العراق يفتح الملف الأكثر تعقيداً بلا تنسيق معلن مع دمشق!

الكاتب: أحمد علي
في السادس والعشرين من أيلول الفائت، احتشدت وفود من عشرات الدول في نيويورك، وهناك تَقدَّم العراق بملفٍ مخيم الهول وما حوله من معسكرات وأماكن احتجاز في شمال شرق سوريا. بدا المشهد كمن يضع إصبعاً على الجرح منذ سنوات، ويعلن أن التريّث لم يعد خياراً، ويجب أن ينتهي…
وبين حسابات السيادة وحماية المجتمعات وإلزام الدول بمسؤولية مواطنيها، انطلق المؤتمر بتعاون تقني مع مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب، وبرعاية الحضور العراقي على أعلى مستوى، بينما غابت إشارات واضحة إلى تنسيق رسمي معلن مع الحكومة السورية، الأمر الذي ألقى بظلالٍ سياسية على أجندة إنسانية وأمنية تتطلب توافقاً لا لبس فيه.
لماذا انعقد «مؤتمر مخيم الهول» الآن؟
تبدأ الإجابة من استعجال الوقت. إذ تتحدث تقارير أممية وأمنية عن خطر مُركّب: عشرات الآلاف من النساء والأطفال إلى جانب مشتبهين بالانتماء إلى تنظيم داعش، في مخيمات تمتد هشاشتها من الجوانب الإنسانية إلى الأمنية، وتُهدِّد – إذا تُركت دون معالجة – بتحويل المكان إلى «حاضنة» لإعادة التطرّف.
لهذا تحدثت الأمم المتحدة عن «حاجة ملحّة» لإنهاء الاحتجاز طويل الأمد في شمال شرق سوريا عبر الإعادة للوطن، والمحاسبة، وإعادة التأهيل والدمج، ضمن مقاربة متعددة الأبعاد. وبهذا المعنى، صيغ المؤتمر كمنصة دولية لتكثيف التعاون ووضع إيقاع موحّد للتنفيذ.
حضر العراق ومعه سجلّ عملي بدأ منذ سنوات: إعادة آلاف العائلات العراقية من مخيم الهول، مروراً ببرامج استقبال وتأهيل في مخيم الجدعة قرب الموصل، وصولاً إلى إدماج تدريجي في مجتمعات الأصل. في كلمات الافتتاح والمداخلات الجانبية، شدّد الرئيس عبد اللطيف رشيد على أن بلاده «تملك خبرة متقدمة» وأن المقاربة العراقية تراهن على «التأهيل والدمج الآمن»، فيما أكّد وزير الخارجية فؤاد حسين أن بقاء الملف بلا حلّ «يمسّ الأمن الإقليمي والدولي».
من حضر… ومن غاب؟
عناوين الحضور دلّت على وزن الحدث. أوراق الأمم المتحدة تحدد أنه مؤتمر رفيع المستوى من تنظيم الحكومة العراقية بالتعاون مع مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب على هامش أعمال الجمعية العامة، مع مشاركة على نطاق واسع من الدول والمنظمات. المصادر الإعلامية تحدّثت عن نحو 400 مسؤول من 60 بلداً، و31 مسؤولاً رفيعاً من منظمات إنسانية ومتعددة الأطراف.
وفي مداخلته أعلن قائد القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) الأدميرال براد كوبر تأسيس «خلية إعادة مشتركة» في شمال شرق سوريا لتنسيق وتسريع عمليات الإعادة إلى الأوطان مؤشِّراً إلى تحوّلٍ عملي في آليات التنفيذ.
لكن الصورة اكتملت بما قيل عن الغائبين. إذ أكّدت عدة تقارير عدم دعوة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا – الجهة التي تدير عملياً مخيمي الهول وروج وتؤمّن الحراسة عبر قوات الأمن المحلية – إلى مؤتمر مخيم الهول، ما فُسِّر في الإعلام الكردي والسرياني على أنه ثغرة في مقاربة «الشمول» المطلوبة لهذا النوع من الملفات.
