سياسة

في اختبار البلياردو: أين تقف معايير الإخبارية السورية؟!

الكاتب: أحمد علي

خبرٌ واحد قادر على أن يجعل شاشة التلفزيون مرآةً لخيارات التحرير، أو لوحاً إعلانياً يلمّع الصورة. حين خرج إلى الفضاء الرقمي مقطعٌ قصيرٌ للرئيس أحمد الشرع وهو يسدد كرات البلياردو بثقة وهدوء، بدا المشهد للوهلة الأولى محاولة عفوية لكسر الجدية السياسية بلمسةٍ إنسانية. لكن ما بدا ترفيهاً صار مادة نقاش حول وظيفة الإعلام العام وحدود «التسويق السياسي» حين تتداخل حسابات «غير رسمية» مع منصات رسمية تعيد النشر وتمنح المحتوى شرعية الانتشار.

القصة هنا أبعد من فيديو ناجح بالمشاهدات؛ إنها سؤال ملحّ عن مصداقية الإخبارية السورية، وكيف تصونها أو تفرّط بها حين تتبنى تكتيكات ملتبسة تترك الجمهور في منطقة رمادية بين الخبر والدعاية.

الإخبارية السورية… من أين يبدأ الإخلال؟

تفصيلة البداية أساسية: المقطع ظهر أولاً عبر صفحة غير رسمية تحمل اسم الرئيس على منصتي «إكس» و«إنستغرام»، ثم أعادت «الإخبارية السورية» نشره بصيغة «بعيداً عن ميادين السياسة… الرئيس الشرع يسدد ضربات محكمة في لعبة البلياردو»، وهو ما ثبّت حضوره على القنوات الرسمية ومنح «المنشأ غير الرسمي» غطاءً مؤسساتياً.

هذا التسلسل ليس اجتهاداً صحفياً محايداً؛ بل هو -وفق ما يرى البعض- ممارسة تحريرية لها كلفة على مصداقية الإخبارية السورية لأنها تجعل الجمهور يتساءل: إن كانت القناة تشدد على المصادر الرسمية، فكيف تُسوّق محتوى انطلق من حساب غير رسمي وغير موثوق؟

المفارقة زادت حدّة مع نبرة التحذير التي صدرت من الإخبارية ووسائل إعلامية أخرى ذاتها بخصوص عدم صلة بعض الحسابات المتداولة بأي إطار رسمي، في وقت كانت فيه المنصات الإعلامية العامة تمنح تلك الحسابات «جسراً» إلى الجمهور عبر إعادة النشر. هنا يتسع الشرخ أكثر: حين يُقال للناس «لا تعتمدوا إلا الموثق»، ثم يجدون المحتوى ذاته وقد صار على شاشة رسمية. فإن هذا التناقض يهزّ مصداقية الإخبارية السورية لأنه يربك معيار التحقق ويخلط بين ما هو توثيقي وما هو «ترويج ذكي» بذريعة القرب من مصادر القرار.

من المهم هنا أن ندرك بأننا لسنا مع عدم عرض فيديو الرئيس وهو يلعب البلياردو، ففي النهاية من حق الرئيس ومن حوله أن يحاولو التقرّب من الناس بإظهار “وجههم الإنساني”. المشكلة هنا مع الإخبارية السورية، التي تمضي قُدماً في تحويل نفسها إلى منصّة حملة للمنصب، وليس كما تمّ وعدنا بأن تصبح منصّة للناس بغض النظر عمّن في المنصب.

من «الإنساني» إلى «السياسي»: لعبة سرديات بلمسة بلياردو

لا غضاضة في أن تُظهر القنوات الرسمية وجهاً إنسانياً لقادة البلاد؛ هذا يحدث في كل مكان. لكن التحول من لقطة إنسانية إلى «درسٍ رمزي» يتضمن تلميحات ورسائل مصاغة بعناية يقتضي شفافية أعلى، وإلا سقطنا في فخ «الإعلان المتخفي».

في حالة فيديو البلياردو تحديداً، لم يتوقف الجدل عند حركة الكرة في الجيب، بل امتدّ إلى المعاني الملحقة بالمشهد من قبيل «الهدف المزدوج» أو «إصابة الهدف في نهاية الطريق»، وهي عبارات حُمّلت بقراءات سياسية عززت انطباع «الحملة» لا «الخبر». فحين تعيد منصة رسمية توزيع هذه الرسائل من دون سياق تحريري واضح، فإنها -عملياً- تدعم سردية تسويقية وتقدّمها باعتبارها حدثاً عاماً، وهو مسار يضعف المصداقية ويجعل المشاهد يرى في الشاشة «ملصقاً» أكثر مما يرى «نشرة».

ثمن الازدواجية التحريرية: شرعية الحاضر وذاكرة المستقبل

الازدواجية لا تُقاس بلحظة الانتشار فقط، بل بذاكرة الجمهور أيضاً. اليوم قد يحظى فيديو من هذا النوع بتفاعلٍ واسع، لكن الغد يسأل: كيف وصلت المادة إلى الهواء؟ هل مرّت عبر معايير التدقيق المعتادة؟ هل راعت القناة قواعد نسب المحتوى لمصدره الأول؟

إن إجابات هذه الأسئلة ترسم «أرشيف الثقة» الذي ستُحاسب عليه أي منصة أو قناة، خصوصاً حين تكون ممولة من المال العام وتخاطب جمهوراً متنوعاً التوجهات. كل ثغرة في السلسلة التحريرية — من المصدر إلى العنوان إلى زاوية المعالجة — تُخصم من المصداقية وتضعف قدرتها على قيادة النقاش العام وقت الأزمات، لأن الجمهور سيلتقط سريعاً أي تناقض بين خطاب «التحقق» وسلوك «التسويق».

كيف تُستعاد الثقة من دون خسارة السرد الإنساني؟

الحل لا يمرّ عبر «التحريم»، بل عبر ضبط القواعد. يمكن للإخبارية أن تحافظ على «حرارة الرواية» وأن تظهر جانباً إنسانياً من حياة المسؤولين، ولكن بشروط واضحة: أولها الإفصاح الصريح عن مصدر المحتوى إذا انطلق من حساب غير رسمي، وعدم تبنّي مواد «مُسربة» أو «مسرّبة عمداً» قبل توثيق نسبها.

ثانيها وضع سياسة تحريرية منشورة تشرح كيفية التعامل مع المواد التي تحمل طابعاً ترويجياً، ومن يقرّر بثها، وكيف تُصاغ عناوينها لتبقى في خانة «الإخبار» لا «الإيحاء». ثالثها الاستثمار في فريق تحقق مستقل داخل القناة ينشر -عند الحاجة- توضيحاً علنياً يردّ أي التباس.

وهذه الخطوات ليست ترفاً تنظيمياً؛ بل إنها شرط لازم لحماية المصداقية في زمن تتسارع فيه الموجات وتختلط فيه الحسابات الرسمية ببحرٍ من الصفحات «الموثقة» شكلاً، مجهولة المضمون فعلاً. وقد أظهرت تغطيات عدة أن انطلاق الفيديو من حساب غير رسمي ثم وصوله إلى المنابر الرسمية كان شرارة الجدل الأساسي، وهو ما يجعل الشفافية ضرورة لا خياراً.

ما بعد البلياردو: اختبار أكبر لوسائل الإعلام العامة

الرسالة الأخيرة تخصّ صورة الإعلام العام في سوريا وهي تعيد تعريف دور القناة الرسمية بوصفها «المحرر العام» لا «المعلّق الرسمي». فإذا أرادت الإخبارية أن تبقى مرجعاً موثوقاً، فعليها أن تجيب بوضوح عن سؤال الجمهور البسيط: «من أين جاء هذا المحتوى ولماذا يُنشر الآن؟». والجواب الصادق -حتى لو خفّف بريق المشاهدة- يزيد رصيداً في بنك الثقة، فيما الجواب الموارِب يرفع أسهم أي منصة منافسة تجاهر بمصادرها وتتمسك بقاعدة «قل ما تعرف، ولا تلمّح لما تريد».

وهنا، يتحدد مستقبل مصداقية الإخبارية السورية: فإما أن تكون معياراً مهنياً يضبط السرد الوطني، أو أن تتحول إلى لاعب تسويق يطارد «الترند» لحظياً ويدفع ثمنه لاحقاً.

اقرأ أيضاً: بمناسبة الخلاف بين غسان عبود ووزير الإعلام.. هل ارتفع مستوى حرية التعبير في سوريا؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى