في خطوة وصفت بأنها “نقلة نوعية” في التاريخ الاقتصادي لمحافظة إدلب، أعلنت السلطات المحلية ممثلة بمحافظ إدلب، السيد محمد عبد الرحمن، وبالتنسيق مع الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية، عن الانطلاق الرسمي للعمل في إنشاء منطقة حرة اقتصادية في الجهة الشرقية من المحافظة.
ويأتي هذا المشروع ليكسر عقوداً من التهميش الاقتصادي الذي عانت منه إدلب، والذي يصفه الباحث الاقتصادي حيان حبابة بأنه لم يكن مجرد إهمال، بل “قرار سياسي ممنهج لعزلها اقتصادياً” خلال فترة حكم نظام الأسد البائد.
واليوم، ينظر إلى هذا المشروع باعتباره محاولة جادة لإعادة دمج المحافظة في الخريطة الاقتصادية والاستثمارية السورية وكنقطة انطلاق محتملة لتعافٍ طال انتظاره.
ويقع المشروع على ملتقى طرق دولية بالقرب من مدينة سراقب، ما يمنحه ميزة لوجستية استراتيجية، ويمتد على مساحة ضخمة تتجاوز مليوناً ومئة وخمسة آلاف متر مربع، ليضم منطقة صناعية وتجارية، بالإضافة إلى ميناء جاف حديث يعد عصب المشروع وركيزته الأساسية.
ما هي المنطقة الحرة؟ وما هو دورها في السياق السوري؟
تعرف المنطقة الحرة بأنها مساحة جغرافية محددة تتمتع بأنظمة اقتصادية وتشريعية خاصة، وتدار هذه المناطق من قبل “المؤسسة العامة للمناطق الحرة”، وهي جهة حكومية مسؤولة عن الإشراف على هذه المناطق وتنظيم عملها.
وعادةً ما تنشأ هذه المناطق قرب الموانئ والمطارات أو على الحدود لتسهيل عمليات الاستيراد والتصدير، وتوفير بيئة عمل مرنة بعيداً عن التعقيدات البيروقراطية.
وتهدف بشكل أساسي إلى جذب الاستثمارات ورؤوس الأموال المحلية والأجنبية، ويتم ذلك عبر تقديم حزمة من الحوافز، أبرزها تسهيل حركة التجارة وإعفاء البضائع الواردة والصادرة من الرسوم الجمركية والضرائب التقليدية.
وفي سوريا، لا تعتبر المناطق الحرة مفهوماً جديداً، بل تشكل ركيزة أساسية في البنية الاقتصادية، حيث توجد ثماني مناطق حرة أخرى موزعة في مواقع استراتيجية مثل دمشق، عدرا، حلب، اللاذقية، وطرطوس.
وهذه المناطق، التي تديرها حالياً الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية، كانت تشهد نشاطاً كبيراً قبل عام 2011 في قطاعات تجارة السيارات والمواد الغذائية والصناعات التحويلية.
ويأتي مشروع إدلب في سياق توجه حكومي أوسع لإعادة تفعيل وتطوير هذه المناطق، حيث تم مؤخراً توقيع مذكرات تفاهم مع عدد من الشركات الدولية الكبرى، من بينها “موانئ دبي العالمية” (دي بي ورلد) التي استثمرت 800 مليون دولار أميركي لتطوير وإدارة وتشغيل محطة متعددة الأغراض في ميناء طرطوس، إضافة إلى شركة “CMA CGM” العالمية المتخصصة في مجال النقل البحري والخدمات اللوجستية، بهدف إنشاء وتشغيل موانئ جافة في كل من المنطقة الحرة السورية الأردنية المشتركة، والمنطقة الحرة في عدرا بريف دمشق، فضلاً عن شركة “Fidi Contracting” الصينية لتطوير وتشغيل مناطق حرة وموانئ جافة في أنحاء البلاد.
وفي السياق ذاته، أعلنت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية في 24 نيسان الماضي عن فتح باب التسجيل على الفرص الاستثمارية في المناطق الحرة داخل الجمهورية العربية السورية، داعية المستثمرين الراغبين في التسجيل إلى مراجعة المنطقة الحرة المراد الاستثمار بها، وذلك اعتباراً من يوم الأحد الموافق 2025/04/27م.
وأكدت الهيئة أن الفرص الاستثمارية متاحة للسوريين وغير السوريين على حد سواء، حيث يحصل الجميع على التسهيلات ذاتها، شريطة الالتزام بالإجراءات القانونية لتسجيل الشركات والمشاريع وفق القوانين المعمول بها داخل سوريا.
اقرأ أيضاً: المناطق الحرة حاضنات الاستثمار.. التوزيع وحجم الإيرادات
الأثر الاقتصادي المتوقع: طموحات واسعة وفرص واعدة
تعلق آمال كبيرة على مشروع المنطقة الحرة في إدلب لتحقيق جملة من الأهداف التنموية والاقتصادية؛ في مقدمتها، تنشيط الحركة التجارية والصناعية في المحافظة، وخلق آلاف فرص العمل التي تساهم في خفض معدلات البطالة المرتفعة.
كما يتوقع أن يستقطب المشروع صناعات جديدة وواعدة، ويجذب رؤوس أموال واستثمارات خارجية، مما يسهم في رفد الاقتصاد الوطني بالقطع الأجنبي وتقوية الليرة السورية.
ويمثل الميناء الجاف المتوقع إنشاؤه أداة حيوية لتحقيق هذه الأهداف، حيث سيمكن التجار والصناعيين والمزارعين من تصدير منتجاتهم مباشرة إلى الأسواق الخارجية، واستيراد احتياجاتهم من المواد الأولية والبضائع دون المرور بالمرافئ البحرية البعيدة، وهو ما يختصر الزمن والتكاليف ويعزز القدرة التنافسية للمنتج المحلي.
آراء الخبراء: بين التفاؤل والتحفظ
يحظى المشروع بدعم وتفاؤل كبيرين من الجهات الرسمية والمحلية، فقد أكد السيد محمد عبد الرحمن، محافظ إدلب، أن هذا المشروع “استراتيجي ومهم” لخلق بيئة استثمارية محفزة.
ومن جهته، شدد السيد قتيبة بدوي، رئيس الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية، على أن المشروع يحظى بدعم كامل من القيادة باعتباره “رافعة اقتصادية وتنموية” لأهالي إدلب، موجهاً بتسريع وتيرة العمل لإنجازه.
وعلى الجانب التحليلي، يرى الباحث حيان حبابة أن المنطقة الحرة قد تكون نقطة انطلاق حقيقية للتعافي، لاسيما في ظل الحديث عن تخفيف العقوبات، مشيراً إلى تحدٍ رئيسي يتمثل في الخشية من أن تؤدي الإعفاءات الجمركية إلى إغراق السوق المحلية بالمنتجات الأجنبية الرخيصة، مما يضعف قدرة المنتج المحلي على المنافسة.
ويؤكد حبابة إن الوضع الراهن يفرض استيراد السلع بأسعار مقبولة، خاصة مدخلات الإنتاج، لأن “الإنتاج المحلي لم ينطلق بعد”.
ويشير مراقبون إلى أن نجاح هذه المرحلة الانتقالية يتطلب سياسات مرنة توازن بين تلبية حاجات السوق وحماية الإنتاج الوطني مستقبلاً.
اقرأ أيضاً: الموانئ الجافة: نقطة انطلاق قوية لتعزيز الاقتصاد السوري
الوفاء يهون العطاء
يحمل مشروع المنطقة الحرة في إدلب، بشعاره “الوفاء يهون العطاء”، وعوداً بتحول اقتصادي كبير في شمال غرب سوريا.
ومع إعلان خطط موازية لإنشاء منطقة حرة ثانية مخصصة لتجارة السيارات، يبدو أن الطموحات تتجاوز مجرد مشروع واحد لتشمل إعادة هيكلة شاملة للقطاعات الحيوية في المحافظة.
لكن الطريق من الحلم إلى الواقع محفوف بالتحديات، فنجاح هذا المشروع الضخم مرهون بتوفير بنية تحتية قوية، وضمان حوكمة اقتصادية شفافة، وتحقيق استقرار أمني دائم لاستعادة ثقة المستثمرين.
وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل ستنجح الجهات القائمة على المشروع في توفير هذه الشروط، وتحويل هذا الطموح الكبير إلى واقع ملموس يغير حياة السكان، أم ستبقى التحديات الراهنة عائقاً أمام تحقيق الوعد الاقتصادي المنتظر؟