أعمال واستثمار

ما سرّ ارتفاع سعر صرف الدولار في سوريا الآن؟!

الكاتب: أحمد علي

في أسواق سوريا اليوم، يتساءل الكثيرون عن السرّ وراء القفزة المفاجئة لسعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الليرة السورية. فبعد فترة من الاستقرار النسبي، عاد سعر الدولار للارتفاع الآن، مما أثار القلق والتكهنات حول الأسباب الخفية لهذه الزيادة. هل الأمر مرتبط بعوامل آنية عابرة، أم أنّ هناك أسباباً أعمق جذوراً في صميم الاقتصاد السوري المنهك؟ في هذا التقرير، نغوص في خفايا ارتفاع سعر صرف الدولار في سوريا، ونسلط الضوء على آراء الخبراء الاقتصاديين السوريين – من حكوميين وغير حكوميين – لفهم ما يجري في المشهد المالي والأسواق السورية.

زيادة الرواتب 200% وارتفاع سعر صرف الدولار

عندما أعلنت الحكومة السورية زيادة الرواتب بنسبة 200% في حزيران 2025، بدا القرار للوهلة الأولى أشبه بطوق نجاة لملايين الموظفين المنهكين من الغلاء وتآكل القدرة الشرائية. فقد ارتفع الحد الأدنى لأجور العاملين في الدولة من 250 ألف ليرة إلى 750 ألف ليرة شهرياً، أي ما يعادل نحو 50 دولاراً فقط بالسعر السوقي. هذه القفزة في الرواتب هي الأكبر من نوعها منذ عقود طويلة، وجاءت كاستجابة ضرورية لمعاناة السوريين المعيشية التي استمرت قرابة عقد ونصف. لكنها مثلت أيضاً سيفاً ذا حدين؛ إذ حملت في طياتها خطر تأجيج التضخم وزعزعة استقرار الليرة السورية إذا لم تترافق مع إصلاحات وإجراءات اقتصادية موازية.

الخبير الاقتصادي جورج خزام كان من أوائل المحذرين. إذ أوضح خزام أن ارتفاع سعر صرف الدولار سيكون نتيجة طبيعية وحتمية لضخ هذه الزيادة الضخمة من الليرات في الاقتصاد دون وجود زيادة مماثلة في الإنتاج المحلي. فبمجرد بدء دفع أول دفعة من الرواتب المضاعفة، ستُضخ كتلة نقدية كبيرة تطارد كمية محدودة من السلع الوطنية والعملات الأجنبية، مما يؤدي تلقائياً إلى ارتفاع الأسعار وسعر الصرف معاً. بكلمات أخرى، زيادة الرواتب ضخّت سيولة إضافية بنحو مئات المليارات من الليرات، في اقتصاد إنتاجه ضعيف، فاختلّ التوازن بين الكتلة النقدية والمعروض السلعي. ومن ثم بدأ سعر الدولار يصعد لسد هذه الفجوة حسب رأيه.

ضعف الإنتاج واعتماد على المستوردات

لم تأت تحذيرات خزام من فراغ؛ فالاقتصاد السوري يعاني من ضعف شديد في القطاعات الإنتاجية (الصناعة والزراعة وغيرها) بعد سنوات الحرب والعقوبات. وهذا الضعف الإنتاجي يجعل الأسواق المحلية غير قادرة على تلبية الطلب المتزايد الناتج عن زيادة الأجور. نتيجة ذلك، يتجه جزء كبير من القوة الشرائية الجديدة لدى المواطنين نحو البضائع المستوردة، نظراً لعدم توفر بدائل وطنية كافية. وهنا تكمن المشكلة: كل ليرة زيادة في دخل المواطن قد تتحول إلى طلب إضافي على الدولار لتمويل الاستيراد. خزام شدّد على أن المستوردات البديلة للمنتج الوطني ستغزو الأسواق وتأكل أي تحسن في معيشة الموظفين. فكلما ارتفعت الرواتب، زاد الاستهلاك، وبالتالي ارتفع الطلب على الدولار والواردات، مما يؤدي حتماً إلى ارتفاع سعر صرف الدولار أمام الليرة السورية.

في الأيام الأولى لصرف الزيادة عبر تطبيق “شام كاش“، حاول مصرف سوريا المركزي تهدئة السوق عبر سياسة “حبس السيولة”؛ أي تقييد سحب المبالغ الكبيرة لتفادي موجة فورية من الطلب على العملات والسلع. وبالفعل، حافظ سعر الصرف على شيء من الاستقرار اللحظي في نهاية تموز، إلا أن بعض التجار استبقوا الأحداث ورفعوا الأسعار تحسباً لتدفق السيولة الجديدة، فيما انتظر آخرون اتضاح تأثيراتها. ورغم هذا التأخير المتعمد في ضخ السيولة، فإن الضغوط على الليرة بدأت تتراكم تدريجياً. خلال أسابيع قليلة من بدء صرف الزيادة، انخفضت قيمة الليرة في السوق الموازية من حوالي 10,300 ليرة للدولار إلى ما يقارب 10,750 ليرة، أي أن الدولار ارتفع سعره بوتيرة ملحوظة تجاوزت 4% خلال فترة وجيزة. هذه القفزة السريعة أكدت ما حذّر منه الخبراء مسبقاً: ارتفاع الدولار لم يكن مفاجئاً بقدر ما كان نتيجة حتمية لواقع اقتصادي يطارد فيه عدد كبير من الليرات القليلةَ من الدولارات المتاحة.

آراء الخبراء: تحذيرات وحلول

لم تختلف آراء الخبراء الاقتصاديين السوريين – سواء المستقلين أو الأكاديميين الحكوميين – حول خطورة المشهد، وإن تنوعت مقترحات الحل. فإلى جانب خزام، أكّد الدكتور شفيق عربش (أستاذ الاقتصاد بجامعة دمشق) أن هذه الزيادة الهائلة ستضخ أكثر من 5 تريليونات ليرة إضافية في السوق، مما قد يحرك عجلة الاقتصاد مؤقتاً ويحسّن دخل الأسر.

لكنه حذّر صراحةً من أنه ما لم تُتخذ إجراءات عاجلة لضبط الأسعار وزيادة المعروض من السلع الضرورية وتشديد الرقابة على الأسواق، فإن الزيادة قد تنقلب إلى كارثة تضخمية تأكل القدرة الشرائية وتُفقد الليرة استقرارها. هذا الرأي يتقاطع مع تحذيرات تقارير أممية أشارت إلى أن أي زيادة كبيرة بالأجور في اقتصاد هش وضعيف الإنتاجية قد تتحول إلى موجة تضخم جديدة إذا لم تُرافقها إصلاحات هيكلية. وقد شهدت سوريا بالفعل فقداناً لقيمة عملتها بنحو ثلثي قيمتها خلال عام واحد، مع تجاوز التضخم الاستهلاكي نسبة 40% عام 2024؛ أي أن الأرضية كانت مهيأة لانفلات الأسعار إن لم يُحسن التعامل مع صدمة السيولة الجديدة.

من الجانب الحكومي، حاول بعض الاقتصاديين طمأنة الشارع إلى الفوائد المحتملة لزيادة الرواتب إذا أُديرت بحكمة. الدكتورة منال الشياح – نائبة عميد كلية الاقتصاد بدمشق – رأت في رفع الأجور خطوة إيجابية لتحسين معيشة الموظفين وزيادة قدرتهم الشرائية، بل وأشارت إلى وعود بزيادات أخرى مقبلة قد تنعش سوق العمل.

لكنها في الوقت ذاته انتقدت استمرار سياسة حبس السيولة من قبل المصرف المركزي، موضحةً أن لا جدوى من زيادة اسمية بالرواتب إذا بقي الموظف عاجزاً عن سحبها كاملة والإنفاق بحرية. فضعف القدرة على سحب الرواتب يبقي الموظف “حبيس قرارات المركزي” ويكبح الارتفاع المفترض في الطلب، مما يجعل الزيادة كأنها حبر على ورق.

وإذ توافق الشياح على أن استقرار سعر الصرف النسبي وتثبيت أسعار الطاقة ساعدا حتى الآن في تخفيف الضغوط التضخمية، إلا أنها تشدد على أن استمرار النجاح مرهون بالتخلي عن تقييد السيولة وتفعيل الرقابة الفعلية على الأسواق، وإلا فإن ارتفاع الأسعار سيلتهم أي تحسن في دخل المواطنين.

اقرأ أيضاً: الأطباء المقيمون في مشافي وزارة الصحة..عشرة أشهر بلا رواتب

حماية الليرة بالإنتاج والسياسات الحكيمة

يتفق معظم المحللين على أن الحل الجوهري لتفادي استمرار تراجع قيمة الليرة يكمن في تحفيز الإنتاج المحلي وتعديل السياسات التجارية والمالية. يشبّه الخبراء الصناعيين والمزارعين بـ “جيش الدفاع الأقوى عن الليرة السورية”؛ فكل سلعة وطنية إضافية تُنتج هي بديل عن استيراد يُستنزف احتياطي العملات الصعبة. من هذا المنطلق، دعت العديد من الأصوات الاقتصادية إلى دعم عاجل لقطاعات الصناعة والزراعة والسياحة، لزيادة العرض من المنتجات المحلية وخفض الحاجة للواردات. مثل هذه الخطوات ستؤدي إلى امتصاص جزء كبير من السيولة الجديدة عبر تحويلها إلى طاقة إنتاجية، بدلاً من تحولها بالكامل إلى قوة شرائية تضغط على الدولار.

إلى جانب دعم الإنتاج، تبرز السياسة الجمركية كأداة حاسمة. فقد شدّد خزام على ضرورة مضاعفة الرسوم الجمركية على المستوردات التي لها بديل وطني، كي لا تبقى السلع الأجنبية الرخيصة نسبياً تغرق السوق وتقصي المنتجات المحلية. ورأت الدكتورة الشياح أيضاً أن حماية المنتجات الوطنية عبر ضبط الرسوم على المستوردات أصبحت ضرورة ملحّة في ظل ارتفاع تكاليف الإنتاج المحلي بعد زيادة الرواتب. بهذا الأسلوب، يمكن الحد من تسرب أثر زيادة الرواتب إلى الخارج (عبر الإنفاق على المستوردات) وتقليل الطلب على الدولار، مما يخفف الضغط على سعر الصرف. كذلك لا يمكن إغفال أهمية ضبط الأسواق داخلياً؛ فالتجار سيحاولون رفع الأسعار لتحقيق أرباح إضافية مع علمهم بزيادة دخل المستهلك، وهنا يجب أن تتدخل أجهزة الرقابة لضمان عدم تحول الزيادة إلى موسم جديد لجشع البعض.

في المحصلة، ارتفاع سعر صرف الدولار الآن في سوريا ليس لغزاً عصياً على الفهم، بل هو حصيلة طبيعية لتفاعل قرارات اقتصادية ضخمة مع اقتصاد منهك. السرّ ببساطة يكمن في معادلة اقتصادية أساسية: عندما تزيد كتلة النقود بشكل كبير دون أن يقابلها نمو موازٍ في الإنتاج أو موارد النقد الأجنبي، تتراجع قيمة العملة المحلية ويرتفع سعر الدولار. زيادة الرواتب الأخيرة أنعشت الأمل لدى المواطنين ولبّت حاجة ملحّة، لكنها في الوقت نفسه أطلقت ضغوطاً تضخمية كانت كامنة تحت الرماد. ورغم أن البعض رأى في هذه الزيادة إنقاذاً مرحلياً وآخرون اعتبروها وصفة لتضخم جديد. ولكن بين هذين التقييمين يكمن الحل: سياسات حكيمة توازن بين تحسين دخل المواطن وحماية استقرار العملة. فمن دون تلك الموازنة الصعبة، سيبقى الدولار في حال صعود، وستظل الليرة تدفع ثمن أي خطوة غير مدروسة على رقعة الاقتصاد السوري.

اقرأ أيضاً: «النيو ليرة» وطريق الوحدة الاقتصادية بين سوريا والسعودية.. حلم أم وهم؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى