إعداد: لمى ابراهيم
لم يعد خافياً على أحد أن كوكبنا يعيش اضطرابات مناخية وتحديات بيئية تزداد يوماً بعد يوم، وفي ظل هذا الواقع الصعب الذي يهدد مستقبلنا ومستقبل أجيال بعدنا، أصبح البناء المستدام حاجة ملحّة… ومع الحديث المتواصل عن إعادة إعمار سوريا، يخطر ببالنا تساؤل ربما ليس واقعياً لحد الآن قدر ما هو تمنيات، لكنه يستحق أن يطرح: لماذا لا نبني سوريا جديدة مستدامة؟
قد تكون سمعت من قبل عن الأبنية المستدامة أو ما يُعرف بالأبنية الخضراء، فقد بات هذا المفهوم منتشراً في دول كثيرة حول العالم، بل كذلك في بعض الدول العربية.
زاد الحديث عن الأبنية المستدامة خاصة وأن قطاع البناء حول العالم يلعب دوراً كبيراً في التأثير على البيئة، فهو مسؤول عن نحو 30% من إجمالي انبعاثات الغازات الدفيئة عالمياً، وله آثار بيئية سلبية، سواء من خلال ما يحدثه من تدمير للأنظمة البيئية في مواقع البناء، أو من خلال النفايات الضخمة الناتجة عن الهدم أو استخراج المواد الخام مثل الخرسانة والفولاذ… ومن هنا سننطلق لنتعرف على مفهوم الأبنية المستدامة.
البناء المستدام هو أسلوب تصميم وبناء يهدف إلى احترام البيئة وتقليل الأثر السلبي عليها، من خلال استخدام الموارد بذكاء -من الطاقة والمياه إلى المواد- مع اعتماد تقنيات حديثة مثل المواد القابلة لإعادة التدوير، العزل الحراري، والطاقة الشمسية.
ولكن كيف تبنى المدن المستدامة.. ولماذا؟
إذا أردنا أن نتحدث عن مدن مستدامة متكاملة فعلينا البدء بالتخطيط الحضري، المدينة المستدامة ستضم كل شيء من المساكن إلى المدارس والمتاجر وكل المرافق التي يحتاجها الإنسان، لماذا؟ في هذه المدينة ستقل الحاجة للتنقل المرهق والملوث بالسيارات الخاصة، وتفسح المجال للاعتماد على المشي أو ركوب الدراجات الهوائية أو وسائل النقل العامة.
وستضم المدينة أيضاً مساحات خضراء، فكلما زاد عدد الأشجار والحدائق في المدينة، تنفس سكانها هواءً أنقى، وقلّت آثار التغير المناخي على البيئة الحضرية.
وبالطبع لا يتوقف الأمر على شكل المدينة وتصميمها ككل، إذ يجب أن تكون كفؤة في استخدام الطاقة، تستخدم مواد بناء صديقة للبيئة -مثل الخشب-، وتعتمد على مصادر متجددة لتوليد الكهرباء مثل الألواح الشمسية، وأيضاً تستختدم طرق ذكية لتدوير المياه، مثل جمع مياه الأمطار -على سبيل المثال لا الحصر- ومعالجتها من أجل تقليل الهدر.
من هنا، تتضح لنا فوائد البناء المستدام، فالبناء المستدام يقلل من النفايات ويعتمد على مواد قابلة للتدوير، ما يخفف الضغط على الموارد الطبيعية.
أيضاً فوائده تتجاوز الأهمية البيئية وتمتد إلى حياة الناس واقتصادهم وصحتهم، فالأبنية التي تعتمد تقنيات عزل حراري متقدمة وأنظمة ذكية لتوفير الطاقة، تساعد في خفض الفواتير الشهرية وتقلل من اعتماد السكان على مصادر الطاقة التقليدية.
ويكون الهواء داخل هذه المباني أنظف، بفضل استخدام مواد غير سامة وأنظمة تهوية فعالة، ما يجعل البيئة المحيطة صحية تحمي من أمراض التنفس والحساسية.
واليوم، تزداد جاذبية الأبنية المستدامة في السوق العقارية، فالكثير من المشترين اليوم يفضلون العقارات ذات الأداء البيئي الجيد… صحيح أن تكاليف البناء المستدام قد تكون أعلى نسبياً، لكن التوفير الطاقة والصيانة على المدى الطويل تعوّض ذلك بشكل كبير، لذا فهو خيار استثماري ممتاز على المدى الطويل.
