الكاتب: أحمد علي
وسط شوارع دمشق القديمة، وبين أروقة حلب وأسواقها، تختبئ حكايا عقارات كانت يوماً وقفاً لوجه الله، وتحولت لسنوات إلى مصدر إثراء غير مشروعٍ لسلطةٍ تعاملت مع الدين كمظلة، ومع المجتمع كمزرعة. تلك العقارات التي تمثل شرياناً مالياً وروحياً للمجتمع السوري، كانت في عهد الأسد الأب والابن من أكبر ضحايا الفساد الممنهج، لتتحول اليوم إلى أحد أبرز ملفات الاسترداد.. ماذا تعرفون عن عقارات الوقف في سوريا وخفاياها؟! إليكم المزيد من التفاصيل عبر هذا المقال من «سوريا اليوم 24»..
عقارات الوقف: أرقام مذهلة وإدارة فاسدة
تشير التقارير والمصادر المختلفة إلى أن وزارة الأوقاف السورية تمتلك نحو 33,000 عقار، تتوزع بين دمشق، حلب، إدلب، ومناطق أخرى، ما يجعلها من أغنى الوزارات عقارياً. إلا أن هذه الثروة الهائلة لم تنعكس على واردات الوزارة، التي كانت تُعد من الأفقر، بسبب منظومة الفساد التي كانت سائدة أيام السلطة السابقة.
فعلى سبيل المثال، كان مجمع «يلبغا» في دمشق يُؤجّر بمبلغٍ زهيدٍ لا يتجاوز 70,000 دولارٍ سنوياً، بينما بعد استعادته مع الحكومة الحالية، بات يحقق عائداً سنوياً يقارب 950,000 دولار. وفي إدلب، ارتفعت إيرادات الأوقاف إلى نحو 2.7 مليون دولار سنوياً بعد مراجعة عقود الإيجار وتعديلها وفق القيمة السوقية.
الفساد في إدارة الأوقاف
وفي هذا السياق، كشفت تقارير إعلامية وتصريحات رسمية عن تورط شخصياتٍ بارزةٍ في النظام السابق، من بينهم بشار الأسد وزوجته أسماء الأسد ورامي مخلوف، في استغلال عقارات الوقف لأغراض شخصية وتجارية. فقد تم تحويل أراض وقفية، مثل تلك الممتدة من دار الأوبرا إلى جسر الحرية في دمشق، إلى مشاريعَ خاصة دون مراعاة لأحكام الوقف.
كما تم تأجير مدينة ألعابٍ في دمشق بمبلغٍ لا يتجاوز 60,000 دولار كل ستة أشهرٍ لصالح شركةٍ تابعةٍ لأسماء الأسد، بينما بعد استعادتها وسقوط السلطة السابقة، فقد تم تأجيرها بمبلغٍ 360,000 دولار لنفس الفترة.
جهودٌ لاستعادة الحقوق
بعد سقوط النظام السابق، بدأت وزارة الأوقاف في جهود حثيثة لاستعادة العقارات الوقفية المنهوبة. وأكد سامر بيرقدار، معاون وزير الأوقاف لشؤون الوقف، أنه تم تفكيك منظومة الفساد التي كانت قائمة، والعمل على إعادة الوقف إلى أصوله الصحيحة.
ووفق بيرقدار، تمت استعادة العديد من العقارات، مثل مجمع «يلبغا» ومدينة الألعاب في دمشق، ووقف القطط شمال الجامع الأموي، الذي كان مؤجراً للتجار منذ عهد النظام السابق. كما تم إنشاء صندوق خاص بالأوقاف مستقلٍ عن خزينة الدولة، بهدف إدارة الاستثمارات الوقفية بشكلٍ شفاف ومستدام.
اكتشافات متأخرة وسط أرشيف متهالك
ورغم ضخامة الثروة الوقفية المسجلة، إلا أن وزارة الأوقاف تشير إلى أن ما تم توثيقه لا يمثّل سوى قمة جبل الجليد. فغياب الأتمتة وعدم وجود أرشيف رقمي موحّد جعلا الكثير من العقارات الوقفية مفقودة أو مجهولة الملكية لعقود. بل إن بعض العقارات اكتُشفت مصادفةً، كما حصل في حالة أرض قرب أحد المساجد، حيث أدّى خطأ في كتابة رقم العقار إلى اكتشاف ملكية وقفية لمساحةٍ تُقدّر بثلاثة دنمات لم تكن مسجلة من قبل.
وفي ظل هذا التحدي، بدأت الوزارة بمراسلة مديرية الشؤون الدينية التركية للحصول على نسخة رقمية من الأرشيف العثماني الذي يُوثّق غالبية الأوقاف في سوريا، وهو ما قد يُحدث نقلة نوعية في عملية استرداد الحقوق وفضح التلاعب القديم.
الناس تعود إلى الوقف طوعاً
ومن اللافت أن الكثير من المواطنين بدأوا بمراجعة وزارة الأوقاف طواعية لتصحيح أوضاعهم، بعدما أدركوا أن ما يشغلونه هو مال وقفي مخصص للفقراء والمجتمع. ووفقاً لما صرّح به سامر بيرقدار، معاون وزير الأوقاف، فإن أكثر من 1246 شخصاً قاموا بتعديل عقودهم طوعاً بعد التحرير، بل إن بعضهم عرض الخروج دون شروط، قائلاً بالحرف: «ما بدي أقعد بالحرام».
في أحد الحالات، دخل مواطن إلى الوزارة وأبلغهم أن مطعماً معروفاً كان في الأصل مسجداً صلّى فيه سابقاً، وأن ضميره لا يسمح له بالبقاء صامتاً، فطالب بإعادة العقار لوظيفته الأصلية كدار عبادة.
استرداد بالمحاكم وأحياناً بالتراضي
ومع أن الوزارة تعتمد غالباً أسلوب الإنذار الرسمي والإجراءات القانونية لاسترداد العقارات، إلا أنها لا تُغلق باب التفاوض الإنساني، لا سيما مع من يسكن العقار الوقفي لظروف معيشية صعبة. وقد تم التوصل إلى اتفاقات مع بعض العائلات لتأمين بدائل سكنية أو تقديم مساعدات مالية مقابل الإخلاء، بشرط تحرير العقار واستثماره وفق الشروط الوقفية.
لكن في المقابل، هناك حالات تم فيها استغلال النفوذ لمنع الإخلاء لسنوات، كما في حالة شقة بحي الشاغور كانت تُستخدم كسكن خاص منذ عام 1968، ولم يتم استردادها إلا بعد وفاة ضابط المخابرات الذي كان يحمي المستأجر قانونياً. وقد صرّح بيرقدار أن هذه المعركة القضائية استمرت لسنوات قبل أن تُنفذ أخيراً، معتبراً أنها تمثل «انتصاراً لمال الله».
مواطنون يستعيدون الثقة
في معرض حديثه، أشار بيرقدار إلى تحوّل لافت في وعي الناس إزاء الوقف، مؤكداً أن السوريين بطبعهم يحبّون الخير ويتعلقون بفكرة «الصدقة الجارية». وقال: «منذ عام 1965 حتى عام 2024 لم يُسجَّل أي وقف جديد، لكن بعد التحرير بدأ الناس يتوافدون إلينا ويقدّمون عقاراتهم ومزارعهم كوقف خالص لله».
وقد تبرّع أحد المواطنين بـ 35 دونماً من الأراضي الزراعية على الطريق الدولي بين طرطوس وبانياس، بينما تبرّع آخر بأرض فيها 6000 متر مربع من الفستق الحلبي المثمر. ويقول بيرقدار إن هذا يعود إلى ما وصفه بـ«عودة الثقة بالدولة ومؤسساتها الشرعية».
فيما رأى أحد المواطنين، حسبما نقل برنامج «على الطاولة» الذي بثت قناة الإخبارية السورية حلقة مخصصة منه لهذا الملف، أن وزارة الأوقاف باتت تمثل أملاً جديداً في العدالة، مشيراً إلى أن «الوقف كان مختطَفاً من النظام، أما الآن فهو عائد لأصحابه الحقيقيين».
بين النظام القديم والنظام الجديد
لا يُخفي المعنيون أن السلطة السابقة، في عهد بشار الأسد، كانت تسعى لتجفيف موارد الوقف أو تحويلها إلى مشاريع خاصة تصب في جيوب العائلة الحاكمة. يذكر بيرقدار مثالاً صريحاً على ذلك: «مدينة المعارض القديمة في قلب دمشق كانت وقفاً للحيوانات السائبة منذ 700 سنة، لكنها صودرت بمرسوم جمهوري وذهبت مباشرة إلى شركات أسماء الأسد».
بالمقابل، يؤكد معاون الوزير أن التوجه الحالي مختلف تماماً، مشيراً إلى إنشاء صندوق مستقل للوقف، لا تدخل أمواله في خزينة الدولة، ويتم تخصيص موارده لدعم التعليم الشرعي، والجمعيات الخيرية، والمراكز الصحية الوقفية.
اقرأ أيضاً: وزارة الأوقاف تطلق حملة لتجهيز المساجد قبل حلول الشهر الفضيل
التحديات المستقبلية
رغم الجهود المبذولة، لا تزال هناك تحديات كبيرة تواجه ملف الأوقاف في سوريا. فالقانون رقم 31 لعام 2018، الذي نظم عمل وزارة الأوقاف، منح صلاحياتٍ واسعةٍ للوزارة في إدارة واستثمار العقارات الوقفية، مما فتح الباب أمام التلاعب والتحايل على أحكام الوقف.
كما أن هناك حاجة ماسة لإصلاحات تشريعية تضمن حماية الأوقاف من الاستغلال، وتفعيل دور الرقابة والمحاسبة، وتعزيز الشفافية في إدارة الاستثمارات الوقفية.
ختاماً، يشار إلى أن الأوقاف في سوريا تمثل إرثاً حضارياً ودينياً واجتماعياً يجب الحفاظ عليه وتطويره. ويتطلب ذلك جهوداً مشتركة من الحكومة والمجتمع المدني والمؤسسات الدينية، لضمان إدارة فعّالة وشفافة للأوقاف، وتحقيق أهدافها في خدمة المجتمع. لأن استعادة الأوقاف المنهوبة وإصلاح منظومة إدارتها ليس فقط استحقاقاً قانونياً وأخلاقياً، بل هو أيضاً خطوة ضرورية نحو بناء سوريا جديدة قائمة على العدالة والشفافية والتنمية المستدامة.