غالية خوجة من الشهباء حلب، عانقت الخيال فأبحرت بالشعر. بلمسة شعرية مختلفة ومميزة حاكت التفاصيل ودمجت المفردات بطريقة تعبيرية فريدة، تاركة بصمتها بين حروف الكلمات لتنسج الحكايات في قصائدها وتشبك الخيال مع التجليات التي تجسدها أبياتها. من أبرز أعمالها الشعرية “إلياذة الدم عام 1997، ونشور الأزرق 1998، والملحمة المجنونة 2005، وأشهرها أوغاريتيات التجلي”. وكان للأطفال نصيب من إبداعها فكتبت لهم “أناشيد أولى، طفولة أولى” وكتبت للكبار “حمى الجحيم” و “نون التشكيلات”.
من يقرأ قصائدها يلامس الأحلام ويسرح بالخيال بلا رجعة، ويقف عند بساطة الكلمات وعمق المعاني. فمن تلك الحالمة الإبداعية؟
من هي الشاعرة غالية خوجة
غالية خوجة شاعرة سورية مواليد عام 1968. تولد حلب حاصلة على إجازة في الحقوق من جامعة حلب في العام (1993)، تمتلك العديد من المؤلفات في مختلف المجالات الأدبية المتنوعة.
مشاركة بارزة في العديد من هيئات تحرير المجلات والدوريات الأدبية. سافرت إلى دولة الإمارات العربية المتحدة وهي تعمل بالوقت الحالي ضمن هيئة تحرير مجلة دبي الثقافية.
نشر نتاجها الأدبي والشعري في أغلب الدوريات العربية سواء داخل وخارج الوطن العربي، وكتبت لعدة دوريات يومية، شهرية، وفصلية. كانت وما زالت مساهمة في العديد من الندوات والأمسيات وتلقي العديد من المحاضرات في سوريا وخارجها وأبرز الدول التي حطت رحالها فيها: البحرين واليمن وليبيا والسعودية والإمارات.
وقد شرحت ذاتها في لقاء صحفي مع المجلة الثقافية الجزائرية عندما طلب منها تقديم نفسها، لنتعرف على غالية خوجة بلسان حالها عندم أجابت: “بعضي في إلياذة الدم، ونشور الأزرق، وأوذيسا البنفسج، والملحمة المجنون، ومحواذة، ومشيمة السديم، والنجمة العجيبة، وقلق النص، وأسرار البياض، وسواهم من مؤلفاتي، ومازلت أبحث في اللغة والكون عني، وفيما كتبته، أكتبه، وسأكتبه، وهذا يعني أنني لا أبحث عن “أناي المفردة”، بل عن “أنا النحن”.
فنستشف من تعريفها عن نفسها مدى تعلقها بكتاباتها، ومدى تعبير تلك الكتابات عنها وارتباطها فيها. فهي تجد نفسها بين حروف قصائدها وممرات كلماتها، هنا يكمن اختلافها، فقد أجابت عن نفسها بقصائدها فكأنما تقول لنا “جزء مني في كل قصيدة”
إن أردتم معرفتي انظروا لقصائدي فكأنكم تروني وتقرأوني. هذه العلاقة بين الشاعر وقصائده علاقة جذابة فأغلب الشعراء يسقطون خلجات أنفسهم بين سطور قصائدهم، يكفي أن تقرأ قصيدة لشاعر لتعرف مكنونات نفسه وما يحمل من إبداع، وقد جسدت غالية هذه العلاقة بتفاصيلها، فهي وجدت نفسها في قصائدها لكنها ما زالت تبحث عن بعض عنها في زوايا اللغة ومناحي الكون.
اقرأ أيضاً: سها جودت أغنت الوسط الثقافي
المناصب والمهام التي تقلدتها غالية خوجة عبر مسيرتها الأدبية ومكانة الشعر لديها
عملت غالية كمديرة مكتب دار الصدى في مدينة حلب في سوريا، كما عملت مع هيئة تحرير مجلة شهرزاد ومجلة الصدى ومجلة دبي الثقافية الصادرات عن دار الصدى، إلى جانب عملها في مهنة المحاماة ولم تستمر بها.
وعملت لأكثر من سنة ونصف سكرتيرة تحرير لمجلة الرافد، ومساهمة في تحرير المجلات الصادرة عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، وشغلت منصب المنسق العام لجائزة الشارقة للإبداع (دائرة الثقافة والإعلام).
إضافة لممارستها مهاماً أخرى، كعملها كمستشار لمجلة كلمات العالمية التي كانت تصدر في أستراليا، ومديرة مكتب الإمارات العربية المتحدة لمجلة عشتروت.
كما ساهمت بإدارة وتأسيس العديد من المواقع الالكترونية، فشغلت منصب مديرة في موقع وزارة الثقافة السورية الإلكتروني منتديات منابر الثقافة، وأسست موقع (أرادوس أدب) الإلكتروني، إضافة إلى أنها عينت كسفيرة لحركة شعراء العالم وكان لهم موقع الكتروني www.poetasdelmundo.com، وسفيرة عالمية للسلام universal –peace – ambassador.
فهي لم تكن مجرد شاعرة فقط، بل كانت محامية ومديرة ومنسق، لكن الشعر كان جزءاً من روحها وكيانها، وعند توجيه سؤال لها عن إذا ما كان للشعر مكانه حقاً، أجابت:
“كل مكان، وكل زمان، هو للشعر. الشعر هو الكون، والكون هو الشعر، وبينهما الإنسان برزخ وكل من يخرج عن هذه (المعادلة، المكانة، الإشراقية)، هو خارج نفسه، أي مصاب بسرطان الانفصام ـ الشيزوفرانيا المسرطنة، الشعر والموسيقى والفنون الجمالية الأخرى، علاج ليس روحياً، بل كلياً لجميع الأرواح.. وهذا ما أثبته العلم المعاصر لا الشعراء الإيغاليون وحدهم”.
