إعداد: لمى ابراهيم
يعدّ الإسمنت مادة أساسية في مرحلة إعادة الإعمار في البلاد المدمرة بفعل الحروب أو غيرها من الكوارث التي تدمّر البنى التحتية، فهذه المادة التي قد تبدو بسيطة في مظهرها، تشكّل الأساس المتين الذي تُبنى عليه المدن، وتُشيَّد به منازل الناس ومدارسهم ومستشفياتهم.
وفي سوريا، التي عانت على مدى 14 عاماً من دمار واسع في المنشآت والمساكن، تحتاج اليوم إلى كميات هائلة من الإسمنت لتتمكن من النهوض من تحت الركام، لذا، فإن تأهيل المصانع وتطويرها هو شرط أساسي للدخول في مرحلة إعادة الإعمار وتجاوز آثار الحرب.
وانطلاقاً من هذا الأمر، وفي إطار تنامي الاهتمام التركي بالقطاع الصناعي السوري، تتجه أنقرة ودمشق نحو تعزيز الشراكة الاقتصادية، وقطاع صناعة الإسمنت من المجالات المهمة التي يتم التعاون فيها، بما يحقق مصالح متبادلة لكلا الطرفين.
في هذا السياق، أجرى وفد تركي يضم ممثلين عن شركات متخصصة في صناعة الإسمنت زيارة ميدانية لعدد من المنشآت الصناعية داخل سوريا، الأحد الماضي، بهدف استكشاف فرص التعاون الاستثماري والاطلاع على واقع القطاع عن قرب.
ضم الوفد خبراء في الجوانب التقنية والتجارية الذين عاينوا الإمكانات الحالية والتقنيات المعتمدة في المصانع السورية، كما ناقشوا التحديات التي تواجه الإنتاج المحلي، وقدموا مجموعة من المبادرات الاستثمارية لتحديث البنية التحتية الصناعية، ومقترحات لتفعيل التعاون الإنتاجي المشترك بين الشركات السورية والتركية.
هذه التحركات تأتي بعد أشهر من سقوط نظام بشار الأسد، إذ تسعى شركات الإسمنت التركية إلى توسيع نشاطها داخل سوريا، مدفوعة بتوقعات إيجابية بشأن انتعاش قطاع الإعمار وارتفاع الطلب على مواد البناء الأساسية في السنوات المقبلة.
في هذا الصدد، أفاد عبد الحميد أكجاي، نائب رئيس مجلس إدارة اتحاد مصنعي الإسمنت في تركيا، بأن سوريا رغم سنوات الحرب، بقيت سوقاً مهماً للشركات التركية، وأن التطورات السياسية الأخيرة فتحت آفاقاً أوسع للتعاون الاقتصادي في هذا المجال.
وقدّر أكجاي أن سوريا ستحتاج إلى ما يقارب 60 مليون طن من الإسمنت خلال السنوات العشر المقبلة، مؤكداً أن تركيا ستلعب دوراً محورياً في تأمين جزء كبير من هذا الطلب.
اقرأ أيضاً: الموانئ الجافة: نقطة انطلاق قوية لتعزيز الاقتصاد السوري
خطوات لإنعاش صناعة الإسمنت في سوريا
وفي خطوات متسارعة تهدف إلى إنعاش قطاع صناعة الإسمنت، تتخذ الحكومة السورية الجديدة قرارات اقتصادية مهمة، من بينها إلغاء ضرائب كانت مفروضة على مادة الإسمنت، وذلك ضمن خطة أوسع لتعزيز القدرة التنافسية عبر إعادة تشغيل مصانع متوقفة وتحديث خطوط إنتاج قديمة، بما يسهم في تأمين الكميات اللازمة لمرحلة إعادة الإعمار.
هذا القرار الصادر عن وزارة الاقتصاد والصناعة، شمل إعفاء الإسمنت المنتج في كل من القطاعين العام والخاص من الضرائب، فقد كانت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في الحكومة السابقة قد فرضت رسماً إضافياً بقيمة 1,500 ليرة سورية على كل طن من الإسمنت المنتج في “المؤسسة العامة للإسمنت ومواد البناء”، ما شكّل عبئاً على الإنتاج قبل إلغائه.
أما بالنسبة إلى الكميات التي تحتاجها سوريا من الإسمنت، فقد أوضح مدير المؤسسة العامة للإسمنت ومواد البناء، محمود فضيلة -في تصريح إعلامي- أن سوريا ستحتاج ما بين 8 إلى 9 ملايين طن من الإسمنت سنوياً خلال مرحلة إعادة الإعمار، مع توقعات بزيادة تدريجية في الطلب تبدأ من 8 ملايين طن عام 2025 وتصل إلى نحو 15 مليون طن بحلول عام 2035.
من جهته، أشار الخبير الاقتصادي عمار يوسف إلى صعوبة تحديد الكميات التي ستحتاجها سوريا من الإسمنت في المرحلة المقبلة، بسبب غياب بيانات دقيقة حول حجم الدمار الفعلي في البنية التحتية والمنشآت، رغم أن الأمم المتحدة قدّرت تكلفة إعادة الإعمار بحوالي 400 مليار دولار، لكن الرقم قد يرتفع إلى 700 مليار دولار في حال السعي لإعادة بناء كل المساكن المدمرة بالكامل، ما يعني أن الحاجة السنوية من الإسمنت قد تتراوح بين 6 و9 ملايين طن.
ومن وجهة نظره، يرى الخبير أن الاعتماد على الاستيراد لا يجب أن يكون حلاً طويل الأمد، فسوريا تمتلك موارد طبيعية مناسبة لصناعة الإسمنت، إضافة إلى الجودة التي يتمتع بها المنتج السوري، مفيداً بأن بناء معامل جديدة وتطوير القائم منها قد يستغرق حوالي ثلاث سنوات، لكنه سيكون كفيلاً بتأمين الاكتفاء الذاتي من مواد البناء، وربما يغني البلاد عن الاستيراد لسنوات عدة قادمة.
اقرأ أيضاً: المناطق الحرة حاضنات الاستثمار.. التوزيع وحجم الإيرادات
تحديات تواجه صناعة الإسمنت
يواجه قطاع صناعة الإسمنت في سوريا جملة تحديات تعرقل توسعه منها صعوبة تأمين مادة الفيول -التي تشكّل نحو 65% من تكلفة الإنتاج- إلى جانب ندرة قطع الغيار والمواد اللازمة لإعادة تأهيل المعامل المتوقفة، وارتفاع أسعار الكهرباء، و تساهم هذه العوامل في رفع سعر طن الإسمنت ليصل حالياً إلى ما بين 100 و123 دولاراً، حسب النوع والمنطقة.
ويبلغ حجم الإنتاج اليومي للإسمنت في سوريا حالياً نحو 10 آلاف طن، وهذا الرقم ليس كافياً لتلبية الاحتياجات الداخلية، ما يدفع الدولة إلى استيراد كميات مماثلة لسد الفجوة بين العرض والطلب وتعد دول مثل تركيا، السعودية، الأردن، ومصر، من أبرز الدول المصدرة إلى السوق السورية.
وتسعى الحكومة كذلك -إلى جانب الاستيراد- إلى توسيع الطاقة الإنتاجية عبر تجهيز معامل جديدة، وقد وصلت نسبة الإنجاز في بعضها إلى نحو 85%.
اقرأ أيضاً: قرار منع استيراد الخضار يعيد الأمل للمزارعين.. ولكن ماذا بعد؟
مصانع الإسمنت في سوريا
تضم سوريا حالياً أربعة مصانع حكومية لإنتاج الإسمنت، ومصنعاً واحداً يعود للقطاع الخاص، وتخضع هذه المنشآت لخطط صيانة وإعادة تأهيل، ومن بين المصانع التي قد تعود للعمل قريباً، مصنع “العربية” للإسمنت في حلب، إضافة إلى مصنعين آخرين في كل من حماة وعدرا.
لكن في المقابل، لا تزال بعض المصانع متوقفة بالكامل مثل مصنع “إسمنت البادية”، الذي أوقف إنتاجه منذ عام 2023 بسبب تعطل توريد الفحم -المصدر الأساسي لتشغيله- وكان المصنع يمتلك طاقة إنتاجية كبيرة تقدَّر بنحو 1.6 مليون طن سنوياً، ويعدّ من أبرز الاستثمارات الخاصة في القطاع، فملكيته تعود إلى مجموعة سعودية.
وتتوزع معامل الإسمنت الحكومية في سوريا على عدة مناطق، ففي المنطقة الجنوبية، يوجد معمل “عدرا” الذي يشغّل خط إنتاج واحد من أصل ثلاثة، بطاقة يومية تتراوح بين 600 و700 طن، ورغم ذلك، حقق المعمل أداءً جيداً في النصف الأول من عام 2024، إذ بلغت مبيعاته أكثر من 173,892 طناً بقيمة قاربت 275 مليار ليرة سورية، محققاً زيادة بنسبة 149% في الكمية مقارنة بالفترة ذاتها من العام الذي سبقه… أما معمل “دمّر”، فقد خرج من الخدمة تماماً نتيجة الدمار.
أما في المنطقة الوسطى، فيعود النشاط إلى معمل “حماة”، الذي استأنف العمل في شباط الماضي، وقد بدأ بتسويق إنتاجه بالدولار الأمريكي، وتبلغ طاقته الحالية حوالي 3300 طن يومياً، وينتج أنواعاً متعددة من الإسمنت، من بينها الإسمنت البورتلاندي، والإسمنت الآباري، والمقاوم للكبريتات… بينما لا يزال معمل “حمص” خارج الخدمة بعد أن تضرر بشكل كبير خلال الحرب.
رغم ذلك، فإن الطاقة التشغيلية لمعامل الإسمنت في عدرا وحماة لا تتجاوز 60% من قدرتها التصميمية بسبب تراكم الأضرار الفنية والإدارية التي خلفتها سنوات من الفساد وسوء الإدارة في عهد النظام السابق.
في الساحل، معمل طرطوس للإسمنت متوقف عن الإنتاج نتيجة تهالك بنيته التحتية وقِدم معداته، ورغم أنه يضم أربعة خطوط إنتاج، إلا أن الأعطال المتكررة وارتفاع تكلفة الصيانة حالا دون استمراره في العمل، وكان المعمل قد سجل إنتاجاً يومياً بحدود 2500 طن في عام 2020، قبل أن يتوقف في السنوات اللاحقة.
المعامل في الشمال هي المتضرر الأكبر، فمعمل “المسلمية” في حلب ومعمل “الشهباء” تعرضا لدمار واسع وخرجا عن الخدمة، معمل “الإسكان” أيضاً متوقف منذ سنوات، أما معمل “العربية” في حلب -وهو منشأة مشتركة بين القطاعين العام والخاص- لا يزال يعمل بقدرة إنتاجية تتراوح بين 600 و800 طن يومياً.
في ظل هذا الواقع الصعب والذي يتم بذل الجهود بقوة من أجل تحسينه، يخطر لنا تساؤل مهم… كم تبلغ تكلفة مواد البناء الأساسية “الحديد والإسمنت” لبناء منزل في سوريا اليوم؟ وخاصة مع تزايد الحديث بان تكلفة تشييد منزل -حتى على مستوى المواد الأساسية فقط- بات يشكّل عبئاً ثقيلاً على كاهل المواطنين.
وفقاً للأسعار الأخيرة، يبلغ سعر طن الحديد حوالي 670 دولاراً، بينما يصل سعر طن الإسمنت في أقصى حد إلى نحو 123 دولاراً، وبحسب هذه المعطيات، تقدر تكلفة شراء مواد الحديد والإسمنت لبناء منزل بمساحة 100 متر مربع بنحو 3000 دولار أمريكي، دون أن نفكر في سعر قطعة الأرض إن لم تكن موجودة، وأسعار باقي المواد وأجور اليد العاملة.
بسبب هذا الغلاء، ورغم وجود آلاف من المنازل المدمرة، لا يزال الإقبال ضعيفاً على البناء، إذ يعيش أكثر من 90% من السوريين تحت خط الفقر، ويواجه ما لا يقل عن 13 مليون شخص -أي ما يفوق نصف السكان- صعوبة في الحصول على الغذاء أو تحمّل تكاليفه، بحسب تقارير “هيومن رايتس ووتش”.
لذا تبدو إعادة الإعمار طريقاً صعباً لكثير من العائلات، من الذين يقفون بانتظار أن تتحسن الظروف الاقتصادية التي قد تخفف الأعباء عن كاهلهم.
اقرأ أيضاً: الفوسفات في سوريا: بين لعنة السياسة وآمال إنعاش الاقتصاد!