في مسعى جديد لتعزيز السيطرة على أحد أكثر القطاعات الاقتصادية حساسية في سوريا، أصدرت نقابة الصاغة في دمشق تعميماً تنظيمياً في 17 حزيران الجاري، يهدف إلى فرض إجراءات رقابية مشددة على عمليات بيع وشراء الذهب.
ويأتي هذا القرار في وقت يكافح فيه السوق المحلي للتعافي من شلل شبه تام كانت قد شهدتها قبل “سقوط النظام“، وسط تحديات اقتصادية متزايدة تشمل تقلبات الأسعار الحادة وأزمة ثقة تطال سمعة الذهب السوري لدى الأسواق الخارجية.
قبضة تنظيمية لضبط الفوضى في سوق الذهب
ينص التعميم الجديد، الذي وجه إلى كافة محال الصاغة، على ضرورة تسجيل “اسم المشتري ورقم هاتفه المحمول” على فاتورة البيع، مع ختمها بختم الصائغ والنقابة وتدوين التاريخ.
ولم تتوقف الإجراءات عند هذا الحد، بل ربطت النقابة تجديد التراخيص أو منح تراخيص جديدة بتركيب كاميرات مراقبة داخلية وخارجية، وهو شرط كانت قد فرضته في تعميم سابق في شهر نيسان الماضي، مهددة المخالفين بالإغلاق لمدة أسبوع.
وتأتي هذه القرارات في سياق جهود أوسع لإعادة هيكلة السوق، فبعد “سقوط النظام”، تم تجميد عمل الجمعية القديمة وتشكيل “جمعية صاغة دمشق وريفها”، والتي تضم، بحسب شهادات تجار، نخبة من أصحاب الخبرة الموثوقين.
ويرى جوزيف أبو الذهب، أحد باعة الذهب في دمشق، أن هذه الخطوة إيجابية، مشيراً في تصريحه لموقع “اقتصاد السوري” الذي نشر مؤخراً واستند إليه نظراً لتوثيقه آراء عدد من العاملين في قطاع الذهب بشأن القرارات التنظيمية الجديدة، إلى أن الأسعار الصادرة عن الجمعية الجديدة “منطقية ومناسبة”، على عكس تسعيرات النظام السابق التي لم يكن يمكن لأي تاجر الالتزام بها، مما كان يدفعهم للتعامل بتسعيرة سرية وموازية.
تقلبات السوق: بين انتعاش البيع وشلل الورش
شهد سوق الذهب تحولات دراماتيكية، فبعد فترة من الجمود، انتعشت حركة المبيع بشكل ملحوظ.
ويفسر التاجر مروان الشمص في حديثه لإحدى وسائل الإعلام المحلية، هذا الانتعاش بأن المواطنين يقدمون على بيع مدخراتهم من الذهب لتمويل مشاريع جديدة، أو إعادة إعمار منازلهم، أو شراء سيارات، مدفوعين بحالة من التفاؤل الاقتصادي بعد زوال الأعباء الضريبية الثقيلة السابقة.
ويضيف الشمص، أن سعر الذهب يتأثر محلياً بعاملين رئيسيين؛ الأول هو السعر العالمي للأونصة، والذي يعد ذو تأثير “خفيف”، والعامل الثاني والأهم وهو تغير سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي.
وقد أدى استقرار سعر الصرف النسبي مؤخراً إلى استقرار أسعار الذهب، حيث انخفض سعر الغرام من مليون و400 ألف ليرة سورية قبل “سقوط النظام” بيومين إلى حدود 900 ألف ليرة بعده.
ووفقاً لأحدث تسعيرة صادرة عن نقابة الصاغة بدمشق، (حتى لحظة إعداد هذا التقرير) سجل غرام الذهب عيار 21 سعر مبيع قدره 890 ألف ليرة، وعيار 18 سعر 765 ألف ليرة.
لكن هذا الانتعاش في المبيع يقابله تحدٍ كبير على صعيد الإنتاج، فقد توقفت معظم ورش الصياغة في دمشق عن العمل بسبب تقلبات سعر الصرف التي جعلت تسعير غرام الذهب بالليرة أمراً معقداً، إضافة إلى مخاوف أمنية من تعرض الورش للسرقة.
ويقول سامي، صاحب محل في سوق الصاغة، إن هذا التوقف “جعل المحال تعتمد على المخزون الجاهز فقط، مع عجز عن توفير مقاسات محددة أو تصليح وتفصيل قطع جديدة حسب رغبة الزبائن”، مما أثر سلباً على حركة البيع الكلية.
اقرأ أيضاً: هل درعا على عتبة تحول صناعي؟ المدارس المهنية حجر الزاوية لبناء اقتصاد ما بعد الحرب
الذهب السوري خارج الحدود: سمعة على المحك
بعيداً عن تقلبات السوق المحلية، يواجه الذهب السوري، والدمشقي منه على وجه الخصوص، معضلة أعمق تتعلق بسمعته في الأسواق الإقليمية مثل تركيا والخليج.
فعلى الرغم من افتتاح عشرات محال الصاغة السورية في تركيا، إلا أن المستهلك التركي ما يزال يعرض عن شراء “الذهب السوري”.
ويرجع السبب الرئيسي، وفقاً للبعض، إلى اختلاف المعايير والأذواق، حيث يعتبر العيار القياسي في تركيا هو 22 قيراطاً، بينما يبلغ في سوريا 21 قيراطاً.
ويشير الصائغ السوري أحمد سبانو، الذي يعمل في حي أسنيورت بإسطنبول، إلى وجود فرق في اللون بين الذهب السوري والتركي، إذ يتميز الأول بلونه المائل إلى الحمرة، في حين يبدو الذهب التركي أفتح لوناً، وهو ما يراه الأتراك غريباً وغير مألوف.
ويضيف سبانو، في تقرير نشره موقع “الجزيرة نت” عام 2020، أن الاعتبارات الثقافية والاجتماعية تلعب دوراً محورياً في تشكيل تفضيلات الزبائن؛ فالزبون التركي، الذي يشتري الذهب بغرض الادخار، يفضّل السبائك من عيار 24 أو المشغولات من عيار 22، انسجاماً مع ما اعتاده المجتمع التركي.
وتعبر الشابة التركية “توبا غل” عن خشيتها من نظرة المجتمع إذا اشترت ذهباً عيار 21، قائلة: “قد يظن البعض أنه ليس ذهباً حقيقياً، أو أنني أشتري الأرخص ومنخفض الجودة”.
ولا تقتصر أسباب تراجع سمعة الذهب السوري على الاختلاف في الذوق فحسب، بل تمتد لتشمل ظاهرة الغش التي انتشرت بشكل واسع خلال سنوات الحرب.
وقد ساعدت الفوضى التي شهدها القطاع، وهجرة الخبراء والحرفيين المهرة المعروفين بـ”شيوخ الكار”، على دخول متطفلين لا يمتلكون الخبرة ولا الضمير المهني.
ففي حلب مثلاً، انخفض عدد الورش من 1200 إلى 40 فقط، ما أدى إلى تفشي أساليب الغش المختلفة، بدءاً من بيع عيار 18 على أنه 21، وصولاً إلى خلط الذهب بمعادن أخرى أو بيع قطع نحاسية مطلية على أنها ذهب خالص.
هل يمكن استعادة الثقة؟
إن إعادة بناء سمعة الذهب السوري مهمة شاقة تقع على عاتق الهيئات التنظيمية الجديدة، حيث تمثل قرارات نقابة دمشق الأخيرة، وإن بدت في ظاهرها إدارية، خطوة ضرورية نحو توثيق كل عملية بيع ومراقبة السوق بشكل فعال.
وفي شمال سوريا، كانت جمعية الصاغة التابعة لوزارة الاقتصاد والموارد في “حكومة الإنقاذ” قد قدمت نموذجاً يحتذى به لما يجب اتخاذه من إجراءات، من خلال فرض شروط ترخيص صارمة تتضمن تزكية من صائغين مرخصين، واستخدم أجهزة متطورة لفحص جودة الذهب بالأشعة السينية والتحليل الكيميائي، بالإضافة إلى وضع علامات تجارية لتمييز المنتجات وفرض عقوبات رادعة تشمل غرامات مالية باهظة وسحب الترخيص.
إن مستقبل الذهب السوري، الذي كان يوماً رمزاً للدقة الحرفية والجودة العالية، مرهون اليوم بنجاح هذه الجهود التنظيمية، فاستعادة الثقة تبدأ من الداخل، عبر فرض معايير جودة صارمة، وتطبيق نظام دمغة موثوق، ومحاربة الغش بلا هوادة.
وعندها فقط يمكن للذهب السوري أن يستعيد بريقه ليس فقط في واجهات العرض المحلية فحسب، بل في الأسواق الإقليمية والدولية أيضاً.
اقرأ أيضاً: اتفاقية استراتيجية مع برنامج الأغذية العالمي.. هل تعيد الخبز لجميع السوريين؟