المجتمع السوري

مخلفات الحرب في سوريا تحصد أرواح الأبرياء في ظل مأساة لم تنتهِ

لم ينجُ السوريون من الموت حتى بعد سقوط النظام السابق، ففي الوقت الذي اعتقدوا فيه أنهم بأمان للعودة إلى منازلهم ومناطق رزقهم، تحولت هذه العودة إلى مشهد قاتم في حياتهم. هذا الواقع دفع بالضرورة إلى التركيز على مخلفات الحرب التي أزهقت أرواح المدنيين الأبرياء، واستعراض آليات تنفيذ عمليات التخلص منها، بالإضافة إلى تسليط الضوء على المنظمات المحلية والدولية التي تعمل على إزالتها، في ظل وجود أسباب عديدة أدت إلى ارتفاع حالات الوفاة والإصابات.

فقد حذرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقرير صدر في نيسان من تزايد ضحايا مخلفات الحرب في سوريا منذ سقوط النظام وحتى اليوم، وأشارت أن السبب يعود إلى الانتشار الواسع للمتفجرات الناتجة عن الأسلحة المستخدمة خلال صراع استمر منذ 14 عاماً.

كما شددت المنظمة على أن عودة آلاف العائلات النازحة إلى منازلها تتم غالباً دون وعي بمخاطر هذه المتفجرات، مما يزيد من احتمالية وقوع المزيد من الضحايا. لذلك دعت الحكومة السورية إلى الإسراع في تنفيذ عمليات مسح شاملة للأراضي ونزع الألغام والمخلفات الحربية.

بينما أوضح الباحث في قسم الأزمات والنزاعات بالمنظمة ريتشارد وير أن الوضع الحالي يمثل فرصة نادرة بعد أكثر من عقد لمعالجة هذه المشكلة بطريقة منهجية عبر إزالة الألغام. لكنه حذّر في نفس الوقت من أن غياب التحرك الحكومي العاجل سيؤدي إلى استمرار إصابة المدنيين أو مقتلهم، ما يعرقل عودتهم إلى حياتهم الطبيعية واستعادة أراضيهم وسبل عيشهم.

أعداد الضحايا بسبب مخلفات الحرب في سوريا

يخسر المئات من المواطنين حياتهم بسبب مخلفات الحرب، سواء قبل سقوط النظام أو بعده، فبحسب تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش فإن مخلفات الحرب أودت بحياة ما لا يقل عن 249 شخصاً منذ اندلاع الثورة السورية، بينهم 60 طفلاً. كما أشارت بيانات المنظمة الدولية لسلامة المنظمات غير الحكومية أن هناك 379 شخصاً آخرين أُصيبوا منذ كانون الأول 2024 أي بعد سقوط النظام وبدء عودة الأهالي.

وفي إحصائية للمرصد الدولي للألغام الأرضية كشف أن الذخائر غير المنفجرة تسببت منذ عام 2011 وحتى اليوم في مقتل أو إصابة أكثر من 13 ألف شخص داخل سوريا، مما عكس حجم الكارثة الإنسانية الممتدة على حسب تعبيره.

وخلال شهر أيلول فقط سقط 23 مدنياً بينهم 12 طفلاً جراء مخلفات الحرب بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، وتوزعوا كالآتي:

  • مناطق الحكومة السورية: 18 ضحية (10 رجال و9 أطفال)، إضافة إلى إصابة 27 آخرين بينهم 16 طفلاً وسيدة.
  • مناطق الإدارة الذاتية: مقتل 3 (رجلان وطفل) وإصابة 4 بينهم طفلان.
  • مناطق سيطرة الجيش الوطني: مقتل طفلين وإصابة 3 آخرين بينهم طفلان.

ومن جانب آخر أعلنت وزارة الدفاع السورية أن عمليات تطهير المدن من الألغام والذخائر خلفت خسائر كبيرة في صفوفها، حيث قُتل 31 عنصراً وأُصيب 60 آخرون، بينهم 12 حالة بتر، إضافة إلى تدمير 16 آلية عسكرية خلال تسعة أشهر فقط من العمل الميداني.

وتفتح الإحصائيات السابقة تساؤلات حول الأسباب التي أدت إلى تفاقم أعداد المصابين والقتلى جراء الألغام ومخلفات الحرب.

أسباب تفاقم الإصابات

ذكرت هيومن رايتس ووتش في تقريرها أن أهالي الضحايا والشهود الذين قابلتهم خلال زيارتها لمناطق ملوثة بمخلفات الحرب لم يكونوا على علم بطرق التبليغ عن وجود متفجرات. وأوضح هؤلاء الأهالي أنهم لم يتلقوا أي معلومات مسبقة عن المخاطر، وهو ما جعل جهل السكان عاملاً أساسياً في وقوع إصابات ووفيات داخل عائلاتهم.

