أعمال واستثمار

عوادم السيارات في دمشق..من التلوث إلى فرص الطاقة النظيفة

لم تعد مشكلة تلوث الهواء مشكلة ثانوية في سوريا، فقد بدأت تظهر أثارها من خلال الأمراض التنفسية والسرطانية مع ارتفاع معدل التلوث، وتشهد مدينة دمشق تدهوراً بيئياً متسارعاً بحسب الإحصاءات نتيجة عوامل متعددة تشكل عوادم السيارات أبرزها، وعلى الرغم من الدراسات التي ستعمل عليها الجهات المختصة لمعالجة المشكلة، إلا أن غياب تطبيق المخالفات المرورية من ناحية وزيادة الدراسات العالمية لأسباب زيادة سميّة هذه العوادم من ناحية أخرى ساهم في تسليط الضوء على هذه المشكلة، ومحاولة إيجاد الحلول.

تفاقم التلوث في دمشق وسط أسباب مختلفة

بحسب موقع AccuWeather، بلغ مؤشر جودة الهواء في المدينة 53، وهو ما يصنَّف على أنه “سيئاً”، بينما تُعتبر الدرجة المقبولة 48 فما دون، والممتازة 13 فما دون. وللمقارنة، يسجّل المؤشر في ألمانيا 31 وفي تركيا 41، وكلاهما يصنَّف في الفئة “الجيدة”.

تعود أسباب مستويات التلوث المرتفعة إلى عدة عوامل، أبرزها الكثافة السكانية العالية، والانبعاثات الناتجة عن المصانع المحيطة، ودخان وسائل النقل والمولدات الكهربائية. من جهته يؤكد معاون وزير الإدارة المحلية لشؤون البيئة، يوسف شرف، أن الوزارة تضع الاعتبارات البيئية ضمن أولوياتها لتحقيق التنمية المستدامة. إلا أن الواقع يشير إلى أن الغبار الكثيف الناتج عن أعمال الهدم يمثل أحد أبرز الملوثات، إلى جانب حرق الوقود منخفض الجودة في وسائل النقل والصناعة. كما تزيد الانبعاثات الناتجة عن التفجيرات من تراكم الغبار والجسيمات الدقيقة وارتفاع غاز ثاني أكسيد الكربون، مما يزيد الأثر السلبي على الصحة والاقتصاد.

ما هي ملوثات الهواء؟

بحسب وزارة الإدارة المحلية، تنقسم ملوثات الهواء إلى أربع فئات رئيسية:

  • الغازات (مثل CO₂ وSO₂ وNOx).
  • العناصر الثقيلة (كالزئبق والرصاص).
  • الجسيمات الدقيقة والعوالق.
  • الملوثات الثانوية الناتجة عن التفاعلات الكيميائية في الجو.

عوادم السيارات أكثر مسبب لتلوث الهواء

تُعد عوادم السيارات المصدر الأكبر لتلوث هواء دمشق، إذ تسهم بما نسبته 60–70% من الانبعاثات الضارة، ولا سيما السيارات القديمة و”الميكروباصات” التي تعمل بالديزل، حيث ترتفع فيها نسبة الكبريت إلى 0.7%، ما يزيد من انبعاثات ثاني أكسيد الكبريت والجسيمات الدقيقة.

وتتفاقم المشكلة مع انتشار المولدات الكهربائية العشوائية، التي تعمل لساعات طويلة وتطلق أكاسيد النيتروجين والكبريت، مسببةً أمراضاً تنفسية خطيرة. كذلك تسهم المصانع غير المرخصة، مثل معامل البطاريات في منطقة الأحد عشرية، في انبعاث معادن ثقيلة تتجاوز الحدود العالمية المسموح بها. كما أن الكسارات والمقالع ترفع مستويات الغبار، بينما يؤدي حرق القمامة العشوائي إلى إطلاق غازات سامة كالديوكسينات وجسيمات دقيقة شديدة الخطورة.

اجراءات بيئية لعلاج المشكلة

مع تفاقم تلوث الهواء في دمشق، برزت الحاجة إلى إجراءات عاجلة للحد من آثاره المتزايدة. وقد أوضح معاون وزير الإدارة المحلية لشؤون البيئة، يوسف شرف في هذا المجال أن الوزارة تتابع مؤشرات التلوث بشكل دوري، وتستجيب لشكاوى المواطنين بالاعتماد على المواصفة السورية لتركيز الملوثات.

كما تعمل الوزارة بالتعاون مع وزارة التعليم العالي على وضع خطة شاملة لدراسة الواقع البيئي، بهدف تقييم الوضع الراهن وتفعيل قانون البيئة. وترتكز هذه الخطة على أسس علمية لدعم إعادة الإعمار، وضمان إدماج مبادئ التنمية المستدامة في مشاريع البنية التحتية والاقتصاد. ومن بين الخطوات المطروحة تحسين منظومة النقل العام لتقليل الانبعاثات، الحد من الاعتماد على المولدات الكهربائية العشوائية، تشجيع استخدام الطاقة الشمسية، وتعزيز الدراسات البيئية الخاصة بالمعامل والمنشآت الصناعية.

تأثيره على الصحة

لا يقتصر التلوث على كونه قضية بيئية فقط، بل يمتد أثره المباشر إلى صحة الإنسان. إذ يرتبط تلوث الهواء وخصوصاً عوادم السيارات بزيادة معدلات الأمراض التنفسية، كما يؤدي إلى تفاقم الحالات المزمنة مثل الربو والحساسية الصدرية. وأكد شرف أن الجسيمات الدقيقة، عند استنشاقها، يمكن أن تسبب أمراضاً قلبية وعائية، واضطرابات في الجهاز التنفسي، وأنواع معينة من السرطان. كما أن المعادن الثقيلة، مثل الرصاص، تشكل خطورة إضافية على الصحة العامة.

وفي نفس السياق أشار الدكتور نبوغ العوا، أستاذ أمراض الأنف والأذن والحنجرة في جامعة دمشق، إلى أن تزايد نسب التلوث يؤدي إلى تفاقم أمراض القصبات والرئة، بل قد يصل في بعض الحالات إلى القصور التنفسي. ولهذا نصح مرضى الجهاز التنفسي بتجنب الأماكن المزدحمة، والابتعاد عن مصادر الغبار وعوادم السيارات والحرائق، مع الالتزام بارتداء الكمامات ودعم المناعة بتناول الفيتامينات مثل فيتامين C وD.

كما يساهم تلوث الهواء في سلسلة من الأعراض والمضاعفات، أبرزها:

  • زيادة خطر الإصابة بعدوى الجهاز التنفسي.
  • تفاقم نوبات الربو.
  • تحفيز الحساسية التنفسية.
  • تراجع وظائف الرئة تدريجياً.
  • صعوبات في التنفس تشمل ضيق الصدر، السعال المزمن، وعدم القدرة على التنفس بعمق.

أشعة الشمس تزيد من سميّة عوادم السيارات

أظهرت دراسة حديثة أجراها علماء ألمان أن انبعاثات السيارات العاملة بالبنزين، حتى تلك التي تتوافق مع المعايير الأوروبية الأكثر صرامة (EURO 6d)، قد تصبح أكثر خطورة بعد خروجها إلى الغلاف الجوي.

تناولت الدراسة التركيز على سيارة مزوّدة بمرشح جسيمات السناج (GPF) الذي يحدّ من انبعاث الجسيمات الصلبة بشكل كبير. ففي البداية لم تُظهر العوادم المنبعثة تأثيراً ساماً ملحوظاً على خلايا الرئة البشرية، لكن بعد تعرضها لما يُعرف بعملية “الشيخوخة الضوئية الكيميائية” وهي “تحول طبيعي يحدث بفعل أشعة الشمس والعوامل الجوية المؤكسدة” فقد ارتفعت السمية بشكل واضح.

وقد تبيّن أن هذه الانبعاثات المعرضة للشمس تُحدث أضراراً مباشرة بالحمض النووي، وتسبّب تأكسد في الخلايا السرطانية والخلايا السليمة على حد سواء. ولا تقتصر هذه السمية على الهباء الجوي الثانوي (العضوي وغير العضوي)، بل تشمل أيضاً مركبات عضوية متطايرة تحتوي على الأكسجين، مثل الكربونيلات، التي تتشكل نتيجة التفاعلات الكيميائية في الجو.

ثغرة في أنظمة الاختبار الحالية

تكشف هذه النتائج عن ثغرة مهمة في آليات اختبار الانبعاثات وأنظمة ضبطها، إذ إن معايير EURO 6d تضمن خفض الملوثات عند خروجها من العادم، لكنها لا تأخذ بعين الاعتبار التغيرات الكيميائية التي تحدث لاحقاً في الغلاف الجوي. وأكدت الباحثة ماتيلد دي لافال من مركز “هيلمهولتز” في ميونخ أن تجاهل هذه التحولات يعني أننا نغفل عن جزء أساسي من الصورة البيئية.

من جانبه شدد الكيميائي التحليلي هندريك سيه من جامعة “روستوك” على وجود فجوة واضحة بين الاختبارات المخبرية والانبعاثات في الواقع العملي. فإذا لم يُؤخذ بعين الاعتبار ما يحدث للعوادم بعد انبعاثها، فإننا نخاطر بالتقليل من التأثير الحقيقي لتلوث وسائل النقل على الصحة العامة.

غياب المخالفات المرورية

على الرغم من وجود بند في دليل المخالفات المرورية في سوريا حول عوادم السيارات والانبعاثات الخانقة، إلا أن ذلك لم يطبق طوال السنين الماضية، وحتى قبل عام 2011، إلا أن الغريب أنه وبرغم ازدياد الانبعاثات من عودام السيارات وصدور تعديل على المخالفات المرورية الشائعة هذا العام، إلا أنه لم يتم ذكر عوادم السيارات التي تكاد تخنق السكان وهم في بيوتهم.

لذلك أعتقد أن حلول هذه المشكلة تبدأ من العمل على معالجة أسباب انبعاث الدخان من عوادم السيارات وصولاً إلى فرض أشد المخالفات المرورية التي قد تشكل رادع لكل مستهتر بالبيئة.

اختراع قد يقضي على المشكلة

نجح باحثون من جامعة ولاية بنسلفانيا الأميركية في تطوير مولد كهربائي حراري مدمج قادر على تحويل الحرارة المهدرة من عوادم المركبات إلى طاقة كهربائية قابلة للاستعمال، ما يفتح الباب أمام تقنيات جديدة لتقليل الانبعاثات واستهلاك الوقود.

عادةً لا تتجاوز كفاءة محركات الاحتراق الداخلي 25%، أي أن معظم الطاقة تتحول إلى حرارة ضائعة. المولد الحراري الجديد يستغل هذه الحرارة باستخدام مواد شبه موصلة مثل تيلوريد البزموت، ويعتمد على تصميم مبتكر يوظف مبادلات حرارية شبيهة بتلك المستخدمة في المكيفات بدلاً من أنظمة التبريد المائي التقليدية.

أضاف الباحثون مكوّناً يسمى المشتت الحراري لزيادة فرق درجات الحرارة، وبالتالي رفع كمية الكهرباء المولدة. وفي النموذج الأولي، تمكن المولد من إنتاج 40 واط، أي ما يكفي لتشغيل مصباح كهربائي، ومع ظروف تدفق الهواء العالية مثل تلك الموجودة في أنابيب العادم، يمكن أن يصل الإنتاج إلى:

  • 56 واط في السيارات.
  • 146 واط في المروحيات، أي ما يعادل 12 بطارية ليثيوم أيون.

كما أن الميزة الأبرز للنظام يمكن دمجه في منافذ العادم دون الحاجة إلى بنية تحتية إضافية، ما يجعله قابلاً للتطبيق في المركبات الحالية. ويرى الباحثون أن هذا الابتكار قد يكون خطوة عملية نحو دمج المولدات الحرارية في السيارات والطائرات، بما يسهم في استعادة الكهرباء المهدورة ودعم أهداف الطاقة المستدامة.

باختصار معالجة مشكلة تلوث الهواء في دمشق تتطلب دمج الإجراءات الوقائية والتقنيات الحديثة مع التشريعات الصارمة، وإلا ستبقى هذه المشكلة في تزايد مستمر حتى يختنق السكان بهوائهم.

اقرأ أيضاً: سوريا تختنق: تلوث الهواء يهدد حياتنا!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى