مقالات

لا تحشرونا في خانة أمريكا فنصبح أعداء لتركيا!

مقال رأي – عروة درويش – لا تحشرونا في خانة أمريكا فنصبح أعداء لتركيا!

حين نناقش التموضع الإقليمي لسوريا، كثيراً ما تحتلّ العناوين خطابات عامة وشعارات فضفاضة مثل «الحياد»، أو «الانعزال عن الصراعات الدولية والإقليمية» إلى آخره. لكنّ السياسة الواقعية لا تُبنى على هذا النوع من الآمال والخطابات، بل على الأرقام القاسية التي علينا الإقرار بها عندما نمسك بوصلة تحديد موازين القوى، ومسارات التجارة، واتجاهات الاستثمار والتسلّح. وهذا يجب أن يكون واضحاً في علاقتنا مع تركيا وأمريكا.

في العقدين الأخيرين، انتقلت تركيا – جارتنا الشمالية ذات الوزن الإقليمي المرتفع – من موقع الحليف الوثيق لواشنطن داخل الناتو إلى شريكٍ متوتّر، يميل أكثر فأكثر شرقاً. هذا ليس استنتاجاً من الفراغ، بل واقعٌ موثّقٌ بالأرقام: أمريكا لم تعد تمثّل سوى 6.5% من صادرات تركيا و4.8% من وارداتها. الليرة التركية هوت 40% عام 2018 مع عقوبات أمريكية غير مباشرة. واردات السلاح التركي انخفضت 59% بين 2011–2020 ثم 33% إضافية في 2020–2024. بالمقابل قفزت تجارة تركيا مع روسيا إلى أكثر من 62 مليار دولار عام 2022، وصارت روسيا تؤمّن 42% من غازها و21% من منتجاتها النفطية. أما مع الصين فقد ارتفع الميزان التجاري إلى 38.5 مليار دولار مع خط تبادل عملات بحجم 35 مليار يوان/189 مليار ليرة.

لكن كيف يجب على صانعي السياسات في سوريا أن يقرؤوا هذه الأرقام؟ الإجابة البسيطة: يجب أن نتجنّب، بأيّ ثمن، أن يتمّ حشر بلدنا في خانة: «الحليف التفضيلي لواشنطن» لأنّ ذلك سيعني دون شك، سواء أعجبنا ذلك أم لا، أننا خصوم – وربّما أعداء – لأنقرة. فمن يتجاهل أن تركيا تتحوّل شرقاً بالمال والسلاح والطاقة، يقع في فخ السياسة الشعاراتية وعدم التطوّر والنضوج السياسي، ويجرّ سوريا إلى مواجهة مع جارها الشمالي بحكم الأمر الواقع لا بحكم القرار الواعي.

في هذا المقال سأعرض كيف تُترجم هذه الأرقام إلى حقائق استراتيجية على الأرض، ولماذا يجب أن تقرأ دمشق توازنات أنقرة وواشنطن عبر لغة البيانات والتحديثات السياسية، لا عبر لغة الأمنيات «بإرضاء الجميع» أو المراهنة بشكل غير دقيق على الولايات المتحدة رغم قرب أفول نجمها.

ستكشف الأرقام أنّ الوقوف الحصري مع أمريكا واتخاذها راعياً رئيسياً، سواء كان ذلك عبر بوابة إرضاء العدو الصهيوني، أو من أيّ بوابة أخرى، يعني الوقوف في المحصلة ضدّ تركيا. المطلوب من صانع السياسات في سوريا اليوم أن يحافظ على التوازن في العلاقات مع الجميع، وأن ينتبه أضعافاً للاستسهال والارتماء في حضن الأمريكيين، فهذا هو المخرج الوحيد لتقليل كلفة الجغرافيا وتحويلها إلى أصلٍ استراتيجي.

ميزان التجارة: واشنطن تتراجع، موسكو وبكين تتقدمان

تراجع الوزن الأمريكي في التجارة التركية تدريجياً: من 14.7 مليار دولار عام 2010 إلى 32.1 مليار عام 2024، أي نمو بطيء لا يقارن بالقفزات مع روسيا والصين. روسيا وحدها قفزت تجارتها مع أنقرة من 26.3 مليار عام 2019 إلى 62 مليار عام 2022. الصين بدورها وصلت إلى 38.5 مليار عام 2022، لتصبح ثاني أكبر شريك تجاري لأنقرة. النتيجة: أكثر من 100 مليار دولار سنوياً في تجارة تركيا مع روسيا والصين مقابل ثلث هذا المبلغ فقط مع أمريكا. بالنسبة لسوريا، علينا أن ندرك أنّ الأتراك لم يبدلوا تجارتهم إلّا مرغمين، فهم استشعروا خطر التراجع الأمريكي العالمي، والفرص التي يوفرها الشرق لدولتهم للارتقاء اقتصادياً، وبالتالي تعظيم نفعهم.

الطاقة كمعادلة إلزامية

تركيا تستورد 42% من غازها من روسيا في 2024، ارتفاعاً من 24% في 2019. أنبوب «السيل التركي» وحده قادر على نقل 31.5 مليار متر مكعب سنوياً، إضافة إلى مشروع «أكويو» النووي الذي سيغطي 10% من كهرباء تركيا بتمويل روسي كامل قيمته 25 مليار دولار. هذه الأرقام تعجّل في حقيقة الأمر – كما فعلت بشكل واضح في العقد الأخير – في الخصام وربّما الصدام التركي–الأمريكي، خاصة إذا علمنا بأنّ هذه الفجوة غير قابلة للردم اقتصادياً من قبل الولايات المتحدة.

تفتح هذه التفصيلة بالذات لسوريا فرصة هائلة: فالممرات الطاقية التي تحوّل تركيا إلى دولة «ترانزيت» طاقي عالمي، تنفع سوريا سواء كمستورد، أو كمورّد في حال صدقت نبؤات عومنا على بحر من الغاز! 

إن أغفلنا كلّ شيء آخر، فهذا البند أدعى لوحده بتعزيزنا علاقاتنا بتركيا، وليس الابتعاد عنها، أو السماح بحشرنا في مكان يُفهم منه أنّنا خصومها.

المال والتسويات: فكّ الارتباط بالدولار

منذ 2021 وقّعت تركيا والصين اتفاق مبادلة عملات بحجم 35 مليار يوان/189 مليار ليرة « أي قرابة 4.8 مليارات دولار». كما اتفقت أنقرة مع موسكو على دفع 25% من الغاز بالروبل. أكثر من 1300 شركة روسية تأسست في تركيا عام 2022، ما يعني تحويل أنقرة إلى بيئة مالية ولوجستية بديلة عن منظومة الغرب. 

ربّما على صانعي السياسة السوريين أن يحذو هنا حذو تركيا، فبدلاً من الارتماء والانبطاح من أجل استجداء الولايات المتحدة لترفع عقوباتها، من الأجدى المضي في طريقٍ يجعل هذه العقوبات أقلّ وطأة علينا وعلى اقتصادنا. ليست تركيا وحدها من تفعل ذلك بالمناسبة، فحتّى الإمارات والسعودية يدركان أهمية الترتيبات المالية البديلة. حينها، إن رفعت الولايات المتحدة عقوباتها فهو خير، لكن ليس مقابل أيّ ثمنٍ ينتقص من سيادة سوريا.

الصناعات الدفاعية: استقلال تركيا عن السلاح الأمريكي

وفق بيانات «معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام SIPRI»، فإنّ واردات السلاح التركي هبطت 59% بين 2011–2020 و33% إضافية بين 2020–2024، وحصّة الأسد في الانخفاض هي الواردات من الولايات المتحدة. بالمقابل، ارتفعت صادرات السلاح التركية 103% في الفترة نفسها، وقفزت تركيا إلى المرتبة 11 عالمياً في التصدير بعدما كانت في المرتبة 18. نسبة الاكتفاء المحلي وصلت إلى 70% من الاحتياجات العسكرية. 

هذا التحول يعني أنّ الساسة السوريين، في حال رغبوا بشراء معدات عسكرية وأمنية من تركيا، فلن يكون عدائها، أو السماح للولايات المتحدة بالضغط عليها من بوابة سوريا، خياراً. أعود وأؤكد: ليس المطلوب معاداة الولايات المتحدة بالتأكيد، ولكن المطلوب عدم السماح لابتزاز الأمريكيين بعلاقات تفضيلية معهم أو مع الكيان، بأن يمر.

التدفقات العقارية والسياحية

بعد تراجع أعداد السياح الغربيين في محاولة الأمريكيين وحلفائهم الضغط على أنقرة، مضى الأتراك في استبدال الغرب بالشرق كما في بقيّة القطاعات. 

أكثر من 16,000 شقة اشتراها روسٌ في تركيا عام 2022، بارتفاع 203% عن العام السابق. أكثر من 7 ملايين سائح روسي زاروا تركيا في 2019. هذه الأرقام تؤكد أنّ أنقرة نجحت في تحويل الجغرافيا إلى رافعة اقتصادية حتى في ظل العقوبات. 

في الختام…

سوريا إذاً أمام خيار استراتيجي: من يقف مع أمريكا – أو الكيان الصهيوني ضمناً – بطريقة تسمح بحشره ليكون خصماً لتركيا، سيخسر.

المطلوب ليس عداء واشنطن من أجل تركيا، بل صياغة معادلة توازن تحمي السيادة وتُبقي الباب مفتوحاً أمام الشرق عبر أنقرة، من دون أن تضع دمشق نفسها في خانة «الحليف الحصري» الذي لا يُجيد إلا أن يخسر.

عند فهم هذه الأرقام الاستراتيجية، والبناء عليها، يمكننا أن ندرك بأنّه في تركيا نفسها سيحصل صدام بين مؤيدي الغرب والمدركين لضرورة التحوّل إلى الشرق. فلماذا يسمح السوريون بأن يتم وضعهم ضمن هذا الصراع. فقط عند فهم هذه المعطيات – وغيرها من المعطيات الإقليمية – يمكننا أن نجنّب سوريا «النزاعات الدولية والإقليمية».

اقرأ أيضاً: إلى من يحكم دمشق: اهربوا من الدولار وإلا ستسقط سوريا معه!

————————————————————————————————————

تنويه
يفتح موقع «سوريا اليوم 24» صفحاته لكل من يحمل رأياً ويرغب في التعبير عنه بحرّية ومسؤولية، إيماناً منا بأن الحوار هو السبيل الأمثل لفهم الواقع وصياغة المستقبل. نحن نُجري لقاءاتنا مع ضيوف من مشارب فكرية وسياسية متعددة، نستمع إليهم ونعرض ما لديهم بأمانة وموضوعية، وننقل الآراء المختلفة من مصادر متعددة. ولكن نشرنا لآرائهم لا يعني بالضرورة تبنّيها، بل يأتي في إطار رسالتنا الهادفة إلى ترسيخ ثقافة الحوار وتبادل الرؤى في فضاء من الاحترام والانفتاح.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى