الكاتب: أحمد علي
أعلن البيت الأبيض مؤخراً أنّ سوريا لم تعد مدرجة ضمن قائمة «الدول المارقة». وهذا الإعلان لم يمرّ مرور الكرام؛ فقد أثار العديد من التساؤلات وأعاد فتح سجال حول هذا التصنيف غير الرسمي ومعناه وتداعياته على السياسة والعلاقات الدولية.. في هذا التقرير الصحفي المتكامل من «سوريا اليوم 24»، نسلّط الضوء على معنى هذا القرار، جذوره، وتبعاته والآراء المطروحة حوله..
ما هي «الدولة المارقة» (Rogue State)؟
استخدمت الإدارات الأميركية منذ التسعينيات، كلمة «مارقة» لوصف دول تُتهم بدعم الإرهاب، والسير في مسار تطوير أسلحة الدمار الشامل، وانتهاك حقوق الإنسان، وتهديد الأمن الإقليمي والدولي. غير أن هذا التصنيف لا يحظى بأساس قانوني، بل يُستخدم كمبرر سياسي لفرض عزلة، مثل منع التعاون في الطاقة النووية المدنية مع تلك الدول.
شملت الدول المصنّفة سابقاً بهذا الوصف إيران، كوريا الشمالية، كوبا، فنزويلا، روسيا، وليبيا. وتم تسجيل سوريا ضمن هذه الفئة بعد أحداث 2011 وما تلاها، لكنها اقتصرت على لائحة سياسية مؤقتة وليست قانونية.
لماذا دخلت سوريا هذه اللائحة أصلاً؟
أضيفت سوريا إلى لائحة الدول المارقة بعد عام 2011، تزامناً مع تفاقم الحرب. وبرّرت واشنطن ذلك بتهم دعمها لجماعات متطرفة، تعاونها مع إيران وحزب الله، خروقاتها بحق المدنيين، وسعي النظام لتطوير أسلحة دمار شامل.
وكان هذا الانضمام بمثابة ضوء أحمر سياسي، منع واشنطن من التعاون المدني – خاصّة النووي المدني – وشكّل ضغطاً دولياً لعمليات إعادة الإعمار أو التفاوض.
لماذا أُخلي اسم سوريا من اللائحة الآن؟
في 6 حزيران 2025، أقرّ مجلس الشيوخ الأميركي وتبنّت لجنة العلاقات الخارجية شطب سوريا من القائمة، بسبب تحوّلها باتجاه حكومة انتقالية بقيادة الرئيس الانتقالي السوري أحمد الشّرع ما بعد سقوط سلطة بشار الأسد. وعبر صفحته على «فيسبوك»، أكّد البيت الأبيض أن إزالة سوريا من القائمة تعني أن واشنطن لم تعد ملتزمة بسياسات العزل القديمة، ولن تكون هناك قيود في مجالات مثل الطاقة النووية المدنية في قادم الأيام.
وكان قد سبق ذلك قول الديمقراطية جين شاهين Jeanne Shaheen: «يسرّني أن أرى اللجنة تتبنى تعديلي لإزالة سوريا من قائمة المعهد الوطني للشرق الأوسط وشمال أفريقيا للدول المارقة، والتي تشمل إيران وروسيا وكوريا الشمالية»، مضيفة في منشورٍ لها على منصة X: «يجب على سوريا أن تستمر في النأي بنفسها عن انتماءاتها السابقة، وأن تمضي قدماً نحو الديمقراطية والاستقرار والأمن».
ما الذي يفيده هذا الشطب لسوريا فعلاً؟
- فكّ قيود التعاون التقني؛ فإزالة سوريا تفتح باب التعاون المدني، خصوصاً وارد في مجالات الطاقة النووية والتعليم والبحث العلمي.
- الاعتراف الدبلوماسي وتطبيع العلاقات، إذ يمكن لعدد من الدول الغربية وخصوصاً الولايات المتحدة أن تتجه نحو تطبيع العلاقات تدريجيّاً، شرط استكمال «الانتقال السياسي» والتحوّل الديمقراطي.
- تخفيف الضغوط الاقتصادية، لأن فكّ العزلة يُساعد على جذب تبرعات إعادة الإعمار، وتشجيع الاستثمارات ويحد من بعض القيود على البورصة والمصارف.
دلالات القرار السياسية
بالرغم من أن قرار شطب سوريا من قائمة «الدول المارقة» لا يحمل طابعاً قانونياً مباشراً، فإنه يعكس تحوّلاً سياسياً لافتاً في مقاربة واشنطن تجاه دمشق. فالقرار يشير إلى رغبة أميركية بإعادة رسم خطوط العلاقة مع سوريا ضمن إطار سياسي أكثر مرونة، دون أن يعني ذلك بالضرورة إضفاء شرعية كاملة. بل هو خطوة محسوبة تهدف إلى فتح نافذة حوار مشروط، وتوجيه رسالة بأن السلوك السياسي يمكن أن يُكافأ إذا ترافق مع مؤشرات على التغيير والانفكاك عن التحالفات التي لطالما أثارت قلق الغرب، كالتقارب مع إيران.
ويعكس هذا التحوّل في التصنيف أيضاً توازناً دقيقاً داخل الإدارة الأميركية، التي تسعى لعدم التصعيد في ملفات الشرق الأوسط كما يبدو، خصوصاً في ظل المتغيرات الإقليمية والتقارب العربي مع دمشق. كما أن الخطوة تُقرأ في بعض الأوساط على أنها محاولة لاحتواء نفوذ دول منافسة كروسيا والصين في سوريا، عبر إغراء النظام الجديد بمكاسب سياسية واقتصادية مقابل انخراطه في ترتيبات إقليمية تتماشى مع الرؤية الغربية.
ما الفرق بين «الدول المارقة» و«الراعية للإرهاب»؟!
يُميّز بين «الدول الراعية للإرهاب» و«الدول المارقة» من حيث الطابع القانوني والتأثيرات المترتبة على كل منهما. فالتصنيف كدولة راعية للإرهاب يُعد تصنيفاً رسمياً تُصدره وزارة الخارجية الأميركية، وله تبعات قانونية واضحة تشمل فرض عقوبات اقتصادية صارمة، منها حظر المساعدات الخارجية، وتقييد التبادل التجاري، وفرض قيود مالية ومصرفية. في المقابل، يُعد وصف «الدولة المارقة» مصطلحاً سياسياً غير ملزم قانونياً، تلجأ إليه الإدارات الأميركية كأداة ضغط أو لتبرير سياسات العزل والعقوبات ضد أنظمة تعتبرها تهديداً للأمن أو خارجة عن المعايير الدولية.
اقرأ أيضاً: عقارات الوقف في سوريا: إرث منهوب بأرقام خيالية ومسار استرداد شاق!
د. فادي حيلاني: خطوة مبدئية نحو شراكة مشروطة
في إطار تعليقه على الخطوة الأمريكية تجاه سوريا، قال الباحث في المجلس الوطني للعلاقات العربية الأميركية، الدكتور فادي حيلاني، إن قرار الولايات المتحدة شطب اسم سوريا من «قائمة الدول المارقة» يأتي في سياق التحول في السياسة الأميركية تجاه الملف السوري، لاسيّما بعد الوساطة الخليجية وزيارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى السعودية، حيث أُعلنت حينها نوايا لرفع العقوبات تدريجياً عن دمشق، والبدء بإعادة تقييم العلاقة معها.
وأوضح حيلاني خلال مداخلة متلفزة على قناة «الحدث» أن هذا التحوّل يعكس اعترافاً أميركياً – في حدّه الأدنى – بالحكومة السورية الجديدة كشريك يمكن التعامل معه. وأضاف: «مصطلح الشراكة هنا لا يقتصر فقط على التعاون الأمني، بل يمتد إلى ملفات مكافحة الإرهاب، ومنع تحوّل سوريا إلى بؤرة توتر إقليمي، إضافة إلى التعاون في ملف تفكيك بقايا الأسلحة الكيميائية، بدعم مشترك بين الحكومة السورية ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية والاتحاد الأوروبي».
وبحسب حيلاني، فإن رفع سوريا من قائمة الدول المارقة لا يعني بالضرورة نهاية العقوبات، لكنه خطوة تُسهّل على الحكومة السورية الاندماج مستقبلاً في المجتمع الدولي، كما تفتح المجال أمام استئناف الدعم التقني من المؤسسات الأميركية، ورفع القيود عن بعض أشكال التعاون العلمي والتقني، خاصة في مجالات الطاقة والتكنولوجيا.
«الدول المارقة» و«محور الشر»؟!
فيما يتعلق بالفارق بين مصطلحي «الدول المارقة» و«محور الشر»، أوضح حيلاني أن الأولى تشير إلى الدول التي تشكّل تهديداً محتملاً على الأمن الإقليمي والدولي، بسبب دعمها للإرهاب أو سعيها لامتلاك أسلحة دمار شامل، فيما يشير مصطلح «محور الشر» إلى دول بعينها – كإيران مثلاً – اعتُبرت في فترات معينة خصوماً مباشرين للولايات المتحدة. وأضاف أن وصف «الدولة المارقة» لا يستند إلى تصنيف قانوني ملزم، لكنه يُستخدم لتبرير مواقف سياسية، بينما التصنيف الرسمي كدولة راعية للإرهاب له تبعات قانونية حقيقية.
وحول آفاق العلاقة بين دمشق وواشنطن بعد رفع سوريا من اللائحة، قال حيلاني إن هناك مسارين محتملين من التسهيلات: الأول يخصّ تيسير منح التأشيرات للسوريين، سواء للمسؤولين أو للمواطنين، بعد سنوات من التعقيد والتدقيق الأمني على جوازات السفر السورية. والثاني يتعلق بإمكانية استيراد مواد تقنية وتكنولوجية كانت محظورة سابقاً على دمشق بسبب المخاوف من استخدامها في تطوير أسلحة محظورة.
ونوّه إلى أن إزالة التصنيف يُمهّد لحصول سوريا على تكنولوجيا طاقة متقدمة، وربما يشكّل قاعدة للانخراط في مشاريع مستقبلية للطاقة النووية السلمية، على غرار بعض دول المنطقة، ما دامت سوريا تلتزم بالضوابط الدولية.
وختم حديثه بالتأكيد على أن الإدارة الأميركية تدعم في هذه المرحلة مسارين متوازيين في سوريا: أولهما الإصلاح المؤسسي بدعم دولي، وثانيهما إعادة هيكلة الجيش السوري ليكون قادراً على بسط السيطرة الأمنية على كامل الأراضي السورية، ومنع عودة التنظيمات المتطرفة أو اندلاع صراعات أهلية جديدة. وأشار إلى أن واشنطن سمحت بدمج بعض العناصر من الخارج ضمن الهيكل الجديد للجيش، في خطوة تهدف إلى تأسيس قوة وطنية جامعة تكون قادرة على حفظ الأمن وضمان استقرار البلاد، وذلك حسب تعبيره للمصدر.
تشومسكي و«الدول المارقة»
ختاماً، وفي سياق تسليط الضوء على تصنيف «الدول المارقة»، لا بدّ من الإشارة إلى أن كتاب نعوم تشومسكي Rogue States: The Rule of Force in World Affairs يُعد من أهم المراجع النقدية لهذا المفهوم. يرى تشومسكي أن من يصف دولاً بأنها «مارقة» بحسب المعايير الدولية، غالباً ما يستخدم هذا التوصيف كأداة دعاية تطوعية تخدم مصالح الدول الأقوى، لا تلتزم فعلياً بالقانون الدولي، وتهدد الأمن العالمي بإخلالها بالمعايير والقواعد الدولية.
وفي مفارقة لافتة، يؤكد تشومسكي بأن التصنيفات نفسها تُطبق انتقائيّاً، ففي كثير من الأحيان تُغضّ البصر عن تجاوزات من دول تملك تأثيراً عالميّاً أو تتصرف كـ «مارقة» بنفسها، غير أنها تتمتع بحصانة واقعية بفضل نفوذها، فيما تُعاقَب دول لا تمتلك ذلك النفوذ على الرغم من قدر أقل بكثير من الانحراف عن المعايير الدولية. بالتالي، يطرح تشومسكي في كتابه رؤية معاكسة: المفهوم لا يعكس حقائق متوازنة عن الأمن الدولي بقدر ما يعكس قدرة من يملك القوة على فرض تعريفاته على الساحة العالمية.