اقرأ أيضاً: أيّ دور ممكن أن تلعبه ألمانيا في ملف «إعادة الإعمار» داخل سوريا؟
الآن.. لماذا البناء المستدام مهم في سوريا؟
بالتأكيد يفكر ناس كثر بهذه الفكرة! لدينا فرصة استثنائية يمكننا من خلالها إعادة بناء المدن فيها من الصفر، فلماذا لا نستغلها ولماذا نكرر أخطاء الماضي بدل أن نصمم بيئة عمرانية مستدامة؟… كما أن العالم يتجه بقوة نحو خفض الانبعاثات، وسوريا لا يمكن أن تبقى خارج الصورة خاصة أنها من الدول النامية الأكثر تأثراً بالتغير المناخي.
في الحقيقة تعاني سوريا من نقص حاد في الطاقة والمياه، كما أنها تعيش حالة دمار واسع في البنية التحتية فعلى مدى أكثر من 14 عاماً، عاشت سوريا واحدة من أكثر الفترات دماراً في تاريخها الحديث، إذ خلفت الحرب ملايين الأطنان من الأنقاض ومخلفات الحرب المنتشرة على امتداد الجغرافيا السورية، والتي باتت تشكل عبئاً ضخماً على جهود إعادة الإعمار، وعودة السكان إلى مناطقهم.
تقدّر الأمم المتحدة كلفة إعادة إعمار سوريا بنحو 400 مليار دولار بعد أن طالت الأضرار أكثر من 130 ألف مبنى منذ عام 2011 كانت نسبة 70% منها من الخرسانة المسلحة.
أنقاض المباني التي دمرتها الحرب تخلّف آثاراً بيئية وصحية خطيرة، نظراً لما تحتويه مواد البناء من عناصر كيميائية ضارة، لا سيما في الخرسانة الأسمنتية ومواد الطلاء والإكساء، التي تؤثر سلباً على التربة والمياه والهواء.
المهندس الاستشاري البيئي عمر عاصي أوضح في تصريح إعلامي أن نفايات الهدم في مناطق الحرب غالباً ما تكون ملوثة بالمعادن الثقيلة الناتجة عن المتفجرات، والتي تمثل خطراً بالغاً على مصادر المياه، وعلى الرغم من إمكانية معالجة بعض الملوثات بيولوجياً، إلا أن هناك عناصر معقدة أكثر تحتاج إلى فحوص دقيقة وإجراءات معالجة متقدمة.
رغم ذلك ورغم صعوبة الأمر، تعدّ إعادة تدوير أنقاض المباني المدمرة حلاً مبتكراً يدعم إعادة الإعمار خاصة في الدول التي عانت من أهوال الحرب، من خلال تحويل بقايا الخرسانة إلى مواد بناء جديدة، وجمع الحديد من الهياكل المهدمة لإعادة صهره واستخدامه، ما يساهم في خفض كلفة الاستيراد، تقليل حجم النفايات، وخلق فرص عمل محلية.
الدكتور عبد القادر رشواني، أستاذ مساعد في مجال أبحاث الأسمنت والخرسانة بجامعة الشام، وقائد دراسة نُشرت في جورنال أوف ماتيريالز إن سيفيل إنجينيرنغ بالتعاون مع باحثين من سوريا والمملكة المتحدة وتركيا، أفاد بأن الركام المعاد تدويره من المباني المهدمة يمكن أن يُستخدم بنسبة 20–50% كبديل عن الركام الطبيعي في تصنيع الخرسانة الجديدة دون تأثير كبير على خصائصها الميكانيكية، بحسب جودة الركام ونسبة الشوائب فيه، ومتطلبات المشروع.
أظهرت هذه الدراسة أن استخدام ركام المباني المدمرة من مدينة الباب شمالي سوريا لإنتاج خرسانة جديدة لم يؤثر سلباً على أدائها، ولكنها في نفس الوقت أوصت بمعالجات إضافية لتعزيز الأمان، مثل إزالة الشوائب وتحسين التصاق السطح وإضافة مواد مكمّلة كرماد الفحم والسيليكا.
وتعليقاً على الدراسة، يرى عاصي أن هناك تجارب ناجحة مثل تلك التي أجريت في قطاع غزة، حيث أُعيد استخدام الركام في تصنيع “الطابوق” -أساس في البناء يشبه البلوك لكن أكثر قوة ومتانة-، محققة عوائد اقتصادية ومساهمة في الحد من التلوث البيئي، كما شدد على أهمية استصلاح الأراضي المدمرة بعد إزالة الركام، وإمكانية تحسين التربة وإعادة زراعتها.
ورغم أهمية مثل هذه الدراسات، إلا أن سوريا تواجه اليوم تحديات معقدة قد تواجهها في حال فكرت في بناء أبنية مستدامة، من أبرز هذه التحديات قلة الوعي، إذ لا يزال الكثير من المعنيين بعملية إعادة الإعمار ينظرون إلى البناء المستدام باعتباره خياراً مرتفع الكلفة، دون إدراك لأثره الإيجابي على المدى الطويل، سواء بيئياً أو اقتصادياً.
التمويل يمثل تحدياً إضافياً أو هو التحدي الأكبر، إذ تميل الجهات المانحة والممولون إلى التركيز على الحلول السريعة والأقل تكلفة، ويتجاهلون أهمية تقليل النفقات التشغيلية على المدى الطويل.
اقرأ أيضاً: صناعة الإسمنت في سوريا: حجر الأساس في مرحلة إعادة الإعمار
تجارب الدول العربية في الأبنية المستدامة
تشهد المنطقة العربية تحولاً ملحوظاً نحو تبني مفهوم البناء الأخضر، خاصة مع تزايد الوعي البيئي والتزامات الدول بخطط التنمية المستدامة… فقد بدأت العديد من الدول العربية، لا سيما الخليجية، باعتماد معايير بيئية دولية مثل شهادة LEED، التي تعدّ من أبرز أدوات تقييم الأداء البيئي للمباني حول العالم.
ويتزايد الاستثمار في مشاريع البنى التحتية في الخليج بوتيرة متسارعة، إذ بلغت قيمة العقود في قطاعي البناء والصناعة نحو 39.9 مليار دولار في الربع الثاني من عام 2023، بزيادة تجاوزت 110% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2022، ويأتي هذا التوسع في سياق الالتزام بتحقيق الحياد الكربوني، إذ أعلنت الإمارات هدفها للوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050، ووضعت السعودية هدفاً مماثلاً لعام 2060.
لكنّ التحدي يكمن في تحقيق هذا التحوّل البيئي الطموح دون إبطاء وتيرة تنفيذ المشاريع أو رفع كلفتها بشكل كبير، ولهذا بدأت حكومات المنطقة بتطوير أنظمة تصنيف وطنية للمباني الخضراء، تتناسب مع الخصوصيات المحلية لكل دولة، ومن هذه الأنظمة: GSAS في قطر، وPearl في الإمارات، وMostadam في السعودية، كما جرى تحديث الأكواد والسياسات لتقليل استهلاك الطاقة والمياه في قطاع البناء.
المملكة العربية السعودية بشكل خاص هي اليوم قوة إقليمية في مجال الاستدامة العمرانية، إذ استحوذت على نحو 42% من مجمل مشاريع المباني الخضراء المعتمدة في الشرق الأوسط، بما مجموعه 874 مشروعاً حتى الآن، وتعدّ مبادرتها بإطلاق نظام “مستدام” في عام 2019، إلى جانب تحديث كود البناء السعودي، خطوة عملية نحو إنتاج مبانٍ موفّرة للطاقة وأكثر ملاءمة للمناخ المحلي.
تشكّل هذه التجربة الناجحة عربياً نموذجاً ملهماً لسوريا، وهي تؤكد أن البناء المستدام خيار واقعي يمكن تحقيقه حتى في ظل التحديات الاقتصادية ولو تم تغيير بعض المخططات بسبب وجود الكثير من أنقاض الحرب وهو ما لا يوجد في الدول العربية التي بدأت تتجه نحو البناء المستدام.
ولكن مع وجود فرصة مهمة لإعادة الإعمار، تستطيع سوريا أن تستفيد من الخبرات الإقليمية، وترسم مساراً خاصاً بها نحو مدن أكثر استدامة، إذا ما توفرت تشريعات خاصة، وتمويل موجّه… فالبناء المستدام هو طريقنا لبناء المستقبل… من ركام الحاضر.
اقرأ أيضاً: انفتاح اقتصادي متسارع بين سوريا وتركيا: مصالح مشتركة في جهود إعادة الإعمار