في زمن ما بعد الحرب، لا تعود الجسور مجرد هياكل خرسانية تعبر الأنهار أو الأودية، بل تتحول إلى رموز حياة وسبل عبور نحو المستقبل. وفي سوريا التي تحاول لملمة جراحها، تبدو إعادة بناء الجسور المدمرة كأنها محاولة لإعادة وصل ما انقطع من شرايين الوطن. من هنا، جاء التعاون السوري الفرنسي في مجال البنية التحتية ليحمل في طياته بعداً استراتيجياً، حيث اجتمعت الإرادة الهندسية والخبرة التقنية من الجانبين لتشييد ما تهدّم بفعل حرب طاحنة.. فماذا جاء في الاتفاق حول الجسور في سوريا؟
الجسور في سوريا: اجتماع يعيد التفاهم إلى مساره التنفيذي
عقدت المؤسسة العامة للمواصلات الطرقية في سوريا اجتماعاً موسعاً في العاصمة دمشق، ضم وفداً من شركة «ماتيير» الفرنسية، وذلك في إطار تفعيل مذكرة التفاهم التي أبرمت بين الطرفين خلال عام 2023. والهدف الأساسي من اللقاء كان تحويل الاتفاقيات النظرية إلى خطة عمل عملية تضع أسس إعادة تأهيل الجسور المتضررة، خاصة في المناطق التي تحررت حديثاً من براثن الحرب.
ضمن مخرجات الاجتماع، وافق الجانبان على إدراج خمسة جسور جديدة إلى المشروع المشترك، لترتفع الحصيلة من 32 إلى 37 جسراً، موزعة في مواقع استراتيجية على امتداد الجغرافيا السورية. وتم الاتفاق على وضع ترتيب أولوي لهذه الجسور وفقاً لحاجات المنطقة، ودرجة الضرر، ومدى تأثيرها على حركة النقل والتنمية الاقتصادية.
وتقرر خلال اللقاء إعداد كشوف تقديرية دقيقة للأعمال الإنشائية والتأهيلية المطلوبة، وذلك كخطوة أولى تسبق البدء بالتمويل والتنفيذ. كما تم التأكيد على أهمية ضمان جودة العمل وسرعة إنجازه، في ظل الموارد المتاحة والإمكانيات المالية المتواضعة، ما يستدعي تنسيقاً فنياً دقيقاً بين الجهات المعنية.
كلمة المؤسسة والشركة…
شدد المهندس خضر فطوم، القائم بأعمال المؤسسة العامة للمواصلات الطرقية، على أهمية الانفتاح على جميع الشركاء الراغبين في المساهمة بإعادة بناء سوريا، لاسيما في قطاع النقل الذي يشكل ركيزة اقتصادية واجتماعية لا غنى عنها. وأشار إلى أن الشراكة مع الجانب الفرنسي تأتي في إطار بناء منظومة نقل متطورة، آمنة، ومستدامة، تدعم مسيرة إعادة الإعمار وتعزز من الترابط الجغرافي بين المحافظات السورية.
بدوره عبّر فيليب ماتيير، مدير شركة «ماتيير»، عن استعداد شركته الكامل للبدء بأعمال صيانة الجسور ذات الأهمية الاستراتيجية، مؤكداً أن التعاون مع المؤسسة السورية لا يُعد مجرد اتفاق هندسي، بل شراكة تهدف إلى خلق واقع جديد أكثر أماناً واستقراراً للسوريين. وأضاف أن مذكّرة التفاهم تشكّل فرصة نادرة لترجمة النوايا الحسنة إلى إنجازات ملموسة على الأرض.
هذا وشهد الاجتماع حضور عدد من المسؤولين من الجانبين، في مقدمتهم مدير النقل البري في وزارة النقل السورية المهندس علي أسبر، ما يدل على جدية الحكومة السورية في دعم هذه المشاريع من أعلى المستويات. وترافق الاجتماع مع ورش عمل فنية مصغّرة بحثت في التفاصيل الهندسية الأولية، وسبل تجاوز العقبات الفنية.
الإعمار ما بعد الحرب
ويأتي هذا التعاون السوري الفرنسي ضمن سياق أشمل، يتمثل في جهود سوريا لإعادة إعمار البنية التحتية التي نُهكت خلال سنوات الحرب، خاصة في المناطق المحررة التي شهدت دماراً واسعاً في جسورها وطرقاتها الحيوية. ويُعد النقل البري عصب الحياة الاقتصادية، وركيزة أساسية لتنشيط التجارة، وعودة الحياة إلى طبيعتها.
يشار إلى أنه في حقبة الانتداب الفرنسي سواء تحت سلطة شركة «فوجيرول» الفرنسية أو غيرها، تأسّس عدة جسور في سوريا، كان أبرزها الجسر المعلق في دير الزور، أنشئ عام 1927 على يد الشركة الفرنسية Fougerolle، وكان يربط ضفتي الفرات حتى تدميره في عام 2013.
وخلال العقود التالية، تولّت المؤسسة العامة للمواصلات الطرقية وشركات إنشائية حكومية بناء وتشييد العديد من الجسور الحديثة، خاصة على الأنهار الكبرى والوديان داخل المدن والمحافظات السورية. وعلى الرغم من غياب بيانات دقيقة عن عددها قبل النزاع، فقد كانت البنية التحتية السورية قوية ومتينة.
لكن مع اندلاع الحرب السورية، تعرضت الجسور لهجمات متكررة، ففي محافظة دير الزور وحدها، كان هناك 26 جسراً، منها 14 على نهر الفرات و12 على السيول. تم تدميرها بالكامل أو إلى درجة كبيرة، ولجأ السكان لاستخدام العبارات النهرية البدائية. وفي محافظة الرقة، التي تحوي أكثر من 134 جسراً ومعبراً، تضرر منها 66 جسراً بشكل جزئي أو كامل نتيجة القصف والتحالف الدولي بغرض محاربة تنظيم «داعش».
اقرأ أيضاً: الخط الحجازي الحديدي: صيانة بمئات الملايين وقطار لا يرى السكة