الكاتب: أحمد علي
رغم هشاشة الوضع السائد حالياً في الجنوب السوري وتحدياته، يتجدد الحلم القديم: سقف يأوي العائلة وأرض تُشعر الناس بالانتماء. ولكن بين الواقع والخيال، وبين التصريحات والواقع، تقف الجمعيات السكنية في درعا أمام تحدٍّ بالغ الصعوبة.. فهل تنجح في تحويل الحلم إلى حقيقة؟ وماذا عن السكن ومعاناة الإيجارات حالياً؟ في هذا التقرير الموسع من «سوريا اليوم 24» تجدون كامل التفاصيل والشهادات التي تكشف الحقيقة كما هي!
الجمعيات السكنية في درعا: أزمة إسكان تتفاقم
مع بداية عودة عدد متزايد من المهجّرين إلى محافظة درعا بعد سقوط سلطة الأسد، أصبح ملف السكن من أولويات الحياة اليومية للسكان. فالكثير من المنازل دُمّرت كلياً أو جزئياً، وأخرى تم إخلاؤها بطلب من مالكيها الأصليين بعد عودتهم، ما تسبب بارتفاع جنوني في أسعار الإيجارات. في بعض أحياء درعا، تجاوزت الإيجارات حاجز 400 دولار شهرياً، وهو مبلغ يفوق قدرة معظم الأهالي، خاصة أولئك من ذوي الدخل المحدود.
ولم تعد الشقق غير المكتملة ترفاً أو مشروعاً مؤجلاً، بل ملاذاً اضطر إليه كثير من المكتتبين الذين وجدوا أنفسهم غير قادرين على مجاراة موجة الإيجارات. فاضطروا للسكن في شقق “على العظم”، أي دون إكساء داخلي أو تجهيزات أساسية، فقط لتفادي كلفة الإيجار الباهظة. وهذا الواقع الصعب يُفترض أن يشكّل دافعاً إضافياً للجمعيات السكنية كي تعاود نشاطها وتسارع في تنفيذ مشروعاتها، رغم الظروف الاستثنائية التي تحيط بها.
مشاريع في منتصف الطريق
في حديثه حول الأمر، أكد رئيس جمعية «المهن المختلفة»، عوض أبا زيد، أنّ للجمعية مشروعين، أحدهما في ضاحية الصحافة والآخر في بلدة النعيمة. المشروع الأول يتألف من ثلاث كتل تضم 40 شقة بنسبة إنجاز وصلت إلى 80%، بينما الثاني يضم 48 شقة على الهيكل. والمشكلة الكبرى، كما يشير إليها أبا زيد، هي غياب التواصل مع بعض الأعضاء الذين غادروا البلاد ولا تُعرف عناوينهم.
ورغم بساطة الأضرار التي لحقت ببعض الأبنية، فإن التحدي الأبرز يبقى في عدم التزام عدد من الأعضاء بدفع الأقساط، وهو ما أعاق تسليم الشقق في موعدها على حد تعبيره.
صعوبات تمويلية وتعقيدات قانونية
وفي هذا الملف، لا بدّ من الإشارة إلى أن جمعية «الزوية السكنية» في درعا أنهت مشروعها الأول، وسلّمت شققها للمكتتبين وسجلتها رسمياً، في حين وصل المشروع الثاني إلى مراحله الأخيرة، ويجري التحضير لإطلاق مشروع ثالث. ورغم النجاح النسبي، يعاني المشروع من تحديات كبيرة، أبرزها ارتفاع تكاليف البناء وتوقف منح القروض العقارية.
وفي حديث له مؤخراً، قال رئيس الجمعية زياد عبد المحسن إنّ عدد الأعضاء المسجلين يبلغ 156، لكن لا يزال بعضهم ينتظر تخصيص شقته. أما توزيع الشقق، فيجري حسب دور الأفضلية.
وتكمن المشكلة الأكبر، حسب عبد المحسن، في ارتفاع أسعار الأراضي وتوقف الإقراض المصرفي، ما يجعل استكمال المشاريع مرهوناً بمساعدة حكومية، كتخصيص أراضٍ للجمعيات من أملاك الدولة لتقليل العبء على المواطنين.
إلى جانب ذلك، لدينا في درعا، جمعية «الرازي»، وهي واحدة من الجمعيات التي علّقت أعمالها منذ عام 2011، واستأنفت العمل بداية عام 2024 بعد تشكيل مجلس إدارة جديد وتجديد رخص البناء. والمشروع الخاص بها يضم 300 شقة، تم تنفيذ 220 منها، فيما لا تزال 80 شقة قيد البناء.
لكن رئيس الجمعية المهندس يوسف فروخ يشير إلى عقبة جديدة فرضها القرار الحكومي رقم 11203 لعام 2023، والذي يمنع تنفيذ أي ترخيص بناء إلا عبر مقاول معتمد. القرار – رغم نواياه التنظيمية – أدى إلى رفع تكلفة البناء، وحرمان الجمعيات من إمكانية تنفيذ المشاريع “بالأمانة”، كما كان سائداً في الماضي.
جمعية الصحافة… مشروع معطّل بسبب الاحتلال العسكري
بدورها تمتلك جمعية الصحافة السكنية في درعا مشروعين، أحدهما في «سجنة» يضم 22 كتلة سكنية، بإجمالي 385 شقة. لكن المشروع متوقف بنسبة تنفيذ 50% بسبب تمركز الجيش السوري السابق في الموقع قبل سقوط سلطة الأسد. أما المشروع الثاني، فقد تم تنفيذه بجوار ضاحية درعا الغربية.
وفي حديث له، يوضح عبد الله صبح، أمين الصندوق في الجمعية، أنه تم تشكيل لجنة لتقدير تكلفة المتر المربع وفقاً للأسعار الحالية، مع الأخذ بعين الاعتبار الأقساط المدفوعة سابقاً. ويؤكد أنّ الجمعية تسعى لإكمال الإكساء الخارجي للمحاضر المنجزة بنسبة 70%، مع وعود بالسرعة في حال تعاون المكتتبين.
ويضيف صبح: «الجمعية غير ربحية وتسلم الشقق على الهيكل مع إكساء خارجي وتصميم مقاوم للزلازل، ما يوفر على العضو ما يزيد عن نصف كلفة البناء في السوق الخاصة».
اجتماعات تفعيل الجمعيات… وواقع معقّد
هذا وشهدت درعا مؤخراً سلسلة اجتماعات لعدد من الجمعيات السكنية، أبرزها: الصحافة، المستقبل، الرازي، المهن المختلفة، الزوية، والأشغال. والهدف كان تقييم الواقع الحالي ووضع آليات لاستئناف العمل بعد سنوات التوقف الطويلة.
وحول ذلك، أشار مدير التعاون السكني في درعا، محمد العقلة، إلى أنّ الاجتماعات شهدت حضوراً جيداً من الأعضاء، ما يعكس رغبة حقيقية في استكمال المشاريع، في ظل استحالة دفع الإيجارات المرتفعة.
وأوضح العقلة أن الأسباب الرئيسية لتوقف الجمعيات تعود إلى آثار الحرب، والدمار الواسع الذي طال مقراتها في بلدات مثل النعيمة، عتمان، الشيخ مسكين واليادودة. كما أن خروج نسبة كبيرة من الأعضاء خارج البلاد صعّب عملية تحصيل الأقساط والالتزامات.
كما ترافق ذلك مع ارتفاع غير مسبوق في أسعار مواد البناء والنقل، ما جعل من المستحيل إتمام المشاريع دون دعم حكومي مباشر على حدّ قوله.
معاناة يومية وحلول مستحيلة
في عمق المشهد السكني المتعثر الذي ترزح تحته محافظة درعا، تبرز تفاصيل يومية تكشف حجم الأزمة الحقيقية، التي لم تعد محصورة بأرقام أو نسب إنجاز المشاريع، بل أصبحت واقعاً يعيشه آلاف السكان العائدين إلى مدنهم وقراهم، باحثين عن مأوى، فلا يجدون سوى أبواب مغلقة وأسعار خيالية.
في مدينة نوى، إحدى أبرز بلدات الريف الغربي للمحافظة، يروي محمد السلام، العائد من الشمال السوري، قصته المريرة مع محاولات الاستقرار من جديد. فبعد أن تهدّم منزله خلال الحملة العسكرية عام 2018، ظنّ أن العودة إلى بلدته ستكون بداية جديدة، لكنه صُدم بعدم وجود منزل واحد للإيجار، بل وارتفاع الإيجارات – إن وُجدت – إلى 500 دولار شهرياً، مع شرط الدفع المسبق لستة أشهر. وسط هذا الواقع القاسي، لم يجد أمامه سوى التفكير بالعودة إلى مناطق النزوح، حيث السقف المعدني أرحم من الغربة داخل مدينته.
ولا تختلف معاناة محمد الحسين، العائد من إحدى دول الخليج بعد عشر سنوات من الغربة، إذ اضطر للسكن مع والديه في منزل ضيق لا يتّسع للجميع، بعدما عجز عن إيجاد منزل للإيجار، رغم بحثه المطوّل في المكاتب العقارية. الأسعار المرتفعة والطلبات التعجيزية دفعت به للتفكير مجدداً في الهجرة، بعد أن خذلته مدينته التي حلم بالعودة إليها.
وحول ذلك، يتحدث حسام الجهماني، وهو صاحب مكتب عقاري في مدينة نوى، أن الطلب على الإيجارات بلغ مستويات غير مسبوقة في المحافظة، في ظل ندرة المعروض. ويشير إلى أن توقف حركة البناء لسنوات، ثم عودتها البطيئة مؤخراً، ساهم في خلق هذا الخلل الكبير في السوق. فمعظم الشقق لا تزال غير مكسية، وغير جاهزة للسكن، فيما تُطلب أسعار عالية لقاء الإيجار أو البيع.