هذه الإجابة تنم عن تشربها للشعر وامتزاجه بروحها، وفي توصيفها لبعض الشعراء بالإغاليون انعكاس لعتبها الكبير على بعض الشعراء الذين يبالغون في وصف الأشياء والمشاعر في شعرهم ويتجاوزون حدود التعبير إلى حد الإفراط في التصوير الشعري فيصبح النص الشعري مجرد مبالغة فنية.
اقرأ أيضاً: ليلى مريود والفن التشكيلي السوري
قصائدها الحالمة المفعمة بالروحانيات ماذا تفيض لنا عن غالية
قصيدة “معزوفة الشهب” والتي كتبت بقلم غالية خوجة وجاء فيها:
يا ربّـنا ..بغدادُ يرجمها اللهب ْ
والقدسُ توغلُ في السماء ْ
لغة ٌ على أشلائنا جاءتْ تقاتل ْ
وكذا المآذنُ و الكنائسُ و الفضاء ْ
يا ربّـنا قانا دم ٌ
يا ربَّــنا كمْ في النجوم قنابلٌ من سيرتي
نقف أمام هذه الأبيات حائرين كيف يمكن لها أن تحمل هذا الكم الهائل من اختلاط المشاعر، ففي مناجاتها للرب متوسلة إليه “بغداد والقدس وقانا “نلمس الشجن الممزوج بالعجز، وعند وصفها لحالهن نلمس الغصة المخلوطة بالغضب المتألم، وعند ذكرها للمآذن والكنائس تضفو الروحانية على الأحداث مستحضره طيف شعور الأمان المفقود والمرتجى من تلك المناجاة، فأمام عذابات تلك المدن لم تسطع غالية إلا أن تطلق لكلماتها العنان ليعانق ألمها وغضبها ورجاءها الفضاء.
غالية خوجة استثنائية مختلفة تحاكي الوقائع بلغة الكون فتحول اللهب لرجوم ينهال على بغداد الممزقة، والسماء لحقول عالية تفتش فيها القدس المسلوبة عن ضالتها وتصرخ بانتحابها طالبة الخلاص في عمق الفضاء السماوي، ولم تسطع إلا أن تعرف قانا الجريحة بدمائها، قانا التي أدمت قلوب كل من كان شاهداً على ما ارتكب فيها من وحشية استعمارية جسدتها غالية على أنها لغة تقاتل فوق الأشلاء.
لم تخفِ غالية شجنها وألمها على المدن والبلاد التي نهشها الاحتلال، ولم يُختزل حزنها فقط بأبياتها بل اختلج تصريحاتها، وكان جلياً في إجابتها عند سؤالها في إحدى المقابلات:
أنت شاعرة.. كيف يمكن وصف القصيدة في زمن القنابل البشرية، والمدن المتساقطة بين مخالب الاحتلال؟
أجابت: “أولاً، لا أفضل استخدام المصطلحات المستوردة من المغتصبين: “قنابل بشرية”، وهذا بحد ذاته نوع من الاغتصاب والاحتلال، وأنا من القائلين بأن هناك شهداء، لا قنابل بشرية! وأعني بهم، فقط، المقاومة والمقاومين، الصامدة، والصامدين، في كل مكان وزمان فيه مغتصبين. ولذلك، أرى بأننا مصابون باحتلال أو اغتصاب العقول والأرواح والنفوس والضمائر قبل أن نصاب بمدن مغتصبة.. وعليه، فأنا أبصر بأن القصيدة قنبلة لا مرئية، غير مؤقتة، لأنها بوصلة الخلود التي لا تنسى أبجديتها، علائقها، ودماءها المنثورة والمتبرعمة مع كل قطرة دم بريئة للتراب والصلصال والزرقة. القصيدة هي الحرية، والحق، والجمال، والحياة، والقيامة، الشاهدة والشهيدة، دون تعريف، أو توصيف”.
وفي مجموعتها الشعرية “أوغاريتيّات التجلي” حاكت خوجة الخيال والحنين و ناقشت دفق التساؤلات وفندت مزيج الغرابة والواقع. فكانت هذه المجموعة على حد تعبير أحد واصفيها: “مزيج من تمزقات سيرة وحياة وإضاءات ووعي”.
ومن الجلي أن الشعر عند غالية مسترسل من دون أن يكون موضوعات أو محاور يقف المرء عندها، وأكثر ما يثير الغرابة به ويعطيه لمسة الاختلاف محاكاتها للكون وكأنها تفهم لغته، وتحتويه ويحتويها. وفي تعبيرها عن وحدة الكون مع الشعر رقصة روحانية خاصة، وكأن الشعر مولود من رحم الكون وأبياته جزء من المكنونات الكونية وما تلك الأبيات إلا ترجمه لكل ما يدور فيه.
ختاماً، غالية خوجة روحانية كونية قبل كونها شاعرة، تعانق الأحلام والسماء وتقطف النجوم وتضيفها لأبياتها فتغدو براقة كما جواهر السماء، حالمة ومتجذرة بواقعها وكأنما كل ما في السماء يتجسد من خلال شِعرها على الأرض، ليست أديبة عادية ولا مبدعة كلاسيكية، إنها غالية خوجة البسيطة الغريبة.
اقرأ أيضاً: حسام جزماتي: رواية مثقف سوري زمن “الحرب”