الكاتب: أحمد علي
اتخذت سويسرا خطوة مفصلية برفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا في 20 حزيران 2025، فاتحة الباب أمام النظام المالي السوري للعودة التدريجية إلى النظام المصرفي العالمي. وهذا القرار، الذي طال انتظاره، لم يأتِ من فراغ، بل جاء في سياق دولي أوسع يتجه لإعادة تأهيل سوريا ما بعد الأسد. فما الفائدة من رفع سويسرا العقوبات؟ وماذا عن الملفات القديمة؟!
سويسرا ترفع العقوبات: توجه دولي وليس تصرّفاً فردياً
أعلنت الحكومة الفدرالية السويسرية رفع عقوبات اقتصادية عن 24 جهة سورية، من بينها مصرف سوريا المركزي، وهو قرار جاء بعد مراجعة شاملة تماشياً مع التحولات السياسية الأخيرة. وهذه الخطوة بمثابة استجابة مباشرة للمتغيرات التي فرضها سقوط النظام السوري في كانون الأول 2024، وقد سبقها تخفيف جزئي في آذار من نفس العام شمل السماح ببعض الأنشطة التجارية والمدنية. لكن التحول الحقيقي تمثّل في تماهي القرار السويسري مع خطوات مماثلة اتخذها كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، خصوصاً إصدار واشنطن لرخصة عامة تسمح بالتعاملات المالية بشروط رقابية.
الأثر الاقتصادي: بوابة البنوك وسويفت
شكّل قرار رفع العقوبات نقلة نوعية لمؤسسات الدولة المالية، حيث نفذت سوريا أول تحويل مصرفي عالمي عبر نظام SWIFT بالتعاون مع بنك إيطالي قبل أيام، وهي سابقة لم تحدث منذ عام 2011. فيما يعكس هذا التحرك السريع رغبة حقيقية لدى السلطات المالية في دمشق بإعادة الاندماج في الأسواق الدولية، ضمن خطة إصلاح مصرفي واسعة تشمل إعادة رسملة البنوك وتحديث البنية التحتية للقطاع.
ويتوقع خبراء الاقتصاد أن فتح بوابة التعامل مع المصارف السويسرية قد يعيد الثقة شيئاً فشيئاً إلى الأسواق السورية، ويشجع المستثمرين على التفكير في العودة، خاصة أن المعاملات الدولية كانت شبه مشلولة طيلة السنوات الماضية.
لكن الأهم من ذلك، هو أن المصرف المركزي السوري بات الآن قادراً على استعادة حساباته المجمدة في الخارج، وهو ما يمكّنه من فتح خطوط ائتمان، تمويل مشاريع، بل وربما تسوية ديون قديمة. غير أن كل ذلك سيبقى مشروطاً بالتزامه بالمعايير الدولية لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، وهي ملفات حساسة تعرقل عادة سرعة الانفتاح الكامل.
مصلحة سويسرا: الحياد والتوازن التجاري
إذا كانت سويسرا قد عُرفت تاريخياً بسياسة الحياد منذ اتفاقية فيينا عام 1815، فإن حيادها لم يكن سلبياً. في السياق السوري، تتحرك براغماتية سويسرا بين بوابة القانون الدولي والفرص الاقتصادية. ومع أنها ليست لاعباً سياسياً كبيراً في الشرق الأوسط في حسابات اليوم، إلا أن قوتها تكمن في النظام المالي المتين والثقة العالمية ببنوكها.
بهذا المعنى، فإن رفع العقوبات ليس فقط إشارة إنسانية أو سياسية، بل يحمل خلفه أيضاً حسابات اقتصادية بحتة. فإعادة فتح السوق السوري أمام المصارف السويسرية يعني تدفقات مالية محتملة، نشاطاً في تجارة الذهب، والعقارات، وحتى قطاع السلع الفاخرة الذي لطالما كان رائجاً بين فئات النظام الحاكم السابق.
الصفقات الغامضة
في الوقت الذي يُعاد فيه تأهيل النظام المالي السوري، تبرز من جديد التساؤلات حول ثروات رجالات السلطة السورية التي هُرّبت إلى الخارج خلال العقود الماضية. لطالما كانت سويسرا محطة رئيسية لهذه الحسابات، خصوصاً خلال سنوات التسعينيات، حيث تشير تقارير إلى وجود أرصدة ضخمة تعود لشخصيات نافذة من عائلة الأسد ودائرة الحكم الأولى.
في هذا السياق، يمكن أن نذكر تلك القصة التي طُرحت بعد وفاة باسل الأسد عام 1994، والتي تحدّثت عن صفقة سريّة تم من خلالها استرجاع جزء من أمواله الموجودة في الخارج مقابل التنازل عن حصة مالية أو عقارية لصالح طرف أوروبي. تقول بعض الروايات إن تلك الصفقة تمت مع وسيط فرنسي – سويسري رفيع المستوى، باستخدام حسابات في بنوك خاصّة.
وفيما يتعلّق بهذه القصّة، يوجد توثيق مهم في تقرير صادر عن منظمة Pro‑Justice (مشروع يقوم بتحقيقات ضد فساد النظام السوري). في صفحاته يُذكر ما يلي: «تم تكليف نادر قلعي باستعادة أموال باسل الأسد والتي بلغت ما يقارب 4 مليار دولار، حيث تم تزويج باسل الأسد بعد وفاته بإحدى قريبات نادر من أجل أن تتمكن من نقل أموال باسل الأسد إلى سوريا».
على أية حال، ما حدث عقب وفاة باسل الأسد، وإن لم يكن مؤكداً حتى اللحظة، فهو يعكس بوضوح مدى التشابك بين المصالح المالية والسياسية، ويمنح الباحثين والجهات القضائية مادة غنية للتحقيق بحال اختارت السلطات الجديدة أن تتبنى مبدأ الشفافية والمحاسبة.
ومع رفع العقوبات الحالية، تعود هذه الحسابات إلى الواجهة: هل ستسعى سوريا الجديدة لاسترجاع تلك الأموال وغيرها التي جمّدت في 2012؟ وهل لدى باريس أو جنيف مصلحة في التعاون؟ حتى الآن، لا يوجد أي مؤشر على تحركات فعلية في هذا الملف، لكن الواقع المصرفي الجديد قد يجعل من هذه الأرصدة ملفاً سياسياً ساخناً خلال الأشهر القادمة.
ويشار هنا إلى أن محكمة فرنسية كانت قد أدانت رفعت الأسد في عام 2020 بغسيل أموال الدولة السورية باستخدام شبكة معقدة من البنوك في فرنسا، سويسرا، إسبانيا واليونان. من بين البنوك: Société Générale، BNP Paribas، UBS، Audi Bank، بنك قطر الوطني، وغيرها.
وفي عام 2024، كشف تحقيق في صحيفة The Guardian عن دور مستشارة من جزر غيرنزي (Guernsey) في إدارة شبكات الثروة العقارية التابعة لرفعت الأسد -الذي كان مقيماً في فرنسا- ضمن أطراف أوروبية متعددة.
استنتاجات وقراءة مستقبلية
ختاماً، إن قرار سويسرا برفع العقوبات لا يعني أن الطريق قد فُتح بالكامل أمام سوريا، لكنه يمثل بالتأكيد أول دفعة رمزية ومادية تجاه الاندماج المالي الدولي.
وقد أثبتت التجربة أن السياسة السويسرية تسير بحذر، وهي ما كانت عليه دائماً في تعاملها مع الملفات الشرق أوسطية. فيما تبقى أهمية سويسرا نابعة من قوتها المصرفية وموقعها كحاضنة موثوقة للأموال الحساسة، لكنها في الوقت نفسه لا تكفي وحدها لفك شيفرة الحسابات المجمّدة أو المهربة. فألمانيا، وبريطانيا، هي الأخرى تمسك بخيوط مهمة من هذا الملف، ولن تفتح خزائنها دون اتفاقات شاملة أو ضغط دولي ممنهج.
اقرأ أيضاً: رفع العقوبات و 500 شركة جديدة في عام واحد.. هل بدأ الاقتصاد السوري بالنهوض؟