أما عن الحكومة السورية الحالية الحاضرة دبلوماسياً في نيويورك هذا العام، فلم تُعلن الأمم المتحدة عن مشاركة وفد رسمي منها في أعمال المؤتمر، وهو ما غذّى سردية «الغياب السوري» عن حدث يناقش ملفاً يقع على أرض سورية.
بالتوازي، جاءت كلمة رئيس بعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) محمد الحسن لتؤكد أن استمرار وجود تلك المخيمات «دون ترتيبات مع الحكومة السورية» يُعد انتهاكاً لسيادة سوريا وهذا الكلام يمكن اعتباره رسالة تحث على سدّ فجوات التنسيق كشرطٍ لنجاعة الحل.
مفردات الأرقام وحدود السرديات
في المداولات ظهرت أرقام تعمل كجرس إنذار وسياسة معاً: حديث رئاسي عراقي عن أكثر من عشرة آلاف «مقاتل أجنبي» داخل سوريا، إلى جانب عشرات الآلاف من النساء والأطفال، وتأكيد أن 34 دولة أعادت رعاياها بينما ما تزال ست دول متخلّفة عن واجبها.
في المقابل عرضت بغداد تفصيلاً لمراحل الإعادة: 4,915 عائلة (نحو 18,880 شخصاً) أعيدت، وثُلثا العائدين تقريباً رجعوا إلى مناطقهم الأصلية بعد اجتياز برامج الفحص الأمني والدعم النفسي والاجتماعي. هذه الأرقام – حتى مع فارق التقديرات بين المنصات – تعطي صورة عن وتيرة تتقدم ولكنها لا تكفي لحسم الخطر.
من جهتها، دفعت الولايات المتحدة باتجاه تسريع الإيقاع، ليس بوصفها طرفاً سياسياً فحسب، بل باعتبارها لاعباً عملياتياً في التحالف ضد «داعش». وإعلان سنتكوم إنشاء «خلية إعادة» مخصّصة يؤشر إلى إدراك أن تنسيق خطوط النقل، والتحقق، والاستقبال، والتمويل، والقضاء، لا يمكن أن يترك لتفاهمات ثنائية متناثرة.
والعراق حظي في ذلك بصيغة إشادةٍ لافتة باعتباره «قاد جهود الإعادة» بإرجاعه 80% من رعاياه من الهول، ما يمنح تجربته قابلية للتعميم عربياً وإقليمياً.
السيادة أولاً… لكن كيف؟
البُعد السياسي في مؤتمر مخيم الهول لا يقل أهمية عن جوانبه الإنسانية. سوريا نفسها تمرّ بمنعطف انتقالي منذ أواخر 2024، ما ألقى على المجتمع الدولي سؤالاً مضاعفاً: من ينسّق مع من؟ وفي أي إطار شرعي؟ والحال أن قراراً بهذا الثقل – يُعيد أشخاصاً ويغلق مخيماً ويبتّ بمصائر موقوفين – لا يستقيم دون قناة رسمية واضحة مع دمشق، أياً تكن مآلات التحول السياسي فيها.
لذلك جاء البيان العراقي الختامي ليشدد على ضرورة احترام سيادة سوريا عند تنفيذ عمليات الإعادة، وهي نقطة التقاء بين مقتضيات القانون الدولي ومتطلبات الاستقرار الإقليمي. غير أن غياب مشاركة سورية معلنة، وغياب دعوةٍ للجهة المحلية التي تدير المخيمات، يطرحان أسئلة عن الكيفية، لا عن المبدأ.
الرسالة الأممية الموازية بدت صريحة: المخيمات «لا يجب أن توجد أصلاً»، وبقاؤها طويل الأمد «غير مقبول»، وأن إغلاقها يحتاج إلى تعاون دولٍ تُعيد مواطنيها، ودعمٍ لدمشق في بسط سلطتها على كامل أراضيها، حتى لا تتحول إجراءات الإعادة إلى فجوات أمنية أو صدمات اجتماعية في مناطق هشّة. وهكذا تُبنى المعادلة بين حقّ السيادة وواجب المسؤولية، وبين ضرورات الأمن ومقتضيات الحقوق.
دوافع العراق: أمنٌ داخلي ومعادلة إقليمية
لماذا راهن العراق على قيادة هذا الملف؟ لأن الحريق الأقرب يُخمد أولاً. عشرات الآلاف في الهول بينهم نسبة كبيرة من العراقيين، وتركهم في «تعليقٍ دائم» يعني – بالنسبة لبغداد – تهديداً حدودياً مستمراً وإطالةً لعمر شبكاتٍ ظلّت تتغذى على الفراغات.
من هنا تكلمت بغداد بلغة مزدوجة: واجبٌ إنساني تجاه أطفالٍ ونساء خارج المدرسة والمجتمع، وواجبٌ أمنيّ لقطع دورة التجنيد والتطرّف. وفي العمق، يحاول العراق تثبيت صورته دولةً مبادِرة في ملفات الأمن الإقليمي، وقادرة على تحويل خبرة النزاع المريرة إلى رأس مالٍ دبلوماسي يفتح أبواب التعاون من الخليج إلى أوروبا.
ماذا بعد «مؤتمر مخيم الهول»؟
النتيجة الأولى للمؤتمر أنه أعاد الملف إلى الواجهة بجدول زمني ضاغط، وبوعود عملية مثل «الخلية المشتركة» في الشمال الشرقي السوري، وبتعهّداتٍ سياسية بأن الإعادة والعدالة وإعادة التأهيل حلقاتٌ في سلسلة واحدة. لكن ترحيل التعقيدات إلى الغد لن يجدي دون أربع خطوات متوازية: تنسيقٌ رسمي معلن مع دمشق يضمن الشرعية، إشراكٌ فاعل للجهات المحلية التي تدير المخيمات لتجنّب فراغات التنفيذ، تحمل الدول لمسؤولية رعاياها بلا انتقاء، وتمويلٌ مستدام لبرامج التأهيل والدمج وملاحقة الجرائم الخطيرة أمام القضاء الوطني أو الدولي.
أمسك العراق بطرف الخيط، والكرة الآن في ملعب شبكة واسعة من العواصم. وإلا فإن الزمن ذاته سيتحوّل إلى خصم: كل يوم يمرّ داخل أسوار الهول هو يومٌ تُبنى فيه سردية مظلومية، وتُختبر فيه قدرة مجتمعاتٍ هشة على استيعاب العائدين دون أن تنكسر.
أصوات مؤثرة… وإشارات لافتة
من بين الإشارات التي تستحق التوقف: مشاركة دول خليجية كقطر وعُمان، بما يعكس أن الملف لم يعد «حدودياً» بل «عابراً للأمن العربي». وعلى المنصة الأممية، مزجت كلمات الحضور بين لغة الخطر ولغة الأمل: إغلاق المخيمات ممكن إذا تحملت الدول مسؤولياتها، وإذا صيغت مسارات قانونية عادلة للمشتبهين بارتكاب جرائم خطيرة، وإذا حظيت برامج إعادة التأهيل بثقة المجتمعات.
ختاماً، الشجاعة السياسية تكون في بناء منصّة تنفيذ متفق عليها. فالعراق قدّم خارطة طريقٍ جزئية لها فعاليتها، والأمم المتحدة وضعت أدواتها على الطاولة؛ لكن بوصلة الحل النهائي تمرّ عبر تنسيقٍ شفاف مع دمشق وإشراك الفاعلين المحليين، وإلا ظلّ الخطر كامناً ولو تبدلت العناوين.
اقرأ أيضاً: خط نفط كركوك بانياس: مشروع قديم يُعاد إحياءه بين سوريا والعراق




