سياسة

سوريا وتركيا.. صفقة الانفتاح التي دمرّت الصناعة السورية

تحت شعارات “الصداقة والتكامل” أثناء حكم الأسد، وفي مرحلة وُصفت بشهر العسل الاقتصادي بين سوريا وتركيا، فُتحت فيها الحدود وتدفقت البضائع التركية كالسيل، لتحوّل الأسواق السورية إلى ساحة نفوذ اقتصادي تركي متنامٍ. لكن للأسف، كان ذلك على حساب الصناعيين السوريين والمنتج الوطني.

توقفت ماكينات الغوطة وصمتت مصانعها بفعل منافسة غير عادلة وغزو صامت بدأ مع توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين سوريا وتركيا عام 2007. أُغرقت البلاد ببضائع مستورة أرخص وأقل جودة في بعض الأحيان، لكنها وصلت إلى المستهلك على نطاق واسع. تراجعت خطوات الإنتاج السوري أمام الطوفان التركي، من ورش نسيج حلب إلى معامل غوطة دمشق، ولم يبقَ سوى بقايا معامل أغلقت، وسُرّح آلاف العمال نتيجة المنافسة غير المتكافئة وتحت وطأة اتفاقية التجارة الحرة التي أبرمها الأسد الابن مع الجارة الشمالية.

في مقالنا هذا سنناقش بداية غزو البضائع التركيّة الصامت للأسواق السورية حتى إغراقها بالكامل أثناء حكم الأسد لنستخلص الدروس من تلك الفترة ونقف عند أسباب انهيار المنتج السوري أمام الإغراق التركي. ونرصد كيف تحولت السياسة بين البلدين من العداء السياسي إلى التوأمة الاقتصادية السامة، وكيف وُضعت الصناعة السورية تحت الضغط وحورب الصناعيون السوريون في معاملهم وعلى أرضهم. ولنفهم كيف بات الاقتصاد السوري رهينة الجوار؟ 

سوريا وتركيا.. من عداء الأسد الأب إلى توأمة الأسد الابن

انتهج حافظ الأسد سياسة العداء تجاه تركيا عبر دعمه لحزب العمال الكردستاني “pkk” في أوائل الثمانينيات، فكان النظام السوري وقتها أول من قدم الدعم للحزب الكردستاني خارج حدود تركيا، عبر توفير معسكرات تدريب لعناصر الحزب، وإيواء زعيمه عبد الله أوجلان في دمشق.

بين سعي أنقرة لإيقاف الدعم وإنكار دمشق له، تصاعد التوتر بين البلدين حتى لوّحت أنقرة وهددت فعلياً بغزو الأراضي السورية عام 1998. عداءٌ نسجه حافظ الأسد لغايات سياسية، سرعان ما تبدلت عند اتفاق أضنة الأمني من العام نفسه 1998 بين البلدين، أفضت بطرد أوجلان من دمشق وإنهاء الدعم السوري للحزب الكردستاني.

ليس ابن أبيه لا بالتخطيط ولا بالاستراتيجية… نهجٌ مختلف سلكه بشار مع أنقرة، ومع وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في تركيا عام 2002 وانتهاجه لسياسة صفر مشاكل مع الجوار، تطورت علاقات الصداقة والتعاون بين البلدين حتى وصلت إلى حدود التعاون الاستراتيجي بينهما.

أقامت سوريا وتركيا في بدايات حكم الأسد الابن علاقة وثيقة، كان المبادر لإقامتها تركيا، استناداً إلى سياسة العمق الاستراتيجي وتصفير المشاكل مع الجيران، “النهج” الذي تبناه “أحمد داوود أوغلو” العقل المفكر لحزب العدالة والتنمية.

علاقات ودودة واستراتيجية أفضت إلى اتفاقية التجارة الحرة بين سوريا وتركيا عام 2007، التي كانت إسفين يدق في قلب الصناعة السورية. من هنا بدأت حكاية الغزو الصامت… أسواق سوريا أُغرقت بالبضائع التركية، والصناعيون السوريون بمفردهم في قلب المعركة.

