بعد مرور أكثر من ستة أشهر على سقوط نظام بشار الأسد، تتواصل الجهود في سوريا للبحث عن حلول تفتح نافذة من الأمل في وجه قطاع الصحة المتهالك، من خلال مساعٍ حكومية تهدف لتعزيز التعاون مع المنظمات الدولية، بهدف إعادة إعمار المنشآت الطبية وتحسين الاستجابة الصحية للمواطنين بعد سنوات قاسية من الحرب.
فقد خلّفت هذه السنين الطويلة في سوريا أزمة إنسانية عميقة، كان من أصعب مظاهرها النزوح الجماعي، حيث تحولت محافظة إدلب في شمال غرب البلاد إلى آخر ملاذ لآلاف السوريين الذين هربوا من مناطق القصف والدمار.
وتشير التقديرات إلى أنّ أكثر من 78,700 شخص نزحوا إلى إدلب حتى عام 2023، بعضهم وجد مأوى مؤقتاً في مخيمات ومراكز إيواء، واستقر آخرون في مخيمات حدودية مع تركيا على أمل العودة يوماً ما.
هذا الواقع المحزن الذي عاشته سوريا عموماً، فاقم من أزمة القطاع الصحي، الذي يعاني أساساً من انهيار البنية التحتية، ونقص الكوادر والمعدات، وفي شمال غرب سوريا بوجه خاص، أجبر الصراع المستمر أكثر من نصف العاملين في القطاع الطبي على مغادرة البلاد، بينما استمرت الحاجة إلى الرعاية الصحية في التزايد.
وبحسب إحصاءات عام 2023، كان نحو 3.8 مليون شخص في شمال غرب سوريا بحاجة ماسّة إلى خدمات صحية، أي ما يشكل 84% من سكان المنطقة، بزيادة تقدّر بـ25% مقارنة بالعام الذي سبقه، إذ بلغ عدد المحتاجين حينها 3.08 مليون شخص.
وزاد الزلزال الذي ضرب سوريا في شباط 2023 الأمر سوءاً ما أدى إلى تفاقم أزمة القطاع الصحي، حيث دفع نظام الرعاية الصحية في شمال غرب البلاد إلى حافة الانهيار، وخرجت حوالي ثلث المنشآت الصحية من أصل 601 مرفق عن الخدمة، بينما تعرضت 67 منشأة لأضرار مباشرة بسبب الزلزال.
اقرأ أيضاً: اتفاقية سورية تركية.. أمل جديد لمرضى السرطان والقلب في سوريا
وفي العام الماضي، حذّر مدير صحة إدلب سابقاً الدكتور زهير القراط –مدير التخطيط والتعاون الدولي في وزارة الصحة حالياً- من أن القطاع الصحي في المحافظة يمرّ بمرحلة خاصة مع استمرار تخفيض الدعم الدولي، فقد شهدت المنح المخصصة للقطاع تراجعاً ملحوظاً، بنسبة تراوحت بين 30 و50%، في وقت تتزايد فيه الضغوط على المرافق الطبية.
وما زاد من تعقيد الوضع الإنساني والصحي توقف أكثر من 60 منشأة صحية عن تقديم خدماتها بشكل كامل، من بينها تسع مستشفيات تخدم نحو مليوني شخص، كما توقف العمل في 12 مركزاً للرعاية الأولية كانت تقدم خدماتها لأكثر من 200 ألف شخص، إضافة إلى 8 مراكز للعلاج الفيزيائي تخدم قرابة 1700 مريض، وبنكي دم.
وإذا أردنا التخصيص أكثر، فإن أزمة الرعاية الصحية تفاقمت في مدينة معرة النعمان جنوب إدلب بشكل خاص، وسط دمار واسع طال البنية التحتية نتيجة سنوات الحرب، فالمستشفى الوطني فيها لا يزال خارج الخدمة منذ عام 2019، ما كان يجبر السكان على الاعتماد على المراكز الصحية الأولية رغم محدودية قدراتها.
واليوم، ومع التوقعات بعودة أعداد كبيرة من السكان تدريجياً، تزداد الضغوط على هذا القطاع بشكل مضاعف، إذ يقدّر أن يصل عدد سكان المدينة إلى نحو 100 ألف نسمة بحلول نهاية عام 2025.
وفي تقييم حديث أجرته منظمة الصحة العالمية في شباط 2025، تبيّن حجم الأضرار التي لحقت بالمستشفى الوطني، إذ تحتاج نحو 70% من مرافقه إلى إعادة تأهيل شاملة قبل أن يتمكن من استئناف تقديم خدماته الصحية.
اقرأ أيضاً: اتفاقية سورية تركية.. أمل جديد لمرضى السرطان والقلب في سوريا
جهود إنعاش القطاع الصحي في سوريا
وبالفعل منذ عدة أشهر وحتى اليوم، بدأت جهود إعادة تأهيل البنية التحتية الصحية تأخذ منحى أكثر تنظيماً، مع التركيز على المناطق المتضررة، وكانت آخر هذه الجهود يوم أمس الأحد 29 حزيران، إذ أطلقت منظمة يداً بيد للإغاثة والتنمية، مشروعاً لإعادة تأهيل مستشفى معرة النعمان الوطني وخمسة مراكز صحية أخرى، بدعم من صندوق مساعدات سوريا (AFS) وبرعاية وزارة الصحة السورية.
صندوق مساعدات سوريا هو صندوق إنساني مشترك متعدد المانحين مصمم لتلبية الاحتياجات الأساسية للسكان المتضررين من الأزمة في سوريا.
من المتوقع أن يتم الانتهاء من تجهيز المستشفى والمراكز الصحية خلال فترة قصيرة، حيث ستقدَّم فيها الخدمات الطبية مجاناً لتلبية احتياجات السكان والنازحين في المنطقة، ضمن مشروع يحمل اسم “سوريا تنهض”.
جدير بالذكر أن مستشفى معرة النعمان الوطني كان خلال سنوات الحرب هدفاً للقصف، حيث تعرّض لقصف صاروخي مباشر من قبل قوات النظام السابق أكثر من مرة وعلى مدار سنوات بحسب تقارير منظمة “أطباء من أجل حقوق الإنسان”… ورغم محاولات متكررة لإعادة تشغيله، إلا أن الدمار والظروف الأمنية الصعبة كانت تمنع المعنيين من ذلك.
اقرأ أيضاً: سوريا بعد الحرب.. القطاع الصحي مشلول والشعب يدفع الثمن!
ومن الجهود التي تم بذلها أيضاً في السياق، افتتاح مركز معرة النعمان للرعاية الصحية الأولية يوم 15 حزيران، ويمثل هذا الافتتاح خطوة مهمة لإعادة الأمل إلى سكان المنطقة، ورسالة مفادها بأن الحياة بدأت تعود تدريجياً رغم كل التحديات.
هذا المشروع يعدّ ثمرة تعاون بين وزارة الصحة والجمعية الدولية لرعاية ضحايا الحروب والكوارث “الأمين”، في إطار رؤية مشتركة تهدف إلى تعزيز جودة الخدمات الصحية وتحسين واقع الرعاية الطبية المقدّمة للمجتمعات المحلية.
يوم أمس كان حافلاً بالإنجازات، فإضافة إلى تأهيل مستشفى المعرة، تم افتتاح مركز النور لأمراض وجراحة العيون في منطقة باب الهوى ـ بابسقا بريف إدلب الشمالي، ضمن مشروع نوعي تنفّذه الجمعية الطبية السورية الأمريكية (SAMS) بالتعاون مع جمعية “نور الحياة الخيرية”، بهدف دعم خدمات الرعاية الصحية التخصصية في شمال سوريا.
وتم الإعلان عن إطلاق أقسام طبية جديدة تشمل علاج الأورام، غسيل الكلى، وجراحة زراعة القوقعة، في خطوة تعزز مستوى الرعاية المتقدمة في المنطقة، التي لطالما افتقرت إلى هذا النوع من الخدمات التخصصية.
اقرأ أيضاً: انفتاح اقتصادي متسارع بين سوريا وتركيا: مصالح مشتركة في جهود إعادة الإعمار
جهود صندوق مساعدات سوريا
يواصل صندوق مساعدات سوريا الاستثمار في برامج تهدف إلى تحسين جودة الخدمات الصحية وتوسيع نطاق الوصول إليها.
حتى الآن، قدّم الصندوق أكثر من 18.4 مليون دولار لدعم مشاريع الرعاية الصحية في شمال البلاد، وأسهم ذلك في تشغيل 65 مرفقاً صحياً، وتقديم الخدمات لنحو 1.94 مليون شخص، وتدريب 2000 من العاملين الصحيين المحليين، وتوفير أكثر من 860 ألف استشارة طبية.
كما خصص الصندوق منحة بقيمة 1.4 مليون دولار في آذار الماضي لمنظمة “يداً بيد للإغاثة والتنمية” بهدف إعادة إحياء النظام الصحي في معرة النعمان -بدأ بالفعل- المشروع يشمل إعادة تأهيل نحو 60 إلى 65% من المستشفى الوطني في المدينة، مع تحديث أنظمة التهوية والتدفئة والصرف الصحي وتحسين الإضاءة، إضافة إلى إنشاء قسم خارجي بمساحة 400 متر مربع مجهّز بكامل المعدات الطبية اللازمة.
ويمتد المشروع أيضاً ليشمل إعادة تأهيل خمسة مراكز للرعاية الصحية الأولية في مناطق سراقب، معصران، معر دبسي، أفس، ودير شرقي، وهي مناطق عانت لسنوات من قربها من خطوط التماس.
وحسب الخطة سينتهي المشروع في تشرين الثاني 2025 ليستفيد منه أكثر من 71 ألف شخصاً بمن فيهم السكان الذين يخططون للعودة إلى مناطقهم.
ختاماً، رغم التحديات تتواصل المبادرات خطوة بخطوة لإنعاش القطاع الصحي في سوريا والذي كان على شفا حفرة، في سبيل استعادة الخدمات الأساسية وبناء مستقبل أكثر استقراراً وصحة لكل السوريين.
اقرأ أيضاً: هل نحتاج «الأطباء الحفاة» للتصدي لتحديات واقع القطاع الصحي في سوريا؟