بقلم: هلا يوسف
قال أحد الزوار الغربيين إن أكثر ما لفت نظره خلال زيارته لسوريا، هو وجود كنيسة داخل مسجد؛ ففي رحاب الجامع الأموي، تتربع كنيسة يوحنا المعمدان. نعم، هذه هي دمشق، بل هذه هي سوريا، حيث يصلي المسلم والمسيحي في المكان ذاته، لا يفرّقهم دين ولا عقيدة، وحيث تقرع أجراس الكنائس على وقع أذان المآذن.
إنّ المناسبة لذكر هذه المعلومة ليست لحظة فرح، للأسف، بل هي اضطراري كإعلامية إلى استحضارها في لحظة حزن عميق، في ظل التفجير الإرهابي الذي استهدف كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة الدمشقي، فنحن، كإعلاميين، لا نملك إلا الكلمة، نرفعها في وجه الإرهاب المتطرف الذي يسعى لتشويه صورة سوريا، ويبث فكراً دخيلًا على واقعنا السوري القائم على التعايش والمحبة.
فعلى أرض كنيسة مار إلياس، سالت دماء الأبرياء الذين كانوا يصلّون للحب والسلام، ليكون هذا المكان المقدّس شاهداً على جريمة بشعة تبرأ منها كل سوري شريف، من جميع مكونات سوريا، وليخلّد التاريخ ذكرى أولئك الشهداء بكلمتين فقط: “شهداء الصلاة”.
ظنّ منفذو هذا العمل الإجرامي أنهم أصابوا وحدة السوريين، ولم يدركوا أن هذه الفاجعة ستكون جامعة للقلوب، لا مفرّقة لها، فجاءت ردّة الفعل مهيبة، تجلّت في توافد السوريين من كل الطوائف والأعراق إلى المشافي للتبرّع بالدم لإخوتهم، في مشهدٍ إنسانيٍ نبيل عبّر عن أن الدم السوري واحد، وأننا جسد واحد مهما تنوّعت ألوانه.
وبعد إدانات دولية واسعة واستنكار واسع للإرهاب، جاءت بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس المعنية الأكبر بهذه الجريمة، إذ وقعت بالتزامن مع قدّاس عيد جميع القديسين الأنطاكيين، ولهذا، دعونا نقترب أكثر من كنيسة مار إلياس، نقرأ عن حجارتها، وعن قديسها، الذي يوحّد القلوب.
كنيسة مار إلياس
كنيسة القديس إلياس الحي – أو مار إلياس – هي كنيسة لطائفة الروم الأرثوذكس، تقع في حي الطبالة قرب مدخل حي الدويلعة الدمشقي، وقد بُنيت عام 1990م، يضم دير مار إلياس إلى جانب الكنيسة مدرسة رهبانية وقاعات مخصصة للزوار، ومنقوش على مدخلها: “دير النبي إلياس – St. Elias Monastery”، ويحتوي على غرف مخصصة للسياح والطالبات وملحقات أخرى.
في هذه الكنيسة، كان المؤمنون يحتفلون بعيد جميع القديسين بقدّاس الأحد، وهو عيد روحي يجمع الطوائف المسيحية على المحبة والألفة، ويُحتفل به في أول أحد بعد عيد الخمسين وفق التقليد المسيحي الشرقي، تكريماً لجميع القديسين الذين ساروا على درب الإيمان.
خلال بحثي للتعرف على هذه الكنيسة، لفتني أن مار إلياس جامع للأديان، فهو لم يكن في زمن السيد المسيح، بل عاش قبل الميلاد، في زمن انتشار الديانة اليهودية، وقد ورد في الكتاب المقدّس أن مار إلياس – أو إيليا التشبي، نسبة إلى مدينة “تشبة” – ظهر في القرن العاشر قبل الميلاد، في عهد آخاب ملك إسرائيل.
كان، وفقاً للعهد القديم، رجلاً ناسكاً متعبّداً، أنزل الله على يديه المعجزات؛ منها حبس المطر لثلاث سنوات ونصف، عقاباً لبني إسرائيل وملكهم بسبب عبادة الأوثان، وعندما حلّ ضيفاً على أرملة فقيرة وابنها، بارك طعامهم فزاد ولم ينقص، ودعى الله أن يعيد الروح إلى جسد طفلة، فلبّى الله دعائه.
ووفقاً للمؤمنين بالعهد القديم، لم يمت مار إلياس، بل رفعه الله إلى السماء في عاصفة نارية بحسب ما ورد في نصوص العهد القديم، ويُقال إن السيد المسيح حين أراد أن يمدح يوحنا المعمدان، شبّهه بمار إلياس، لما له من مكانة وكرامة.
لهذا، تُطلق الكنائس المسيحية من مختلف الطوائف اسمه على كنائسها، وتأتي كنائس مار إلياس في المرتبة الثانية بعد كنائس السيدة العذراء، وقد شُيّدت العديد من الكنائس على اسمه في مختلف أرجاء العالم.
وليس ذلك فحسب، فقد ورد اسمه في القرآن الكريم أيضاً، مما يجعله شخصية دينية جامعة بين الديانات السماوية الثلاث. ففي سورة الأنعام، يقول الله تعالى: “وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ” (الأنعام: 85)، وفي سورة الصافات: “وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٢٣﴾ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿١٢٤﴾ أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ” (الصافات: 123–125).
اقرأ أيضاً: السياحة الثقافية في سوريا والجذب الثقافي
نحن أبناء سوريا… أبناء المحبة… وشهداء الصلاة في كنيسة مار إلياس، هم شموع مضيئة في ظلام هذا العالم، وسنبقى، مهما اشتدّت العواصف، نرفع راية التعايش والإخاء.
اقرأ أيضاً: صيدنايا: مدينة القداسة والتاريخ.. لا سجن الرعب والدماء!