بينما أشار مسؤولون في الأمم المتحدة وخبراء في مجال الأعمال المتعلقة بالألغام إلى وجود عوائق كبيرة أمام الجهود الإنسانية لنزع الألغام، أبرزها:

  1. غياب المعلومات المنظمة والتنسيق الوطني.
  2. نقص المؤسسات والهيئات الرسمية المختصة.
  3. تشتت الهياكل الإدارية وتعدد السلطات على مدار سنوات النزاع.
  4. اتساع رقعة التلوث بالمتفجرات مما يزيد صعوبة السيطرة.
  5. شروط تنظيمية معقدة للتسجيل والتشغيل لا تتناسب مع قدرات منظمات الإغاثة.

وأضافوا أن هناك حاجة ملحة لتسريع الجهود الإنسانية في هذا المجال، ليس فقط من خلال نزع الألغام ومخلفات الحرب، بل أيضاً عبر أنشطة مساندة مثل المسح الميداني، التوعية المجتمعية، وتقديم الدعم للضحايا.

آلية العمل في إزالة الألغام ومخلفات الحرب

أوضح مؤيد النوفلي نائب المدير القطري لمنظمة “هالو ترست” المتخصصة في إزالة الألغام أن التعامل مع مخلفات الحرب عملية معقدة ومتكاملة، تمر بعدة مراحل متسلسلة:

التوعية المجتمعية: وذلك نشر رسائل إنقاذ للحياة تستهدف المدنيين لرفع وعيهم بمخاطر الألغام والذخائر غير المنفجرة، وهي خطوة أساسية تحتاج إلى تدريب متخصص.

المسح غير التقني: عبر جمع المعلومات حول أماكن وجود الألغام ومخلفات الحرب وتوثيقها بدقة.

التدريب المتخصص: يشمل مستويات مختلفة من التدريب على المسح والتخلص من الذخائر غير المنفجرة وفقاً للمعايير الدولية الإنسانية.

إزالة الألغام والتطهير الميداني: عملية التخلص المباشر من الألغام وذخائر الحرب غير المنفجرة لتأمين الأراضي.

وأكد النوفلي أن جميع العاملين في المنظمة يتلقون تدريبات معتمدة دولياً، لضمان تنفيذ هذه المراحل بأعلى درجات الأمان والدقة، بحيث لا يقتصر العمل على إزالة الخطر فقط، بل يشمل أيضاً الوقاية المسبقة وحماية المدنيين عبر التوعية.

توصيات منظمة هيومان رايتس ووتش للحكومة السورية

قدمت منظمة هيومن رايتس ووتش مجموعة من التوصيات للحكومة السورية لتفادي وجود مزيد من الضحايا، ومنها:

  • إنشاء مؤسسات وطنية مستقلة متخصصة بالألغام، مثل هيئة ومركز وطني لتنسيق الأعمال الميدانية والإدارية وفق المعايير الدولية.
  • توحيد آليات جمع البيانات وتبادلها بين الجهات المختلفة.
  • إعطاء الأولوية لجهود إزالة الألغام وتأمين التمويل الكافي، مع تعزيز التوعية بالمخاطر وتدريب كوادر إضافية.
  • إزالة العوائق الإدارية التي تعرقل عمل المنظمات المتخصصة، وتسهيل دخول خبرائها واستخدام معداتهم.
  • إطلاق نظام وطني للتبليغ عن التلوث بالمتفجرات بشكل آمن وسري.
  • دمج حملات التوعية ضمن خطط عودة النازحين وضمان سلامتهم في المناطق السكنية والزراعية.
  • إنشاء قاعدة بيانات وطنية للضحايا وذوي الإعاقة لتسهيل وصولهم إلى الرعاية وإعادة التأهيل والدعم النفسي والاجتماعي.
  • إجراء تحقيقات شفافة في انتهاكات الجماعات المسلحة التي تستخدم الألغام أو العبوات الناسفة.
  • الانضمام إلى معاهدة حظر الألغام (1997) و اتفاقية حظر الذخائر العنقودية (2008)، والتعهد بالتخلص من المخزونات المتبقية.

توصيات هيومن رايتس ووتش للجهات الدولية

  • إعطاء أولوية لإزالة الألغام والتوعية بالمخاطر، وزيادة دعم برامج مساعدة الناجين.
  • تعزيز التنسيق بين الأمم المتحدة، الحكومات، والجهات الإنسانية في مجال الأعمال المتعلقة بالألغام.
  • دعم أنظمة إدارة المعلومات لتوحيد جمع البيانات ومشاركتها.
  • الضغط على سوريا للانضمام إلى معاهدة حظر الألغام (1997) واتفاقية الذخائر العنقودية (2008).
  • توفير تمويل مرن وطويل الأمد للمنظمات العاملة في إزالة الألغام.
  • الاستثمار المستدام في برامج دعم الضحايا، بما يشمل العلاج الجسدي، الرعاية النفسية، الأطراف الاصطناعية، التعليم، الإدماج الاجتماعي، وفرص كسب العيش.

المنظمات العاملة على الأرض

لا بد من ذكر أن هناك منظمات دولية معينة تعمل على الأراضي السورية المعرضة لوجود مخلفات حرب فيها، ومنها اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي تعتمد فرقها على تقنيات متخصصة، منها أجهزة كشف المعادن للبحث تحت الأرض، بالإضافة إلى أسلوب “الخطاف والحبل” الذي يسمح بسحب الذخائر عن بعد بشكل آمن.

من أبرز المناطق التي تركز فيها جهود المنظمة بلدة برلهين في ريف حلب الشرقي، وقد كانت هذه البلدة تحت سيطرة تنظيم “داعش” وتعد من أخطر المناطق الملوثة بالذخائر. ومع عودة السكان إليها، ازدادت الحاجة الملحة لإزالة هذه المخاطر.

وبحسب المسؤول في وحدة الحد من آثار التلوث بالأسلحة في الصليب الأحمر سامر حداد، فقد تم خلال الأشهر الستة الأخيرة مسح 3 كيلومترات مربعة من الأراضي، وإزالة أكثر من 400 ذخيرة غير منفجرة من المنازل والحقول، إضافة إلى تفجير 100 قطعة ذخيرة بشكل آمن.

كما تم إطلاق أنشطة توعية بالتعاون مع الهلال الأحمر العربي السوري في حلب، استفاد منها نحو 2500 شخص، بهدف رفع وعي الأهالي حول مخاطر المتفجرات وكيفية التعامل معها.

مشاركة النساء في إزالة الألغام

تشارك النساء في جهود إزالة الألغام ضمن منظمة هالو ترست، حيث ترى إحدى المتدربات أن دافعها الأساسي هو الجانب الإنساني المتمثل في حماية الأرواح والمساهمة في إعادة الإعمار، إضافة إلى الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع. كما أشارت أيضاً إلى أن وجود النساء في هذا المجال مهم بسبب الاعتبارات الثقافية التي تسهل تواصلهن مع نساء أخريات في المجتمع مما يعزز من فعالية العمل.

كما أوضحت المنظمة أن عدد البلاغات عن وجود ألغام ومخلفات حرب مرتفع جداً، إذ تتلقى الفرق عدة بلاغات يومياً نتيجة انتشار التلوث بشكل واسع في المنازل، محيطها، والأراضي الزراعية. هذا الكم الكبير من البلاغات يشكل تحدياً مستمراً، حيث يفوق حجم التلوث القدرة الحالية للفرق الميدانية على الاستجابة الكاملة.

معايير السلامة وأهمية الالتزام بها

بعد الطرح السابق أصبح لا بد من الحديث عن معايير السلامة التي تقي الكثير من المواطنين التعرض للموت أو الإصابة جراء مخلفات الحرب، وهنا يشير العميد محمد الخالد الخبير العسكري المتخصص في الذخائر والألغام، أن جزءاً كبيراً من الكارثة في شمال سوريا يعود إلى إهمال معايير السلامة في تخزين ونقل الذخائر، حيث غالباً ما تُخزَّن قرب المناطق السكنية، ما يضاعف المخاطر على المدنيين. ويؤكد أن الحل يتطلب خططاً وطنية ودولية لإزالة الألغام، وتوفير فرق مدربة ومجهزة، إلى جانب رقابة صارمة على عمليات التخزين، مع دعم تقني ومالي عاجل للجهات الميدانية.

أما على مستوى المجتمعات المحلية، فتشير هيومن رايتس ووتش إلى أن غياب استجابة وطنية فعالة دفع الأهالي للاعتماد على متطوعين محليين في إزالة الألغام من أراضيهم، رغم أن معظم هؤلاء يفتقرون إلى التدريب الرسمي والمعدات المتخصصة، مما يزيد المخاطر بدلاً من الحد منها، وعلى الرغم من أنها طريقة غير سليمة تماماً، إلا إنهم وجدوا فيها طريقاً للتخلص من مخلفات الحرب.

باختصار، مشهد الموت لا يزال يطوف حول السوريين في ظل انتشار مخلفات الحرب بشكل كبير، والإسراع في معالجة هذا الموضوع سيسهل على الناس العودة الأمنة، ويساعد على إعادة الإعمار دون خوف من تفجير هنا وإصابة هناك.

اقرأ أيضاً: ثروة تحت الأنقاض.. كيف يمكن استثمار ركام الحرب في سوريا؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى