سوريا والعملة المزورة: إغراقٌ للسوق .. بين الدوافع والقانون

غزت العملة المزورة أسواق سوريا بشكلٍ رهيب بعد سقوط النظام، رغم وجودها قبل السقوط… لكن ضعاف النفوس استغلوا انتقال الحكم والسقوط معتبرين أن الأمور بلا حسيب ولا رقيب، فقاموا بضخ كميات من العملة المزورة في الأسواق تحديداً بعد السماح بالتعامل بالدولار الذي كان يُحظر تداوله، وأيّ عملات أجنبية في الأسواق الرسمية السورية.
مع تحرك الأسواق بالعملات، لاسيما التركية منها المنتشرة بشكل كبير في المحرر، تزايدت حركة تصريف العملة وباتت شغلَ من لا شغل له.. فانتشرت على إثرها الأموال المزورة بشكل كبير. في مقالنا هذا سنلقي الضوء على انتشار العملات المزورة في أسواق سوريا، وكيف تعامل المصرف المركزي معها.. ونناقش دوافع هذا الفعل وما موقف القانون السوري منه.
حجم انتشار العملة المزورة في سوريا
واجه تجار العاصمة وعموم سوريا وسكانها، وصرّافو العملة الجدد، تحدي فاقع بانتشار دولارات مزوّرة بنسبة تطابق عالية مع الأصلية، تتراوح بين 90% إلى 95%، مع انتشار لعملة سوريةّ مزورة كانت تتركز المزورة منها ضمن الفئات النقدية “2000-5000” ليرة سورية.
الأوراق النقدية الأجنبية الأكثر تزويراً، كانت من فئة 100 دولار، والتي تسببت في إرباك كبير لكونها تخدع أجهزة الكشف التقليدية المستخدمة على نطاق واسع في سوريا، وهذه الأوراق المزورة تشبه الأصلية من حيث الملمس والشريط ثلاثي الأبعاد والعلامة المائية حسب ما صرّح المتعرضون للاحتيال والتزوير، إلا أن الاختلافات تكمن في أن الشخصية المطبوعة بالدائرة البيضاء والشريط المخفي يظهران مطبوعين بدقة لا يمكن كشفها إلا بتسليط الضوء خلف الورقة. وكنّا قد أفردنا في مقال سابق آلية كشف الدولار المزوّر بخطوات بسيطة.
شهدت العديد من المناطق السورية موجه التزوير هذه، فقد أغرقت السوق حرفياً بالعملات المزورة، وهي ظاهرة موجودة لليوم إذ رُصد كميات كبيرة من العملة المزورة في مدينة تل أبيض وأغلبها من فئة 5000 ليرة سورية.
أرجع بعض الصّرافون أزمة الدولارات المزوّرة إلى الأزمة المماثلة لها في تركيا، إذ يرجحون دخول تلك الدولارات بطرق غير شرعية إلى سوريا، واستخدامها بشكل واسع في المناطق السياحية، خاصة في شراء العملات المشفرة. وكان قد بدأ التجار والمواطنون في عموم سوريا بتصوير الدولارات التي يشترونها وتسجيل أرقامها مع رقم الشخص الذي صرّفها، من أجل الرجوع إليه في حال تبيّن أن الورقة النقدية التي بيعت مزورة.
اقرأ أيضاً: إلى من يحكم دمشق: اهربوا من الدولار وإلا ستسقط سوريا معه!
تعامل المصرف المركزي والجهات المختصة مع العملة المزورة
أطلق المصرف المركزي السوري في سوريا على مدى الشهور الماضية، دعوة وتحذير شمل المواطنين وشركات الصرافة، إذ دعا المواطنين لحصر تعاملاتهم في مجال الصرافة والحوالات المالية الخارجية بمؤسسات الصرافة المرخصة من قبل المركزي، والمسجلة في سجل شركات ومكاتب الصرافة، محذراً من انتشار ظاهرة ممارسة مهنة الصرافة دون ترخيص، مشيراً إلى آثارها السلبية ومخاطرها المرتفعة المهددة لاقتصاد البلاد. ودعا المصرف المواطنين للامتثال صوناً من ضياع حقوق المتعاملين في ظل انتشار العملات المزوّرة، ونقص العملات الورقية المسلّمة الناتجة عن تنفيذ تلك العمليات.
مؤكداً مواصلة جهوده في تنظيم قطاع الصرافة وإغلاق الشركات غير المرخصة، والحد من أي نشاط مخالف، مشيراً إلى إمكانية التعامل مع شركات الصرافة الحاصلة على ترخيص مبدئي وفق أحكام القرار الصادر في مارس 2025، والذي يلزم المؤسسات المصرفية باتخاذ الإجراءات اللازمة لضبط أوضاعها وتوفيقها مع القوانين والأنظمة السارية، وصولاً إلى منحها الترخيص المبدئي من مجلس النقد والتسليف.
إلى جانب جهود المصرف، جهاز الأمن الداخلي يبذل جهده في ضبط أوكار تزوير العملة ومنع تداولها في السوق. ففي تطور أمني لافت يحسب للجهات الأمنية في سوريا، كشفت السلطات السورية عن ورش سرية لتزوير العملات تعمل داخل منشآت تقع بالقرب من الحدود اللبنانية – السورية، وذلك خلال حملة أمنية دقيقة شنتها الأجهزة السورية في المناطق الحدودية.
خلال كشفها وضبطها تبيّن أن مزوّري العملات يسعون إلى تقليد الأوراق النقدية الأصلية مستغلين التطور التكنولوجي لإنتاج نسخ مزيفة يصعب كشفها. كما تتراوح أساليب التزوير بين الاحترافية والبدائية. كما أشار خبراء إلى أن التزوير الاحترافي يتم حالياً عبر الطباعة الحجرية (الأوفست)، وهي تقنية متقدمة تستخدم تقنيات مشابهة للطباعة الرسمية التي تعتمدها البنوك المركزية، ما يجعل اكتشافها أكثر صعوبة.
داخلياً، جهاز الأمن لا يهدأ فهو يضبط أوكاراً للمخدرات وتزوير العملة معاً، كان آخرها في مدينة حلب، إذ ضُبط مبلغ كبير من الدولارات الأمريكية المزورة وألقي القبض على أحد المروجين، بعد ضبطه متلبساً بحيازة مبلغ مزور قدره 5000 دولار أمريكي. خلال التحقيقات، اعترف المتهم بممارسة نشاطه في ترويج العملات المزورة في أحياء مختلفة من حلب، بالتعاون مع شخص يقيم خارج المحافظة.
اقرأ أيضاً: مصرف سوريا المركزي يحذر من التعامل بالعملات الرقمية
دوافع التزوير: ما الأسباب الكامنة وراءه
الدافع الأبرز لتزوير العملة هو الأزمة الاقتصادية التي تتطلب حلولاً شاملة، فيجب إعادة تفكيك وبناء الهيكلية البنيوية لمنظومة الاقتصاد في سوريا. من أهم أسباب ترويج العملة المزورة ضعف الرقابة النسبي.. تزامناً مع تطور أساليب التزوير، إلى جانب وجود عصابات نيتها تفخيخ الاقتصاد السوري.
ناهيك عن قلّة الثقة بالعملة المحلية، وهذا سبب مشجع ودافع للمزورين إلى اللجوء لطباعة أموال مزيفة لتعويض النقص في السيولة، بالتالي انتشار شبكات تزوير منظمة تعمل بسهولة نسبية نوعاً ما، إضافةً إلى عدم وجود أنظمة متطورة للكشف عن العملة المزورة (مثل الأشرطة الأمنية أو الحبر الخاص). كذلك إن الطلب المتزايد على النقد في السوق الموازية، بسبب العقوبات الدولية التي كانت مفروضة، أدى إلى تحول معظم المعاملات إلى القطاع غير الرسمي، ما زاد الطلب على العملة النقدية (بما فيها المزورة) لتمويل الأنشطة اليومية.
مؤخراً إن فتح السوق سمح بتهريب كميات كبيرة من العملة المزورة عبر الحدود، خاصة مع دول تشهد اضطرابات وفلتان أمني حدودي نوعاً ما، مثل: لبنان والعراق، إذ تُستخدم سوريا كمسار لتهريب الأموال المزورة. كما ولا نستطيع إهمال دور الفساد وانتشاره في تسهيل هكذا عمليات غير قانونية.
تأثير العملة المزورة وموقف القانون السوري
ربما غَفل الناس عن أن ارتفاع الأسعار نسبياً، وخاصة في منتجات الفروع والقطاعات التي يتم فيها صرف حصيلة التزوير أو معظمها جاء بفعل العملة المزورة (كالأسواق ومحلات الصرافة)، وإن ارتفاع الأسعار هذا له آثار اجتماعية سلبية تتمثل بإضعاف القوة الشرائية للعملة، وبالتالي الحصول على “تسكير للحاجة” أو ما يعرف “بالإشباع” بنفس كمية العملة بمعنى أبسط يُسد نقص العملة الأصلية بالعملة المزورة.
أخطر انعكاساتها يتمثل في أنها تساعد على اغتناء أعضاء الجهات المُزوّرة، وتزيد من كمية النقود المتاحة للشراء دون أن يكون هناك سلع أو خدمات حقيقية تقابلها. هذا يُعرج على زيادة التضخم، إذ أن العملة المزورة تزيد من معدلات التضخم، ما يقلل قيمة مدخرات المواطنين ما يفاقم الفقر. إلى جانب غياب تلك العملات عن السجلات الرسمية لتحصيل الضرائب، يُضعف التحصيل ويقلل إيرادات الدولة.
أما عن تعامل القانون السوري مع تزوير العملات، فقد أفرد المشرّع السوري للعملة المزورة قسماً خاصاً في قانون العقوبات السوري، وفرّق بدقة بين “صانع الجريمة” و”ساعيها”، أي بين من زوّر العملة ومن روّج لها.
وفق المادة 430 من قانون العقوبات السوري، من زوّر عملة معدنية أو ورقية، سواء كانت سورية أو أجنبية، وقام بطرحها للتداول أو لم يطرحها، يُعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة، من 5 إلى 15 سنة.
راعى القانون السوري النية “العلم بالتزوير، أو اتجاه القصد للتزوير” فحسب المادة 433 من قانون العقوبات، إذا ثبت أن المتهم قد تداولها دون علم بتزويرها، ثم علم بذلك لاحقاً ولم يُبلّغ، فالعقوبة تخف، ولا تعدو أن تكون سنة أو أقل، أو غرامة مالية.
لأن تزوير العملة ليس مجرد جريمة مالية بل اغتيال للثقة العامة تدخل القضاء السوري عبر أعلى محكمة فيه (محكمة النقض)، فمحاكم النقض السورية أكدّت في أحكامها على تشديد العقوبة على المزورين المحترفين، واعتبارهم بمنزلة التهديد المباشر للاقتصاد الوطني، بينما خففت الحدّة في التعامل مع المُروجين بحسن النية، تحديداً في حال ثبت أن العملة وصلت إليهم من طرف ثالث، دون قصد أو تواطؤ منهم.
بالمحصلة، على الجهات المختصة تدريب العناصر على اكتشاف سبل التزوير والطرق لأنها في تطور دائم، وأن تتفانى بعملها في ضبط الأسواق ومراقبتها بصورة شديدة. في سياق متصل وتعقيباً على ما سبق، مراقبة تزوير العملة واكتشافها لا تقتصر على الجهات الأمنية بل تحتاج إلى تضافر الجهود والتعاون بين كل الجهات التي تتعامل بالعملات، من الأجهزة الحكومية من جهة وبين الجهات المسؤولة مباشرة عن ذلك من جهة أخرى، وهي الجهات المالية على العموم والمصرفية خاصةً، إضافةً إلى الجهات التسويقية والرقابية الأخرى، إلى جانب التعاون والتنسيق مع مؤسسات القطاع الخاص، ومنها غرف الزراعة والصناعة والتجارة.




