سياسة

فرضيّة التفكك السوري الداخلي.. انزلاق ورقة بحثية بحاجة إلى التصويب

بقلم: هلا يوسف

بعد مرور عشرة أشهر على سقوط النظام، ما تزال ملامح الفوضى الأمنية في سوريا قائمة. تتنازع البلاد بين دعوات الفيدرالية ومشاريع الانفصال، فيما تحاول الحكومة السورية الجديدة جاهدة إعادة بناء جسور الثقة بين مكونات المجتمع السوري، لكنّ نجاحها في ذلك ما زال محدوداً.

وفي خضمّ هذا المشهد، ظهرت ورقة بحثية صادرة عن مركز بحثي مرموق، تتناول التحولات الأمنية والسياسية الراهنة، مقدّمةً تصوراً مفاده: أن الخطر الأكبر الذي يهدد استقرار سوريا لا يكمن في التوترات الأمنية المتفرقة، بل في غياب إدارة رشيدة للتعدد الطائفي والإثني. وتدعو الورقة إلى الانتقال من مفهوم “إدارة الأزمات” إلى “إدارة الأقليات”، بوصفه إطاراً أكثر استدامةً لبناء الاستقرار.

ورغم ما تحمله هذه المقاربة من منطقٍ إداري، إلا أنّها تثير تساؤلات جوهرية حول مدى واقعيتها في الحالة السورية. فالمجتمع السوري لا يواجه مجرد تحديات في إدارة التنوع، بل أزمة عميقة في إعادة تعريف الدولة نفسها بعد مرحلة انهيار طويلة. كما أن الإشارة إلى «إدارة الأقليات» بوصفها بديلاً لإدارة الأزمات قد توحي، ولو ضمناً، بقبول فكرة التقسيم الإداري أو الاجتماعي على أسس طائفية، وهو طرحٌ لا ينسجم مع المزاج الوطني العام ولا مع المسار السياسي المعلن للحكومة الحالية.

وفي سياقٍ آخر، تُرجع الورقة تفاقم الفوضى إلى تنامي نفوذ المجموعات المحلية المنفلتة في مناطق متعددة من البلاد، لاسيما في الساحل والسويداء والشمال الشرقي. وهي قراءة صحيحة جزئياً، لكنها تتغافل عن أن هذه الظواهر ليست مستقلة عن الظروف السياسية والاقتصادية التي رافقت مرحلة سقوط النظام، ولا عن ضعف مؤسسات الدولة في تلك المناطق. كما أن الورقة تميل إلى توصيف الوضع القائم بوصفه نتيجة طبيعية لصراع المكونات، بينما يمكن النظر إليه من زاوية أوسع باعتباره نتاجاً فرعياً لفراغ السلطة المركزية وتراجع شبكات الضبط القديمة دون قيام بديلٍ مؤسسي فعّال.

أما ما أوردته الورقة حول ما سمّته «الخطة الروسية – الإسرائيلية» التي تهدف، بحسب رأيها، إلى تفكيك البنية الوطنية السورية عبر دعم استقلالية المكونات الطائفية والإثنية، فيبدو استنتاجاً غريباً إذا ما قورن بسلوك موسكو الفعلي خلال السنوات الماضية. فمن المعروف أن روسيا لم تُبدِ حماسة لمشاريع الفيدرالية أو التقسيم في سوريا، بل لطالما شددت في تصريحاتها الرسمية على وحدة الأراضي السورية، وهو موقف كررته في مختلف المحافل الدولية منذ عام 2015.

بل إن ما حدث في المراحل الأخيرة من الصراع السوري يُظهر أن موسكو لم تعد ترى في النظام السابق حليفاً استراتيجياً يستحق الدفاع عنه، بقدر ما تعاملت معه كأداة مؤقتة لإدارة مصالحها في المنطقة. ولذلك، فإن القول إن روسيا كانت تخطط لتقسيم سوريا يبدو متناقضاً مع مصلحتها الاستراتيجية التي تقوم على الحفاظ على نفوذها داخل دولة موحدة يمكن التفاهم مع سلطتها المركزية، لا مع كانتونات متفرقة يصعب ضبطها.

كما أن التذكير بالدور الروسي في مرحلة سقوط الأسد يكشف جانباً آخر من الصورة: فلو كانت موسكو راغبة فعلاً في ترسيخ مناطق نفوذ طائفية أو إثنية، لكانت قد دعمت بوضوح القوى المحلية ذات الطابع الانفصالي بعد انهيار النظام، لكنها لم تفعل. على العكس، وقفت موقفاً سلبياً من تلك القوى، ولم تمنحها اعترافاً سياسياً أو دعماً مباشراً، وهو ما يتناقض مع فرضية “الخطة الروسية – الإسرائيلية” كما عرضتها الورقة.

تبدّل المواقف الأمريكية وتراجع شهية التقسيم

تُشير الورقة البحثية إلى أنّ الولايات المتحدة تراجعت عن حماستها لمشاريع التقسيم في المنطقة بعد تولّي إدارة ترامب الحكم، مستشهدة بتجربتي العراق وجنوب السودان اللتين أفضتا إلى دولٍ منقسمة وضعيفة. هذا التوصيف يحمل جانباً من الحقيقة، إلا أنّ ربطه المباشر بالواقع السوري يحتاج إلى تدقيق أكبر. فواشنطن وإن خفّفت من خطابها المتعلق بالفيدرالية، لم تتخلّ تماماً عن دعم القوى المحلية ذات النزعة الانفصالية، وخصوصاً في الشمال الشرقي. لكنّ هذا الدعم ظلّ في إطارٍ تكتيكي أكثر منه استراتيجي، أي أنه يهدف إلى خلق أوراق ضغط، لا إلى صياغة واقعٍ جغرافيٍّ دائم.

كما أنّ القول إن الولايات المتحدة عادت لتتوافق مع مركزية الحكم في سوريا يبدو تبسيطاً لعلاقات معقدة. فالموقف الأمريكي، على الرغم من تصريحاته الداعمة لوحدة الأراضي السورية، ما زال يتأرجح بين هدفين متناقضين: الحدّ من النفوذ الإيراني والروسي من جهة، وعدم السماح بعودة سلطة مركزية قوية قد تتجاوز الخطوط الأمريكية من جهة أخرى. هذه المراوحة تُضعف استنتاج الورقة بأن واشنطن فقدت تماماً “شهية التقسيم”، إذ تشير الوقائع إلى أنّ الولايات المتحدة ما زالت تستخدم ملف الأقليات كأداة تفاوض، لا كقضية مبدئية.

انقسامات داخل المكونات المحلية السورية

تتناول الورقة ما تصفه بـ«تصدّع البنى الطائفية» داخل المكونات السورية، مستشهدة بما جرى في السويداء مثالاً على الانقسام داخل الطائفة الدرزية بين المرجعيات الدينية والسياسية المختلفة. هذا التحليل يبدو متوازناً في ظاهره، لكنه يميل إلى تعميم لا يخلو من المبالغة. فالتباينات داخل المكونات السورية ليست جديدة، بل هي جزء من حراكٍ اجتماعي وسياسي طويل يعكس تنوعاً في الرؤى أكثر مما يعكس انقساماً جذرياً حول الهوية أو الانتماء الوطني.

أما ما أوردته الورقة حول “اصطفاف” بعض القوى الدرزية في الخارج مع جماعات الداخل، فهو توصيف يحتاج إلى التحقق أكثر مما يحتاج إلى الترويج، خصوصاً أنّ معظم التحركات التي شهدتها المنطقة بقيت في إطارٍ رمزي ولم تتحول إلى حراكٍ مسلح أو مشروع سياسي متكامل. كما أن الإشارة إلى عبور شبان دروز من فلسطين المحتلة إلى الأراضي السورية بدافع “الدفاع عن الطائفة” تبقى ضمن نطاق محدود لا يغيّر من المعادلة الداخلية شيئاً.

بالمقابل، كان لافتاً تجاهل الورقة لمؤشرات الانقسام داخل المكونات الأخرى، ولا سيما في الأوساط العلوية التي ما زالت تبحث عن موقعٍ جديدٍ لها بعد سقوط النظام، ما يجعل الصورة العامة أكثر تعقيداً مما توحي به التقسيمات الطائفية المبسطة.