ويضيف الجهماني أن من أبرز مظاهر الخلل في السوق هو غياب التزامات واضحة بين المالك والمستأجر والمكاتب العقارية، ويدعو إلى ضرورة تنظيم السوق من خلال تثبيت أسعار الإيجارات بقرارات من المجالس المحلية، منعاً لمزيد من الفوضى والمعاناة.
من جانبه يتحدث عبد الله الجوابرة الذي عاد إلى المحافظة برفقة أسرته بعد 12 عاماً قضاها لاجئاً في الأردن، عاد إلى مسقط رأسه في مدينة درعا، ويقول في حديثه لموقع الجزيرة نت، إنه قرر العودة إلى حي المنشية في درعا البلد بعد أيام قليلة من سقوط سلطة بشار الأسد، حاملاً معه 3 آلاف دينار أردني، كان قد ادّخرها خصيصاً لترميم منزله. غير أن معاينة المهندسين للمنزل غيّرت كل خططه، إذ تبين أن الأضرار جسيمة، ولا تصلح للترميم، بل تتطلب إعادة بناء من الصفر، ما جعل ما بحوزته من مال غير كافٍ حتى لبدء العمل.
حملة لتوثيق الأضرار..
في إطار السعي لتهيئة الظروف المناسبة لإطلاق مشاريع إعادة الإعمار، كانت قد أطلقت محافظة درعا حملة ميدانية شاملة لحصر الأضرار التي لحقت بالمنازل السكنية، بتوجيه من المحافظ أنور الزعبي، وبالتعاون مع البلديات وعدد من الفرق التطوعية. وتهدف الحملة إلى توثيق الأضرار الكلية والجزئية من خلال قاعدة بيانات تفصيلية تتضمن اسم الحي، رقم العقار، مساحة البناء، عدد الطوابق، ونوع الضرر.
وتُظهر إحصائية صادرة عن مجلس مدينة درعا أن منطقة «درعا البلد» هي الأكثر تضرراً، حيث تعرض 20 من أصل 25 حياً في المدينة لدمار جسيم، بنسبة تقارب 90%. وقد تم تسجيل 2629 بناءً مهدماً كلياً، و2463 بناءً متضرراً جزئياً، إلى جانب 866 بناءً بحاجة لإكساء كامل، و6114 بناءً متضرراً بشكل طفيف.
وفي تصريح له، أكد محمود الزعبي، أحد الناشطين في العمل الإغاثي، أن حجم الدمار كبير جداً، مشدداً على أن جهود الأفراد غير كافية لإعادة البناء، داعياً إلى تضافر جهود المجتمع المحلي والمنظمات الدولية لتسريع عمليات الترميم وضمان عودة آمنة وكريمة للمتضررين.
مطالب ومقترحات…
قدّمت الجمعيات في درعا عدداً من المقترحات العملية التي تجدها ضرورية للإنطلاق بالعمل بصورة فعالة، أهمها:
- تعويض الجمعيات عن الأضرار التي لحقت بأبنيتها بسبب اعتداءات السلطة السابقة.
- تأسيس صندوق إسكان خاص لإقراض الجمعيات وتقديم الدعم الفني والمادي.
- إصدار التعليمات التنفيذية للقانون 37 لعام 2019، والمتعلق بالتصرف بأموال الجمعيات المنحلة.
- إعادة توزيع المحاضر غير المستغلة من الجمعيات المنحلة إلى جمعيات قائمة وفعالة.
ووفق الجمعيات السكنية، فإن هذه المقترحات، إن لقيت آذاناً مصغية من الجهات المعنية، قد تفتح نافذة أمل أمام آلاف السوريين الباحثين عن سكن كريم يليق بهم بعد كل ما مرّوا به.
نحو سكنٍ كريم يضمن الكرامة والحقوق
وفي خضم التحديات التي تواجهها الجمعيات السكنية في درعا وسائر المدن السورية، يبدو أن الأمل لا يزال قائماً، خصوصاً مع إشارات الانفتاح التي أبدتها الحكومة السورية الحالية في سعيها لمعالجة تعثر مشاريع الإسكان. وفي هذا السياق، جاء اللقاء الذي جمع وزارة الأشغال العامة والإسكان بوفد من منظمة العفو الدولية، ليؤكد على التزام الدولة بترسيخ مفهوم السكن كحق إنساني، لا كامتياز.
فمن خلال ما صرّح به وزير الأشغال عن سعي الوزارة لتحويل هذا الحق إلى سياسات عملية، تعكس التوجّه نحو حلول واقعية ومستدامة لمشكلة السكن، تتعزز فكرة أن التغيير ممكن حين تتوفر الإرادة السياسية والنية الصادقة في تلبية احتياجات المواطنين.
وفي المقابل، أكدت منظمة العفو الدولية على أهمية أن تُراعى العدالة، وعدم التمييز، وضمان عودة السكان الأصليين إلى بيوتهم ضمن خطط الإعمار والتنظيم العمراني، وهي مبادئ جوهرية لا بد أن تكون حجر الأساس في أي مشروع إسكان قادم.
اقرأ أيضاً: درعا بعد حل «اللواء الثامن».. ما وضع الفصائل العسكرية وهل طويت صفحة السلاح؟!