ليبقى السؤال ما مصلحة بشار الأسد بفتح علاقات مع تركيا؟ 

وجدت السلطة في سوريا آنذاك مصالح عديدة بالاتفاق مع الجارة الشمالية، فكانت تنظر لها بعين السياسة والاستراتيجية أكثر من الاقتصاد، فالنظام وقتها كان يسعى إلى كسر العزلة الدولية التي فرضت عليه بعد اغتيال رئيس الحكومة اللبناني رفيق الحريري عام 2005، وتحسين صورته إقليمياً.

التقارب مع أنقرة الصاعدة بقوة آنذاك والمتوجهة شرقاً كان بمثابة نافذة عبور نحو “تطبيع إقليمي” وانفتاح اقتصادي دون مواجهة مباشرة مع الغرب، كما شكلت الاتفاقية فرصة مهمة للمستوردين المقربين من السلطة لإدارة صفقاتهم وزيادة ثرواتهم ولو على حساب صناعتهم المحلية والإنتاج الوطني. لكن ما إن دخلت البضائع التركية إلى السوق السورية حتى أغرقتها، وأضعفت الصناعة المحلية للبلاد، وباتت سوريا سوق تصريف للمنتجات التركية. فالشراكة لم تكن مدروسة كمشروع اقتصادي من قبل الأسد بقدر ما كانت إنجاز سياسي يطمح لتحقيقه.

اقرأ أيضاً: قفزة في صادرات المجوهرات وحركة الشحن: كيف تستعيد التجارة بين سوريا وتركيا حيويتها؟

اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين.. بوابة الغزو الصامت

وُقعت الاتفاقية الأصلية بين البلدين في العام 2004، ودخلت حيّز التنفيذ بشكل فعلي في العام 2007. ملخص ما ورد في الاتفاقية يقوم على: تعزيز التعاون الاقتصادي بين سوريا وتركيا، وتشجيع التجارة الحرة بين البلدين، وإزالة الحواجز الجمركية والقيود الجمركية على السلع والبضائع المتبادلة، وتشجيع إقامة المشاريع المشتركة بين المستثمرين السوريين والأتراك.

بعد ملخص الاتفاقية نطرح السؤال التالي: من المستفيد من الاتفاقية سوريا أم تركيا؟

لنتكلم بلغة الأرقام من المستفيد، واقع التبادل التجاري بين البلدين يميل لمصلحة الأتراك بشكل كبير، فقد بلغ حجم التبادل في عام 2010 نحو 2.5 مليار دولار، لم يتجاوز حجم الصادرات السورية منها عتبة الـ800 مليون دولار، وهذا يفسر انفتاح الأسواق السورية أمام رجال الأعمال والاقتصاديين الأتراك.

تشير الإحصائيات الرسمية السورية إلى أن قيمة المستوردات السورية من تركيا بلغت عام 2005 نحو 15.564 مليار ليرة سورية، بينما بلغت قيمة الصادرات نحو 13.412 مليار ليرة (الدولار يساوي نحو 50 ليرة سورية آنذاك). وبيّنت إحصائيات التجارة الخارجية للعام 2009 أنه بعد تطبيق منطقة التجارة الحرة بين البلدين، ارتفعت الصادرات السورية إلى تركيا لكن بنسبة تقل كثيراً عن الارتفاع الذي حققته نظيرتها التركية إلى سوريا، حيث بلغت الصادرات السورية الى تركيا آنذاك نحو 14.707 مليار ليرة، بينما وصلت قيمة الصادرات التركية إلى سورية نحو 51.269 مليار ليرة سورية.

أما عن عدد المشاريع التركية في سوريا المشتملة على قوانين الاستثمار في قطاعات الصناعة والزراعة والنقل والصحة، بلغت 39 مشروعاً بكلفة تقديرية تصل إلى نحو 37 مليار ليرة.

يذكر أنه في منتصف تشرين أول عام 2009، اتفقت سوريا وتركيا على تأسيس المجلس الإستراتيجي الأعلى، وخلال عام من إعلان إطلاق المجلس بلغ عدد الاتفاقيات الموقعة بين البلدين أكثر من 50 اتفاقية في مختلف المجالات. وبلغ عدد المشاريع المنفذة منها 8 مشاريع بكلفة قدرها 16 مليار ليرة، بينما بلغ عدد المشاريع التركية قيد التنفيذ في سورية نحو 13 مشروعاً بكلفة قدرها 5.3 مليارات ليرة.

كما شكلت سوريا معبراً مهماً للشاحنات المحملة بالبضائع التركية المتجهة نحو دول الخليج العربي والأردن ومصر، وكذلك للشاحنات التركية العاملة في تجارة الترانزيت بين أوروبا والجانب العربي الآسيوي. وأشارت البيانات الإحصائية الرسمية لعام 2010 أن عدد الشاحنات التركية التي تتجه نحو سورية حاملة بضائع تركية لأسواقها يتجاوز 100 ألف شاحنة تبعاً، بينما يبلغ عدد الشاحنات التركية التي تعبر الأراضي السورية ترانزيت بين 50 إلى 60 ألف شاحنة سنوياً. وأشارت كذلك إلى أن عدد الشاحنات السورية التي عبرت الأراضي التركية بلغت نحو 622 شاحنة، فيما بلغ عدد الشاحنات السورية التي دخلت إلى تركيا محملة أو فارغة نحو 3 آلاف شاحنة فقط.

رغم ما حققته سوريا من تسهيلات من خلال اتفاقية التجارة الحرة، إلاّ أن ما جنته كان ضربة قاصمة لصناعاتها المحلية تحديداً في غوطة دمشق وحلب، إذ أن آلاف الورش الصغيرة قد أغلقت بسبب فقدان الطلب على الإنتاج المحلي، إلى جانب فقدان الحماية الجمركية بإلغاء الرسوم على تركيا، ما حرم الدولة السورية من مصدر دخل مهم، وأضعف قدرة المنتجين المحليين على المنافسة.

اقرأ أيضاً: هل مطامح تركيا هي ذاتها مطامع إسرائيل في سوريا؟

الصناعة السورية تحت الضغط.. والأسواق السورية رهينة

تحت راية التكامل الاقتصادي، دَمرت دمشق صناعات غوطتها، فبعد أن كانت الغوطة أحد أهم المراكز الصناعية في البلاد، حلّت عليها الكارثة بصمت. فالمعامل الصغيرة التي اشتهرت بالألبسة والمنسوجات، مروراً بالأثاث والخشبيات، وصولاً إلى المواد الغذائية وجدت نفسها وحيدة بلا دعم حكومي، عاجزة أمام المنتجات التركية المتنوعة القادمة بلا رسوم جمركية، وذات الثمن القليل.

أمام هذا الواقع الذي فُرض بعزو ناعم.. انهارت خطوط الإنتاج المحلية السورية تباعاً، وسرّح مئات العمال وأغلقت الورش الصغيرة التي كانت عماد الاقتصاد المحلي وتم خنقها بمنافسة غير متكافئة، في ظل غياب تام لظل الدولة السورية، بينما تحولت الأسواق السورية إلى منصات لتصريف البضائع التركية بدل الترويج للمنتج الوطني السوري.

مع مرور الوقت، أضحت الأسواق السورية رهينة البضائع القادمة من الشمال، فبات المستهلك السوري “تركي” يعتمد على البضائع التركية في لباسه وغذائه، ووفق تعبير الخبير الاقتصادي “جورج خزام” عن الاستهلاك المعنوي للبضائع المستوردة: “إن الكثير من المستهلكين يشعرون بأن البضائع المستوردة تحقق لهم الكثير من الرفاهية و السعادة وكأن من يستهلك البضائع التركية فرضاً سوف يشعر بأنه يجلس في وسط تركيا، وبأن من يستهلك البضاعة الأمريكية سوف يشعر و كأنه يجلس في وسط واشنطن”. ووفق تحليله، هذا من رواسب الأفكار السابقة لمنع استيراد بعض البضائع الأجنبية التي لها بديل وطني، وهذا ما نجح به المستوردين بنشر الدعايات لتسويق المستوردات على حساب كساد المنتج الوطني.

كان خطأ النظام السوري أنه تعامل مع الانفتاح على تركيا على أنه إنجاز سياسي لا كمشروع اقتصادي وطني، ولم يضع خططاً لحماية الصناعة المحلية أو تأهيلها لدخول المنافسة. فالجار الشمالي دخل الاتفاقية بصناعة قوية وخطوط تجارية هائلة، فتُركت الأسواق السورية مكشوفة للجار الأقوى، وجَرفت هذه “التعاونات” بنية الإنتاج المحلي السوري، وحَوّلت سوريا من شريك اقتصادي إلى تابع اقتصادي لأنقرة.

تركيا وسوريا بعد الحراك الشعبي 2011

بعد اشتعال الثورة في سوريا عام 2011، أعلنت أنقرة انحيازها للحراك الشعبي ودعمها لقرار الشعب السوري بتحديد مصيره وفق تعبيرها، ففتحت الحدود أمام الفصائل المناهضة للنظام وقدمت لهم الدعم المالي واللوجستي وبعضاً من الإسناد العسكري. مع تصاعد معارك الشمال السوري، شهدت مناطق في حلب عمليات نهب واسعة شملت تفكيك مئات المعامل ونقل معداتها عبر الحدود إلى الداخل التركي وبيعها في السوق السوداء.

هذه الحوادث شائعة في الحروب، فهي نتيجة طبيعية للفوضى والانفلات الأمني، ولا أدلة واضحة أو قاطعة على أن السلطات الرسمية في تركيا هي من أمرت أو نظمت تلك العمليات، لكن هناك معطيات على أرض الواقع حينها أظهرت تسهيل للعمليات عند “الولايات الحدودية التركية” مع سوريا، لتتحول لممرات مفتوحة للتجارة والتهريب. وهكذا دُمرّت الصناعة السورية بعد إنهاكها سابقاً بالمنافسة التركية.

البضائع التركية وسوريا بعد التحرير

بعد سقوط الأسد.. سقطت القطيعة الاقتصادية بين البلدين معه، وعادت الأنباء عن استئناف اتفاقية التجارة الحرة بين سوريا وتركيا، مع تخفيض التعريفات الجمركية بين البلدين. فهل عادت البضائع التركية لتغتال الصناعة السورية من جديد؟

يجيب على هذا السؤال خبراء اقتصاديون سوريون ممن تعالت أصواتهم محذرين من تدفق البضائع التركية. فحسب بيانات نشرتها وكالة أنباء الأناضول التركية، فإن قيمة البضائع التي دخلت إلى السوق السورية خلال شهر ونصف بعد سقوط النظام، تجاوزت الـ 233 مليون دولار، وهو رقم عَلقت عليه الأكاديمية الدكتورة “رشا سيروب”، المدرسة في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، بأنه إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فلن نودع القطاع العام الصناعي، بل القطاع الخاص الصناعي أيضاً.

من جهته، اعتبر المحلل الاقتصادي، “جورج خزام”، أن البضاعة التركية هي بالحقيقة “حصان طروادة” لاغتيال الاقتصاد السوري وتصفيته بخطة لتتريك الأسواق وزيادة التبعية الاقتصادية.

في سياق متصل، أفاد تقرير نشره موقع “المجلس الأطلسي” الأميركي، أن التجارة الثنائية بين سوريا وتركيا بلغت 1.9 مليار دولار خلال أول 7 شهور من 2025، مقارنة بـ2.6 مليار دولار لعام 2024 بأكمله، كما ارتفعت الصادرات التركية بنسبة 54% لتصل 2.2 مليار دولار، في وقت بلغت فيه الواردات السورية 437 مليون دولار، والبضائع التركية تسيطر حالياً على الأسواق السورية لكونها أقل سعراً بنسبة 30-40%.

من قراءة الماضي ومعطيات الواقع الحالي، يمكن تقديم حلول مقاربة للواقع من أجل أن تحمي الصناعة السورية نفسها، ولا تقع في فخ الغزو التركي من جديد، إذ يجب اتباع سياسة حماية ذكية تقوم على بناء البنية الإنتاجية للداخل لا التخلي عن المنتج المحلي كالسابق، مع اتباع سياسة جمركة متوازنة بوصلتها حماية المنتج السوري والنهوض به من مستنقع الإغراق، ومنع دخول البضائع التركية الرخيصة وجعلها منافسة للجودة السورية، إلى جانب تشجيع التصنيع المحلي والاعتماد على الشراكات الإقليمية وليس حصر الشراكة الاقتصادية بتركيا.

إضافةً إلى تطوير الكفاءات البشرية ودعمها فهي عماد الصناعة ومُحرك قدرتها التنافسية، مع العمل على تحويل السوق السورية من حالة السوق المُستهلكة إلى السوق المُنتجة المُصدرة، والقادرة على حماية نفسها من أي غزو اقتصادي قادم من الشمال أو من غيره.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى