سياسة

سوريا والتصعيد في لبنان: حيادٌ صعب أم مواجهة محتومة؟

الكاتب: أحمد علي

قد لا يشعر المارّة في شوارع دمشق بأنّ على بعد عشرات الكيلومترات فقط، تختلج بيروت على وقع توترات قابلة للانفجار في آجال زمنية غير بعيدة. ورغم اختلاف المشهدين، تبقى سوريا ولبنان كالتوأمين السياميين سياسياً وأمنياً؛ إذا ارتفعت حرارة أحدهما احمرّ وجه الآخر. ورغم التوترات المستمرة بصورة أو بأخرى في سوريا، فلقد أنهت حربها وأطفأت نيرانها بصورة عامّة، وبدأت تلملم جراحها تحت إدارة انتقالية جديدة يقودها الرئيس أحمد الشرع. غير أنّ الرياح القادمة من الغرب تحمل رائحة التصعيد في لبنان، ما يثير سؤالاً ملحاً: هل تستطيع دمشق النأي بنفسها عن توترات ومشاكل «خاصرتها الرخوة»، أم أن قدر الجغرافيا والتاريخ سيجعلها تنغمس شاءت أم أبت؟

بدأت ملامح عهد سوري جديد بالظهور مع تأكيدات الرئيس أحمد الشرع أن سوريا لن تتدخل في شؤون لبنان، مشدداً على أن عهداً جديداً قد بدأ بعيداً عن الحالة الطائفية. تبدو هذه التصريحات كأنها وعدٌ بطيّ صفحة عقود من النفوذ السوري العميق في السياسة اللبنانية. ولكن كما حمل التاريخ في طياته دروساً مريرة، فإن تعقيدات الواقع تُظهر أن سياسة «النأي بالنفس» قد تصطدم باختبار قاسٍ إذا انزلق لبنان إلى دوامة صراع جديدة.

خطوط تماس سوريا المباشرة مع التصعيد في لبنان

يدرك صانع القرار في دمشق أن مصير سوريا ولبنان متشابك عبر خطوط تماس مباشرة عديدة. هناك جغرافيا مشتركة بحدود تمتد حوالي 330 كيلومتراً بين البلدين، وهي حدود ظلت غير مرسّمة بالكامل منذ عقود وتشكل ممراً للبشر والبضائع وحتى التهريب. هذه الحدود ليست مجرد خط على الخريطة؛ فهي شريان حياة اقتصادي واجتماعي، لكنها أيضاً مصدر محتمل للفوضى إن اشتعل الوضع في لبنان. إنّ أي تصعيد في لبنان سيجعل هذه الحدود خط تماس ملتهب: قد تصبح معبراً للاجئين الفارين من نار الصراع، وممراً لارتدادات أمنية يمكن أن تتسلل عبر الجبال والوديان إلى الداخل السوري.

على جانب آخر، يتداخل النسيج السكاني والاقتصادي بين البلدين. مئات الآلاف من السوريين يعيشون في لبنان منذ سنوات الحرب، كما أن قسماً من اللبنانيين يرون في سوريا عمقاً عائلياً واجتماعياً لهم. وحين تهب عاصفة الاضطراب في بيروت، فإن دمشق مهددة برذاذها حتماً. ولقد شهدنا سابقاً كيف أن الحرب ليست شأناً داخلياً معزولاً: خلال حرب تموز 2006 بين حزب الله وكيان الاحتلال الإسرائيلي، نزح نحو 250 ألف لبناني إلى سوريا بحثاً عن الأمان. في تلك الأزمة فتحت سوريا أبوابها للأشقاء اللبنانيين، واستقبلت عشرات الآلاف منهم في المنازل والمخيمات المؤقتة حتى انقشاع غبار المعارك. واليوم، إن عاد شبح الحرب الأهلية أو المواجهة المسلحة في لبنان، فسيكون على سوريا الاستعداد لسيناريو مشابه وربما أشد وطأة، في وقت لا تزال فيه تتعافى من حربها الطويلة.

أمن الحدود وسيناريوهات الفوضى

تشترك سوريا ولبنان في حدود طويلة ذات تضاريس معقدة تشمل جبالاً وودياناً ومسالك وعرة، ما جعلها تاريخياً مناطق تسلل وتهريب في الاتجاهين. خلال سنوات الفوضى السورية، تسرب مقاتلون وأسلحة عبر الحدود اللبنانية، كما انتقلت عدوى العنف إلى مناطق حدودية مشتركة. أما الآن، فالمعادلة انعكست: أي توتر أمني أو مواجهات في لبنان قد يدفع جماعات مسلحة أو عناصر متطرفة لمحاولة استغلال الحدود للفرار أو التموضع، ما يضع أمن الحدود السورية أمام اختبار جديد. على سبيل المثال، إذا تصاعد الصدام بين الجيش اللبناني وحزب الله – وهو السيناريو الذي لم يعد ضرباً من الخيال مع تكليف الحكومة اللبنانية الجيش وضع خطة لنزع سلاح الحزب – فقد تحاول بعض المجموعات أو حتى عناصر من الحزب نفسه إيجاد ملاذ أو خطوط إمداد عبر الأراضي السورية (إن لم تكن موجودة أصلاً).

ستكون دمشق حينها مضطرة لاتخاذ إجراءات صارمة لمنع تسرب الفوضى. وقد بدأت بالفعل خطوات استباقية في هذا الصدد، إذ اتفق الجانبان السوري واللبناني على التعاون في تأمين الحدود البرية ومتابعة ترسيمها لمنع التهريب. وهذا التعاون الأمني يأتي إدراكاً بأن انفلات الحدود يعني فتح أبواب غير مرغوبة لكلا البلدين.

لكن السيطرة على حدود طويلة ووعرة أثناء أزمة إقليمية ليست مهمة سهلة. فمع احتمال انشغال الجيش اللبناني بصراعات داخلية، قد يقع عبء ضبط الحدود أكثر على الجانب السوري. ورغم أن القوات السورية الجديدة ما زالت تعيد تنظيم صفوفها بعد سنوات الحرب، سيكون عليها الانتشار بحذر على التخوم الغربية لمنع تسلل السلاح والمسلحين.

ومن المفارقات أن دمشق التي عانت لسنوات من تسريب المقاتلين والذخائر من وإلى لبنان، قد تجد نفسها اليوم مطالبة بسد المنافذ أمام تدفق معاكس يأتيها من فوضى محتملة في لبنان. وانتشار الفوضى قد يشمل أيضاً تزايد عمليات التهريب للأدوية والوقود وحتى المخدرات عبر الحدود مستغلّة انشغال الأجهزة اللبنانية، مما ينعكس مباشرة على أمن المجتمع السوري وصحته. وبالتالي، فإن اختبار الحدود سيكون من أولى التحديات أمام سياسة النأي بالنفس السورية، إذ سيستلزم تدخّلاً وقائياً لضبط الأمن الحدودي، وهو تدخل وإن كان داخل الأراضي السورية إلا أنّه ناجم عن التصعيد في لبنان نفسه.

تدفق اللاجئين وضغط إنساني متبادل

في العقد الماضي، كان لبنان ملجأً لمئات الآلاف من السوريين الهاربين من الحرب، حتى وصل عدد اللاجئين السوريين في لبنان إلى زهاء 800 ألف مسجل رسمياً (ويُقدّر أن العدد الفعلي يفوق ذلك بكثير). شكل هؤلاء ضغطاً هائلاً على موارد لبنان واقتصاده المتعثر، حتى بات اللبنانيون يعتبرون عودة السوريين إلى بلدهم أولوية قصوى للتخفيف عن كاهلهم. ومع بداية الاستقرار النسبي في سوريا، أعربت دمشق عن ترحيبها بعودة كل مواطن سوري إلى وطنه، بل وبادرت بالتنسيق مع بيروت لوضع هذا الملف على الطاولة بجدية.

بيد أن اندلاع التصعيد في لبنان سيقلب مشهد اللجوء رأساً على عقب. فمن جهة، سيجد اللاجئون السوريون أنفسهم عالقين في أتون أزمة جديدة، مما قد يدفع كثيرين منهم إلى العودة العاجلة إلى سوريا هرباً من خطر أمني أو انهيار معيشي في لبنان. عودة كهذه – إن حدثت بشكل جماعي وفجائي – ستضع المؤسسات السورية أمام تحدٍ لوجستي وإنساني كبير في تأمين السكن والخدمات وفرص المعيشة للعائدين، رغم نوايا الشرع الحازمة لحل الملف بشكل «حاسم».

من جهة أخرى، لا يمكن استبعاد احتمال تدفق لاجئين لبنانيين إلى سوريا طلباً للأمان المؤقت كما جرى في محطات سابقة. لقد شهدنا عام 2006 كيف تحولت سوريا إلى ظهرٍ حانٍ لعائلات لبنانية هربت من القصف ولجأت إلى مدن سورية خلال أيام معدودة. ومع أن الظروف اليوم مختلفة وسوريا نفسها منهكة، فإن وشائج القربى والتاريخ تعني أن أبواب دمشق قد تُفتح مجدداً لاستقبال جيرانها عند الشدّة، وخاصة في المناطق الحدودية كريف حمص ودمشق التي يمكن أن تستقبل النازحين من قرى البقاع أو الجنوب اللبناني.

هذا الضغط الإنساني المتبادل يضع سياسة النأي بالنفس السورية على المحك. فاستقبال نازحين لبنانيين أو إعادة توطين آلاف اللاجئين السوريين العائدين هو مسألة لا فكاك منها، حتى إن تجنبت دمشق التورط السياسي أو العسكري. ستكون سوريا بحاجة للتنسيق العاجل مع المنظمات الدولية لتجنب كارثة إنسانية على أراضيها في حال تدهور الوضع اللبناني، ما يعني دخولها – شاءت أم أبت – في صميم الأزمة ولكن من بوابة إنسانية هذه المرة.

اقتصاد مترابط تحت التهديد

لا يقتصر تأثير التصعيد اللبناني المحتمل على الجوانب الأمنية والإنسانية، بل يمتد عميقاً إلى الشرايين الاقتصادية المشتركة. تاريخياً، كان الاقتصادان السوري واللبناني متداخلين إلى حد بعيد، حتى في ظل العقوبات والعزلة التي عاناها السوريون في سنوات الحرب؛ إذ مثّل لبنان رئةً مالية وتجارية لسوريا عبر عمليات التهريب والشبكات المصرفية وتجارة السلع. واليوم، بعد سقوط النظام السابق في دمشق، تنفس الاقتصاد السوري الصعداء مع انفتاح إقليمي ودولي كبير تجاه سوريا الجديدة، وتدفقت الوعود بالاستثمار والمساعدات لإعادة الإعمار. غير أن لبنان بقي غائباً عن قطار التعافي هذا، مثقلاً بأزمته المالية والسياسية. ولعل المفارقة تكمن في أن استقرار لبنان وتعاونه بات ضرورة أيضاً لتعافي سوريا، بحيث يصبح منصة لإعادة الإعمار بدل أن يكون عبئاً.

في اللقاءات الأخيرة بين المسؤولين من البلدين، طُرح بوضوح ملف الودائع السورية في المصارف اللبنانية. فالسوريون – أفراداً ومؤسسات – كانوا يحتفظون بمدّخرات في بنوك بيروت المأزومة، وعندما انهار النظام المصرفي اللبناني وجد السوريون أموالهم محجوزة بلا أمل قريب في استعادتها. والرئيس أحمد الشرع ناقش هذا الأمر مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي مطلع 2025 بحثاً عن مخرج. وإذا ما انفجر الوضع أمنياً في لبنان، فسيعني ذلك تبخر أي احتمال لاسترجاع تلك الودائع في المدى المنظور، لتُمنى شريحة واسعة من السوريين بخسائر مالية كبيرة تزيد من صعوباتهم الاقتصادية.

كذلك، إن الفوضى في لبنان قد تقطع ما تبقى من أوصال تجارية بين البلدين. فعمليات الاستيراد والتصدير البرية عبر لبنان ستتوقف حتماً إذا انعدمت السيطرة على الطرق الدولية أو دُمّرت المرافق الحيوية. ومما لا شك فيه أن مرفأ بيروت، الذي كان المنفذ البحري الثاني لسوريا خلال الحرب حين ضُيق الخناق على موانئها، سيخرج من المعادلة إذا عمّ الاضطراب. أضف إلى ذلك أن التهريب عبر الحدود – رغم كونه ظاهرة سلبية – كان يغذي الأسواق السورية بسلع أساسية كالوقود خلال الأزمات؛ وهذا الآخر سيتوقف أو سيتخذ منحى أشد خطورة مع تحول المناطق الحدودية إلى ساحات قتال أو نفوذ لمجموعات خارجة عن القانون.

باختصار، الاقتصاد السوري اللبناني المشترك كالجسد الواحد: إذا اشتكى منه عضو في بيروت تداعى له عضو في دمشق بالسهر والحمّى. وأي انهيار إضافي في لبنان سيقوّض المكاسب الاقتصادية التي تأمل سوريا تحقيقها من مرحلة السلم. بل إن إعادة الإعمار السورية نفسها ستتأثر سلباً؛ إذ كان مأمولاً أن يشارك اللبنانيون بخبراتهم ورؤوس أموالهم في هذه العملية، لا سيما وأن لبنان يمتلك قطاعاً مصرفياً وتجارياً ومقاولين مهرة. ولكن لا إعمار في ظل نار مستعرة؛ فسوريا لن تستطيع استقدام استثمارات كبرى إلى منطقة مضطربة إقليمياً، ما يجعل استقرار لبنان شرطاً غير مباشر لجذب المستثمرين إلى سوريا أيضاً.

حزب الله ومعضلة المواجهة غير المباشرة

يشكل حزب الله بُعداً خاصاً في مشهد التوتر اللبناني، وهو في الوقت ذاته عقدة العلاقة السورية اللبنانية الجديدة. فالحزب الذي كان حليفاً وثيقاً لنظام بشار الأسد، انقلبت الآية معه بعد سيطرة قوات المعارضة المسلحة على دمشق؛ إذ بات ينظر بعين الريبة إلى الإدارة السورية الجديدة بقيادة الشرع نظراً لخلفيتها المناهضة لنفوذ إيران نظرياً.

ورغم تأكيدات الشرع أن سوريا ستقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف في لبنان، فإن الواقع أكثر تعقيداً: التصعيد في لبنان – وخاصة إذا تمحور حول مواجهة بين الدولة اللبنانية وحزب الله – سيضع دمشق أمام معضلة صعبة. هل تلتزم الحياد التام فتتجنب إغضاب أي طرف، أم تنحاز ضمنياً إلى الدولة اللبنانية التي يحظى رئيسها الجديد جوزيف عون بعلاقات إيجابية مع سوريا، في مسعى لدعم استقرار لبنان ووحدته؟

لا شك أن كثيراً من العواصم الإقليمية والدولية تراقب موقف دمشق من حزب الله عن كثب. حتى أن تقارير صحفية أفادت بوجود ضغوط أو «إغراءات» تدفع الشرع إلى تشكيل تحالف ضد حزب الله بدعم من قوى عربية وغربية. بطبيعة الحال، تنفي دمشق رسمياً أي انخراط في ترتيبات تستهدف فريقاً لبنانياً بعينه، وتصر على أنها لن تكون ساحة لتصفية حسابات إقليمية. ومع ذلك، تبقى التحركات السورية على الأرض مثار تأويل. فمثلاً، تشديد الجيش السوري الرقابة على الحدود قد يُفسر بأنه حصار على خطوط إمداد حزب الله أو منع لفرار مطلوبين، ما يعني انحيازاً عملياً لصالح الدولة اللبنانية في معركتها مع الحزب، حتى لو التزمت دمشق خطاباً حيادياً، لكن ما الذي أمام دمشق لتفعله غير ذلك؟

على الجانب المقابل، يُدرك صانع القرار السوري أن الانخراط ضد حزب الله ينطوي على مخاطر جسيمة. فالحزب ليس مجرد طرف لبناني؛ إنه امتداد لنفوذ إيران الإقليمي، وقد يحتفظ بخلايا أو حلفاء داخل سوريا نفسها يمكن أن يحركهم إذا شعر بأنه مهدد من الشمال. فأي مواجهة مباشرة أو غير مباشرة معه قد تفتح أبواب جهنم على دمشق من جديد، بحسب ما حذّر به بعض المراقبين. فيما يرى البعض أن الرئيس الشرع يدرك أن مؤسساته الوليدة ليست مستعدة لعداء مع قوة عقائدية مدربة كحزب الله، لاسيما أن سوريا لا تزال تواجه تحديات تثبيت الأمن داخلياً.

من هنا تبدو المواجهة غير المباشرة هي السيناريو الأخطر من وجهة نظر بعض المحللين: كأن يجد الطرفان نفسيهما في حرب باردة تتخللها عمليات أمنية خفية واغتيالات متبادلة على الأرض السورية أو اللبنانية، بعيداً عن الأضواء. وهذا -من وجهة نظرهم- كابوس يرغب الشرع بتجنبه قطعاً كي لا يقوّض حلم الاستقرار الوليد في بلده.

سياسة النأي بالنفس واختبار النار

عند قراءة كل ما سبق، يبدو جلياً أن سياسة النأي بالنفس التي ترفعها سوريا الجديدة شعاراً ستواجه امتحاناً عسيراً إذا تصاعد التوتر إلى نزاع مفتوح في لبنان. لقد حاول الرئيس الشرع رسم ملامح نهج مختلف عن حقبة الوصاية القديمة، وأكد بنفسه أن سوريا لن تتورط في صراع جديد وتركز على إعادة البناء واستقرار الدولة بعد حرب طويلة. هذه المقاربة الواقعية تنبع من إدراك عميق لوهن الداخل السوري وحاجته الماسة إلى التقاط الأنفاس بعيداً عن نيران الإقليم. فدمشق لا تريد تكرار أخطاء الماضي حين أُنهكت باشتباكها في تفاصيل الساحة اللبنانية لعقود.

لكن بين الرغبة والواقع مسافة ليست بالقصيرة. فعوامل الجغرافيا والديمغرافيا والأمن تجعل من الحياد السوري الكامل تجاه أزمة كبرى في لبنان أمراً شبه مستحيل. تستطيع دمشق أن تحجم عن إرسال جيشها أو استخباراتها للانخراط المباشر لكنها لا تستطيع منع التأثيرات غير المباشرة من التسلل إلى ساحتها. ولعلّ ما صرّح به الشرع عن حل المشاكل عبر التشاور والحوار والوقوف على مسافة واحدة من الجميع يعبّر عن نية حقيقية لتجنب الانحياز، غير أن النأي بالنفس في سياق كهذا أشبه بالسير على حبل مشدود: خطوة غير محسوبة قد تخلّ بالتوازن. فإن غضّت سوريا الطرف تماماً عما يجري في لبنان، واتخذت مقعد المتفرج، فهي تخاطر بأمنها ومصالحها المباشرة كما رأينا. وإن تدخلت أكثر من اللازم تحت أي ذريعة – ولو دبلوماسياً أو اقتصادياً – فهي تُتهم بكسر تعهدها والعودة إلى أسلوب الهيمنة القديمة.

من المرجح أن تسعى القيادة السورية إلى حلول وسط تجنبها نار الفتنة وتحمي في الوقت ذاته حدودها ومصالحها. وقد تشمل هذه السياسة تكثيف التنسيق مع السلطات اللبنانية الشرعية والأمم المتحدة لضبط الحدود ورعاية اللاجئين، والقيام بجهود وساطة خفية بين الفرقاء اللبنانيين إن أمكن، وتجنّب التصريحات الاستفزازية التي قد تُفسر دعماً لطرف ضد آخر. ولعلّ ما رشح مؤخراً عن تلويح دمشق بتصعيد دبلوماسي واقتصادي ضد بيروت لحل قضية المعتقلين السوريين يؤكد أنها ستحاول استخدام أدوات الضغط الناعمة لحماية رعاياها ومصالحها دون الانجرار إلى مواجهة عسكرية. فقد تحدثت مصادر عن دراسة خطوات تشمل تجميد بعض القنوات الأمنية والاقتصادية مع لبنان ما لم يستجب لمطالب دمشق بشأن معتقليها. مثل هذه الإجراءات إن نُفذت ستكون إشارة واضحة على أن سوريا لن تقف مكتوفة الأيدي حين تُمس مصالح شعبها، لكنها في الوقت نفسه حريصة على إبقاء التصعيد في حدوده الدبلوماسية وعدم تفجيره إلى صدام مفتوح.

في المحصلة، يبدو موقف سوريا أشبه بمن يحاول تفادي السير بين قطرات المطر في عاصفة عاتية. النجاح الكامل في النأي بالنفس عن التصعيد اللبناني قد يكون طموحاً صعب المنال، لكن بالمقابل فإن الانزلاق إلى مستنقع الأزمة المجاورة ليس خياراً مقبولاً لدمشق أيضاً. وبين هذا وذاك، سيستمر القلق سيد الموقف كلما لاح في الأفق غمام داكن فوق جبال لبنان. وما تأمله سوريا والسوريين حقاً هو أن تنقشع تلك الغيوم عن سماء جارتها قبل أن تمطر ناراً وباروداً. فاستقرار لبنان جزء لا يتجزأ من استقرار سوريا، والنأي بالنفس عنها ربما أشبه بالنأي عن الذات. وفي الانتظار، يبقى سؤال البداية مفتوحاً: هل يكون حياد دمشق ممكناً حين يشتعل هشيم لبنان؟ أم أن قدر الجغرافيا سيقول كلمته الأخيرة مهما بلغت حكمة النيات؟

اقرأ أيضاً: الهجرة والتحول الديموغرافي.. كيف تغيرت خريطة سوريا ولبنان؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى