سياسة

سياسة أميركا في سوريا: ثلاثة وجوه تتبدّل ووجهٌ رابع يطلّ من الجنوب!

الكاتب: أحمد علي

لا تحتاج دمشق، ولا الحسكة، ولا مثلث التنف إلى المزيد من الخطابات كي تفهم تقلبات الريح الأميركية؛ ما تحتاجه هو قراءة هادئة لتفاصيل صغيرة، سنراها متجاورة في حزمة تشريعية واحدة وقرار تمويلي محسوب، وفي خريطة انتشار عسكري تتكيّف مع موازين القوى. من هنا يبدأ هذا المقال، محاولاً تفكيك ثلاثة وجوه رئيسية لسياسة واشنطن في سوريا كما تَظهَر اليوم، مع وجهٍ رابعٍ ينكشف في الجنوب حيث للتوقيت أهميته، وللعلاقات مع الجوار حسابات لا تقل تعقيداً عن حسابات الحرب على الإرهاب.

سياسة أميركا في سوريا.. ملامح تحوّل؟!

تبدّت ملامح التحوّل من خلال مسار تشريعي هو الأكثر لفتاً للانتباه: تبنّي مجلس الشيوخ الأميركي نسخة من موازنة الدفاع السنوية تتضمن بنداً يلغي «قانون قيصر» ولكن ضمن إطارٍ مشروط وقابل للقياس عبر شهادات وتصديقات تنفيذية لاحقة. عملياً، لا يعني ذلك أن العقوبات سقطت فوراً، بل إنّ المجلس رسم طريقاً قانونياً لتعليقها أو رفعها وفق تحقق شروط محددة، على أن تتابع الإدارة تنفيذ ذلك وتبلغ الكونغرس وفق صيغٍ منصوص عليها.

هذه الإشارة تؤكد أنّ سياسة أميركا في سوريا تدخل طور «إدارة المخاطر» بدل العفو أو الإلغاء الكامل السريع أو «سياسة العقاب المفتوح»، مع إدراكٍ لتحولات الميدان والسياسة والإنهاك الإقليمي والإنساني الذي راكمته سنوات العقوبات. ويظلّ هذا المسار مرهوناً باستكمال دورة التشريع في مجلس النواب ثم توقيع الرئيس، ما يضع الملف في خانة التحوّل المرجّح لا الحسم النهائي.

في الوقت ذاته، لن يكون رفع القيود هدفاً بذاته بقدر ما هو أداة لإعادة هندسة النفوذ الأميركي في بلدٍ تتنافس فيه خرائط متعددة. هنا تتقدم «الكلمة المفتاحية» لهذا التقرير، أي «سياسة أميركا في سوريا»، لتعبّر عن محاولة المزاوجة بين حسابات الأمن القومي الأميركي، وضبط السلوكيات المحلية والإقليمية.

عمليّاً، إنّ إعادة تعريف أدوات الضغط والعقاب، دون التخلي عن القدرة على إعادة فرضها، يمنح واشنطن مرونة في التفاوض والربط بين المسارات، من مكافحة المخدرات العابرة للحدود إلى ضبط شبكات التهريب وحوكمة المساعدات.

وجه العقوبات: من «قيصر» إلى مشروطية الإعفاء

الوجه الأول هو وجه العقوبات. لسنوات شكّل «قانون قيصر» أداة الضبط الأشد قسوة في الترسانة الأميركية تجاه دمشق وشركائها. أن تنتقل واشنطن الآن إلى صيغة «الإلغاء المشروط» عبر نصٍ ضُمّن في موازنة الدفاع، فهذا يشير إلى قراءة محدثة للتكلفة والفائدة. فالعقوبات الواسعة النطاق، وإن ضغطت على شبكات تمويل السلطة السورية وحلفائها، فقد انعكست أيضاً على دورة الاقتصاد المحلي والقدرة الشرائية والخدمات الأساسية، ما جعل إعادة التقييم ضرورة سياسية وأخلاقية في آن. غير أنّ المشروطية ليست تساهلاً مجانياً؛ إذ تربط رفع القيود بسلوكيات ملموسة وتقرنها بآليات مراقبة وتدقيق وتقرير دوري إلى الكونغرس.

بهذا، تتخلى واشنطن عن «لغة الرمز» لصالح «لغة القياس»، وتحوّل العقوبات من عقوبة مطلقة إلى أداة قابلة للضبط الموقّت وفق الاستجابة. ويبقى العامل الحاسم: إقرار مجلس النواب للنص المتوافق عليه ثم دخول القانون حيّز النفاذ.

وجه الشراكة مع «قسد»: تمويلٌ أدقّ لتعريف مهمة أضيق

الوجه الثاني يتجسد في استمرار الشراكة مع «قوات سوريا الديمقراطية» ضمن إطار «صندوق تدريب وتجهيز مكافحة داعش» (CTEF). فالمبلغ المرصود في مشروع موازنة الدفاع للسنة المالية 2026 يصل إلى 130 مليون دولار مخصّصة للساحة السورية، بانخفاضٍ تدريجي عن الأعوام السابقة، لكنه يحافظ على جوهر المهمة المعلنة: منع عودة تنظيم «داعش»، وتمويل الاحتياجات العملياتية واللوجستية، وتحسين أمن مُعتقلي التنظيم ومراكز احتجازهم، بما يُقفل ثغرات استغلتها الشبكات المتطرفة في الماضي.

التخفيض هنا ليس مؤشراً على انسحاب بقدر ما هو تعبير عن إعادة تعريف المهمة لتكون «أضيق وأكثر تركيزاً»، ومرتبطة بمؤشرات أداء قابلة للمتابعة. هذا التمويل يستهدف شركاء «مُدققين» وفق معايير حقوقية وأمنية، ما يمنح واشنطن سبيلاً لحماية شراكتها من الاختراقات والاتهامات. ومع أن سياسة أميركا في سوريا تُبقي هذا الوجه ضرورياً، فإنها تعيه كأداة لحماية المكاسب الأمنية لا كرافعة هندسية لمستقبلٍ سياسي.

وتكشف المفاضلة بين أرقام الأعوام الثلاثة الأخيرة – حيث انخفضت مخصصات سوريا تدريجياً – أن واشنطن تراهن على تثبيت «حد أدنى لازم» لاستدامة الردع ضد «داعش» وحماية مناطق خالية من الفراغ الأمني، بدل الانخراط في عمليات واسعة أو هندسة اجتماعية معقّدة. بعبارة أخرى، تشذّب الولايات المتحدة حضورها العسكري والمالي دون التفريط بقدرتها على التصدي السريع للخطر.

وهذا الاتساق بين الضبط المالي وتحديد المهمة يمنح – كما يبدو – الشراكة مع «قسد» حصانة تقنية، حتى إن تقلّصت «الهالة السياسية» حولها.

«الجيش السوري الحر» في التنف: وظيفة صغيرة بتأثير متراكم

الوجه الثالث يتموضع في أقصى الجنوب الشرقي: قاعدة التنف. هناك تتكثف إشارات إلى دعمٍ مستمرٍّ لـ«الجيش السوري الحر» بالشراكة مع قوات أميركية تحافظ على موطئ قدم منخفض التكلفة وعالي الجدوى. ليست التنف مجرد نقطة على الخارطة؛ إنها جسر مراقبة على تقاطع طرقٍ حسّاسة بين سوريا والعراق والأردن، ومِصفاة أمنية ضد تهريب السلاح والمخدرات وتحرّكات الخلايا المتطرفة.

الدعم هنا لا يُقاس بالعدد بقدر ما يُقاس بوظيفة «الشدّ والربط» التي يمارسها فصيلٌ محلي مدرّب، قادر على ملء الفراغ وامتلاك شرعية اجتماعية في محيطه الصحراوي. وتوثّق تقارير عسكرية ومراكز بحث أميركية استمرار برامج التدريب والتنسيق العملياتي، بما يضع التنف في خانة أدوات النفوذ الذكية، لا الكتلة الصلبة التي تستنزف الموارد.

هذه الوظيفة تتكامل مع سياسة أميركا في سوريا في شقّها الوقائي: كلما انخفضت التكلفة وارتفعت القدرة على التعطيل السريع لمسارات التهديد، ازدادت جدوى البقاء المحدود. ومع أنّ بعض الأصوات تشكك في أثر نقطة صغيرة على لوحة إقليمية واسعة، إلا أنّ التجربة أثبتت أن «العيون الصغيرة» على الممرات الحساسة تمنع كلفة أخطاء كبيرة.

الوجه الرابع في الجنوب

ليس الجنوب مجرد مسرحٍ لعمليات مكافحة الإرهاب؛ بل إنه حزام اجتماعي واقتصادي حساس يجاور الأردن، ويتأثر مباشرة بتدفقات التجارة والتهريب والعمّال الموسميين وحركة العشائر على طرفي الحدود. هنا يطلّ «الوجه الرابع» لسياسة واشنطن: مزيج من تنسيق أمني عابر للحدود، وانخراط دبلوماسي مع عمّان وشركاء أوروبيين، ومقاربة إنسانية تسعى إلى خفض التوترات وضبط اقتصاد الظل.

ويتسق مع ذلك، اتفاق «خرطة الطريق» في السويداء، بكفالة وضمانة ثلاثية من قبل أمريكا والأردن والسلطة في دمشق.

هذا وتمثّل التنف نقطة ربطٍ عملية لهذا الوجه الرابع. فالتنسيق مع «الجيش السوري الحر» هناك، ومع الشركاء الأردنيين، يتيح مقاربة متعددة الأدوات: دوريات مراقبة، تبادل معلومات، دعم لوجستي، ومبادرات مدنية صغيرة تُخفف ضغوط النزوح والبطالة.

ماذا تعني هذه الوجوه للمشهد السوري؟

تدل الدلائل على أنّ واشنطن لا تريد «انسحاباً مُفاجئاً» ولا «إعادة إعمارٍ بلا شروط». ما تسعى إليه أقرب إلى «إدارة نفوذ مُنخفض الكلفة» يترك لها قدرة تعطيل المخاطر وتشكيل الحوافز. فإذا أصبحت مشروطية إلغاء «قيصر» قانوناً نافذاً بعد استكمال المسار التشريعي، فسيتحوّل ملف العقوبات من أداة معاقبة جماعية إلى صمامٍ قابل للفتح والإغلاق، مرتبط بمدى التزام الأطراف بسلوكيات محددة.

بهذا، تصبح سياسة أميركا في سوريا شبكة من المفاتيح الصغيرة بدلاً من مفتاحٍ واحد يتحكم بكل الأبواب. وفي قلب الشبكة يبقى تمويل CTEF في الشمال الشرقي، والدعم العملياتي في التنف، كرتين أساسيتين في لعبة توازنٍ دقيقة.

اقرأ أيضاً: لا تحشرونا في خانة أمريكا فنصبح أعداء لتركيا!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى