سياسة

هل سيفتح اتفاق غزة باباً للحل السوري المنشود؟!

الكاتب: أحمد علي

بعد عامَين من اندلاع حرب غزة في 7 تشرين الأول 2023، يبدو أن الاتفاق الأوّلي لوقف النار يفتح ثغرة في جدار الصراع الكثيف، ويعيد ترتيب الأولويات في عواصم الإقليم. لكن السؤال الذي يلحّ على السوري: ما تأثير اتفاق غزة على سوريا؟ وما الذي يعنيه لسوريا تحديداً؟ هل يدخل الملف السوري مرحلة جديدة أم أن التأثير سيكون معنوياً وإيقاعيّاً أكثر منه مباشراً وملموساً؟

تأثير اتفاق غزة على سوريا

من الضروري أولاً تثبيت مشهد الاتفاق كما ظهر خلال الأيام الأخيرة. الحكومات والوساطات الدولية دفعت نحو «المرحلة الأولى» من وقف النار، متضمنةً إطلاق أسرى/محتجزين من الطرفين وتخفيف الوجود العسكري «الإسرائيلي» داخل القطاع على خطوط متفق عليها، مع وعود بتدفقٍ أكبر للمساعدات الإنسانية، وجدول زمني متدرّج لتثبيت الهدوء إذا تمّ تنفيذ الالتزامات. وهذا ما يعكس انتقالاً من إدارة الحرب إلى اختبارٍ جادّ لوقفها.

هذا التحوّل، ولو كان هشّاً، ينعكس على سوريا في المعنى العام لأن ملفات الإقليم مترابطة زمنياً وبِنيوياً. فعندما يهدأ قلب العاصفة في غزة، تتبدّد بعض دوافع التصعيد المتبادل على جبهاتٍ متصلة، ويستعيد اللاعبون الكبار جزءاً من «الحيّز الدبلوماسي/السياسي» لمعالجة ملفات مجمّدة – ومن بينها المسار السوري الذي يتأرجح في مكانه حتى اللحظة.

تأثير مباشر محدود؟!

على المستوى المباشر، لم تكن لسوريا – كفاعلٍ مؤسِّس – يدٌ تفاوضية في الحرب – السلام بين كيان الاحتلال الإسرائيلي وحماس. منذ تشرين الأول 2023، بقي الدور السوري إعلامياً مع تركيزٍ داخلي على أزماته البنيوية. فدمشق تجنّبت الانخراط العسكري المباشر، فيما انصرف ثقل المواجهة الإقليمية إلى جبهات أخرى كلبنان والبحر الأحمر والعراق وإيران. أي بالخلاصة وبالقياس المباشر الضيّق، تأثير اتفاق غزة على سوريا محدود، لكن «المحدودية» لا تعني «العدم».

أين يظهر الأثر غير المباشر؟

في الحديث عن الأثر غير المباشر، ينفتح الباب أمام ثلاثة مسارات غير مباشرة. أولها ما يمكن تسميتها بـ «اقتصاد الهدوء»: إذ يرى البعض أنه عندما تخفّ وطأة الحرب في غزة، تتراجع مخاطر الانزلاق الإقليمي، فتستعيد المؤسسات الدولية جزءاً من قدرتها على برمجة المساعدات وتوزيعها في سوريا ما قد يرفع من حظوظ السوريين في المساعدات الإنسانية ويخفف وطأة الفقر والجوع. وبالتأكيد، ليس المقصود هنا قفزةً تمويلية، بل استعادة الإيقاع وترتيب الأولويات، مع الاخذ بعين الاعتبار أن المساعدات لن تقف في غزة بل قد ترتفع وهذا الامر قد لا يغيّر من حصة سوريا منها.

ثانيها. أمن الحدود جنوباً وشمالاً؛ إذ مع ثبات الاتفاق واستمراره والسير فيه، قد يتمدد منطق خفض التصعيد والحرب إلى لبنان، وبالتالي يخف الضغط الميداني على جبهة لبنان – الحلقة الأشدّ تماساً مع الداخل السوري. ولهذا أثر بطبيعة الحال، فكل توتر في لبنان يلقى صدىً له في سوريا. وأيضاً كل هدوء في الأولى يخفف صداع رأس الأخيرة.

أمّا ثالثها. فيوصف بكونه «دبلوماسية الوقت»: أي أن مناخ ما بعد الاتفاق يسمح بإحياء قنوات تواصل إقليمية كانت مُنشغلة بالحرب، وعلى رأسها مسارات الوساطة العربية التي حاولت، قبل انفجار غزة، هندسة مقارباتٍ تدريجية للحل السوري لكنها لم تكلل بالنجاح حينها. فهذه الاتجاهات تتناوب صعوداً وهبوطاً في وتيرة الاهتمام بالملف السوري تبعاً لمنسوب التصعيد الإقليمي، ومع الأخذ بعين الاعتبار أن سوريا ما بعد سقوط سلطة الأسد عادت إلى «حضنها العربي» كما يقال، ولاقت رافعة إقليمية – عربية مهمة تجلت عبر الدور التركي – السعودي بشكل خاصّ؛ فإن وزن الدور العربي عبر وساطاته قد يعلو في لحظة هدوء حرب غزة التي شغلت الإقليم والعالم.

ومن المهم لفت النظر إلى أن «دبلوماسية الوقت» لا تشمل دول الإقليم أو الدول العربية فقط، بل تشمل كل الدول الفاعلة في سوريا والتي لها وزن في ملفها، بما في ذلك تركيا وأمريكا وروسيا وغيرها من الدول الأخرى…

اقرأ أيضاً: مفاوضات سوريا و«إسرائيل»: أمنٌ على حافة السياسة!

ماذا لو ارتدّت الموجة بالعكس؟

يبقى احتمال النكوص قائماً: فقد يعود التصعيد إلى الواجهة بحال قرّرت «إسرائيل» – بدافعٍ أمني أو حسابٍ سياسي داخلي – نقل الضغط إلى جبهة أخرى؛ لبنان هو السيناريو الأقرب بحكم الاشتباك المفتوح تاريخياً، وإيران يمكن أن تدخل في دوّامة ردّ وردّ مضاد على نحوٍ يوسّع نطاق الضربات، فيما تبقى فرضية الجبهة المصرية حاضرة أيضاً رغم أنها تذكر بوصفها أبعد في بعض تقديرات الخطر كاحتمالٍ استثنائي، لكنّها جبهة ضعيفة بواقع الحال واحتمالات الانفجار فيها لا تقل عن الاحتمالات الأخرى.

في هذه الحالات، وإن حدثت كلّها أو إحداها، سترتفع حرارة سوريا مجدداً، وسيتلاشى فيها الهدوء النسبي، وتتقلّص نافذة «دبلوماسية الوقت» التي تحدثنا عنها والتي يعوّل عليها جزء من السوريين إن لم نقل معظمهم.

خلاصة مركّبة: نعم… ولا

عند جمع الخيوط تتضح مفارقة تبدو متناقضة ظاهرياً لكنها منطقية في الواقع: بالنسبة لسوريا، لتأثير اتفاق غزة وجودٌ عامٌّ أكيد – لأنه يخفّف حرارة الإقليم ويعيد تدوير الاهتمام السياسي – لكن لا تأثير مباشراً سريعاً بحكم أن سوريا لم تكن طرفاً في الحرب ولا في ترتيبات وقفها.

لذلك، فما يتغيّر هو الإيقاع العام: فالوقت الذي كان يُستهلك في إدارة لحظةٍ إقليمية دامية في غزة قد يُتاح منه جزء لإعادة فتح الملفات السورية العالقة. وذلك لا يعني حلولاً سحرية بطبيعة الحال؛ فالهندسة الأمنية بين «إسرائيل» و«إيران» ورغبة الأولى في إضعاف المنطقة وإشغالها الدائم بالحرب والفوضى، وعملها بمنطق تصدير أزمتها الداخلية والوجودية، بالإضافة إلى وضع الحدود مع لبنان، والمسارات المحلية داخل سوريا؛ كلّها ملفات أعمق من أن يحسمها اتفاق واحد هشّ في غزة، لكنها تتأثر به – كما تتأثر المياه الجوفية بمطرٍ بعيد إن صح التشبيه.

ما الذي ينبغي مراقبته؟

إذا أردنا قياس تأثير اتفاق غزة على سوريا في الأسابيع والأشهر المقبلة، فالمؤشّرات العملية لا الخطاب هي الفيصل: طبيعة الاشتباك على الحدود اللبنانية؛ التطور فيما يخص الملف النووي الإيراني والتفاوض عليه، الوضع في سيناء، وسلوك العواصم العربية والغربية.

فالتراجع المتزامن في مؤشرات الحرب والتصعيد في هذه الملفات مع ازدياد الحركة الدبلوماسية – السياسية سيعني أن الاتفاق بدأ يغيّر «بيئة» سوريا حتى لو لم يُنجز اختراقاً سياسياً فيها. أما ارتفاعها، فيشير إلى أن الهدوء في غزة محليٌّ ومؤقّت، وأن البنية الصلبة للصراع – الممتدة عبر سوريا ولبنان والعراق ومصر واليمن – لا تزال أقوى من أي «وقف نار» جزئي.

وفي الحالتين، فإن أي خريطة طريق للملف السوري لن تتقدّم من دون مظلّةٍ إقليمية – دولية أوسع تُثبت الهدوء في فلسطين ولبنان وتُعيد تشكيل طبيعة الصراع مع إيران، بالتوازي مع تفاهماتٍ داخلية سورية تُعطي للناس أفقاً واقعياً وتضع الحل السوري على السكة الصحيحة. عندها فقط، سيغدو تأثير اتفاق غزة على سوريا أكثر من موجاتٍ تتردّد في الفضاء، ليصبح تيّاراً يسحب معه الملفات العالقة نحو شاطئٍ آمن أو أقلّ اضطراباً.

اقرأ أيضأ: أفراد وأسر وقبائل؟ نحن دول وأمم عريقة يا سيّد توم!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى