسي.
ختامًا، لا نُمانع في قراءة المشهد بتأنٍ، ولا نغلق أبواب التحليل الواقعي. ولكننا نرفض أن نكون بيادق في لعبة سرديات إعلامية يراد لها أن ترسم خريطة مستقبلنا. المفاوضات لا تبدأ من الأمن، بل من الحق.
والسلام لا يُصنع في العلن إذا كانت النوايا لا تزال في الظل. ﴿إن التركيز المكثف من وسائل الإعلام الدولية على ما يُعرف بملف ‘المفاوضات الأمنية مع إسرائيل’ لا يأتي من فراغ، بل يعكس رغبة ملحّة لدى صُنّاع القرار والمراقبين في استشراف مشهد سياسي لم تتبلور ملامحه بعد﴾.
الملف السوري، في جوهره، ليس مجرد ورقة تفاوض تُقرأ من زاوية واحدة، بل هو فصل مركّب من كتاب الشرق الأوسط الجديد، حيث تتقاطع المصالح الإقليمية والدولية في ساحة مزدحمة بالتناقضات.
لذلك، فإن التعاطي مع هذا الملف يتطلّب: قراءة متأنية وواعية للواقع السياسي القائم على الأرض، لا اندفاعات إعلامية عاطفية أو قفزات تحليلية لا تعبّر عن حقيقة التوازنات ولا عن الثوابت الوطنية السورية.
اقرأ أيضاً: رئيس حركة التجديد الوطني: لا مستقبل لهذا البلد بالعفو وحده، ولا بالانتقام
————————————————————————————————————
تنويه
يفتح موقع «سوريا اليوم 24» صفحاته لكل من يحمل رأياً ويرغب في التعبير عنه بحرّية ومسؤولية، إيماناً منا بأن الحوار هو السبيل الأمثل لفهم الواقع وصياغة المستقبل. نحن نُجري لقاءاتنا مع ضيوف من مشارب فكرية وسياسية متعددة، نستمع إليهم ونعرض ما لديهم بأمانة وموضوعية. ولكن نشرنا لآرائهم لا يعني بالضرورة تبنّيها، بل يأتي في إطار رسالتنا الهادفة إلى ترسيخ ثقافة الحوار وتبادل الرؤى في فضاء من الاحترام والانفتاح.