نحو مقاربة واقعية للتنوع السوري

في ختام الورقة، تُطرح فكرة الانتقال من “إدارة الأزمات” إلى “إدارة الأقليات” باعتبارها الإطار الأمثل لضمان الاستقرار. هذا الطرح يبدو من حيث الشكل دعوةً إلى إعادة النظر في أدوات الحكم، لكنه يثير تساؤلاً مشروعاً حول الخلفية الفكرية والسياسية التي تنطلق منها هذه الفكرة. فهل المقصود فعلاً الاعتراف بالتعددية بوصفها ثراءً وطنياً؟ أم أن المقصود هو تحويلها إلى إطار إداري دائم يكرّس التمايز بدل تجاوزه؟

التجارب المقارنة في المنطقة تُظهر أن ما يُسمّى “إدارة الأقليات” قد يتحوّل في بعض الحالات إلى نظام محاصصة مستتر، لا إلى عقدٍ وطني جديد. لذلك، يبدو من الأجدر التركيز على بناء مؤسسات شاملة تتعامل مع المواطنين كمواطنين، لا كمكونات. فالتحدي الحقيقي في سوريا لا يكمن في رسم حدودٍ جديدة أو تثبيت هوياتٍ فرعية، بل في استعادة الدولة بوصفها مساحة جامعة لجميع السوريين.

روسيا بين المصالح والاستقرار

تخلص الورقة إلى أن “الخطة الروسية – الإسرائيلية” هي المحرك الخفي وراء معظم التطورات الأخيرة، لكنّ هذه الفرضية تبقى غير مدعومة بما يكفي من القرائن الميدانية والسياسية. فمن الواضح أن موسكو، منذ تدخلها العسكري في عام 2015، سعت إلى تعزيز نفوذها الاستراتيجي في الشرق الأوسط عبر سوريا الموحدة، لا المفككة. فالتقسيم لا يخدم مصالحها بعيدة المدى، إذ من شأنه أن يفتح الباب أمام نفوذ قوى أخرى، ويقلّص من فاعلية وجودها العسكري والسياسي.

أما موقفها المتحفظ خلال سقوط الأسد، فيمكن قراءته في إطار إعادة تموضع سياسي، لا كدليل على رغبة في تفكيك الدولة السورية. روسيا صرّحت مراراً أن استقرار سوريا ركيزة لمعادلاتها الإقليمية، وأنّ الحل السياسي يجب أن يحافظ على وحدة البلاد، وهو موقف يصعب التوفيق بينه وبين فرضية “الخطة المشتركة” التي تذهب إليها الورقة.

ثري ولكن ينزلق بسهولة!

تقدّم الورقة البحثية مادة تحليلية ثرية، لكنها تنزلق أحياناً إلى استنتاجاتٍ تفوق ما تسمح به معطيات الواقع. فمفهوم “إدارة الأقليات” كبديل عن “إدارة الأزمات” يحتاج إلى نقاشٍ أعمق حول ماهيته وأهدافه، كي لا يتحوّل إلى توصيفٍ جديدٍ لسياسات قديمة. أما فرضية التنسيق الروسي – الإسرائيلي لتقسيم سوريا فتبدو أقرب إلى قراءة سياسية متسرعة منها إلى نتيجة بحثية راسخة، خاصة في ظل المعطيات التي تشير إلى أن موسكو فضّلت منذ البداية الحفاظ على الدولة السورية كوحدة واحدة تضمن استمرار نفوذها، لا ككيانات صغيرة متنازعة.

وعليه، يمكن القول إن الأزمة السورية، بكل تعقيداتها الأمنية والسياسية، ما تزال في حاجة إلى رؤية وطنية تعيد الاعتبار لفكرة الدولة الجامعة، لا إلى تصورات خارجية تُعيد رسمها وفق حسابات الآخرين. فإدارة التعدد لا تكون بتقسيمه، بل بفهمه وتكريسه كعنصر تماسك لا تفكك.

اقرأ أيضاً: الطائفية في الحرب السورية: سبب أشعل الصراع أم نتيجة لمأساته؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى