في لحظة واحدة، تحوّلت مائدة عشاء عادية لعائلة من محافظة اللاذقية إلى مأساة مؤلمة، بعد أن أودى تناولهم سمكة «البالون» السامة بحياة طفلٍ صغير، فيما لا يزال شقيقه يصارع الموت تحت العناية المركزة. حادثة مأساوية أعادت فتح باب الجدل مجدداً حول غياب الرقابة، وانتشار الجهل بخطورة هذه السمكة القاتلة، وتراخي الجهات الرقابية في التصدي لظاهرة بيعها في الأسواق.. فما التفاصيل؟ وماذا تعرف عن سمكة البالون القاتلة؟
سمكة البالون: العشاء الذي أنهى حياة طفل…
بدأت القصة عندما وصلت عائلة مؤلفة من أربعة أفراد –أب وأم وطفلان (13 و8 أعوام) – إلى المشفى الوطني في اللاذقية عصر السبت 14 أيار الجاري، وقد ظهرت على جميعهم أعراض التسمم الحاد بعد تناولهم لوجبة أُعدّت من سمكة البالون، التي تُعرف علمياً بأنها من أكثر الكائنات البحرية سمّيةً على الإطلاق.
ونظراً لخطورة الأعراض الظاهرة، نُقلت العائلة على وجه السرعة إلى أقسام الطوارئ وفق ما أكده مصدر طبي في مديرية الصحة باللاذقية. ورغم كل محاولات الإسعاف، فارق الطفل الأصغر الحياة بعد ساعات من وضعه على جهاز التنفس في مشفى الأطفال والتوليد، بينما ما تزال حالة شقيقه الأكبر حرجة وتحت المراقبة الدقيقة في قسم العناية المشددة. أما الوالدان، فتشير المعلومات إلى أن حالتهما الصحية مستقرة حالياً.
معلومات مغلوطة تودي بالأرواح
وفيما يتعلق بكيفية وصول السمكة إلى مائدة العائلة، بيّن المصدر الطبي أن الأب نفسه يعمل في مهنة الصيد، وقد حصل على السمكة من أحد الصيادين المحليين. وعلى ما يبدو، وقع ضحية لمعلومة متداولة خطأً بين بعض الصيادين، وهي أن تقطيع السمكة وغسلها جيداً وطهوها يزيل سميّتها. لكن الحقيقة، بحسب المصدر، أن المادة السامة التي تحتويها –وهي التترادوتوكسين– لا تتأثر بالطهو أو التنظيف، بل قد تنتشر داخل لحم السمكة من غددها السامة حتى بعد الطهي.
هذه المادة تُعد واحدة من أقوى السموم الطبيعية، وتؤثر بشكل مباشر على الجهاز العصبي وتسبّب شللاً تصاعدياً قد يصل إلى العضلات التنفسية، ما يؤدي إلى الوفاة في حال لم يتم التدخل الطبي الفوري.
تحذيرات صحية
ردّاً على الحادثة، أصدرت مديرية صحة اللاذقية بياناً رسمياً حذّرت فيه من تناول هذا النوع من الأسماك، مؤكدة أنها تشكل تهديداً مباشراً على الحياة. وأوضحت المديرية أن هذا التحذير ليس جديداً، بل يتكرر سنوياً بعد تسجيل إصابات مماثلة، إلا أن المشكلة تكمن في غياب التوعية المجتمعية الكافية، وتكرار تداول السمكة رغم الحظر المفروض عليها.
وشدّد البيان على ضرورة الامتناع تماماً عن شراء سمكة البالون سواء كانت كاملة أو مقطّعة، وخاصة من الباعة الجوالين الذين لا يخضعون لأي رقابة أو إشراف صحي.
ممنوعات قانونية ومحاسبة للمخالفين
من جهة أخرى، أكد المصدر أن بيع أو تداول سمكة البالون محظور رسمياً من قبل الهيئة العامة للثروة السمكية ومديرية حماية المستهلك، وأي جهة تقوم ببيعها تُعرّض نفسها للمساءلة القانونية. كما يُمنع اصطيادها أو إعادة طرحها في السوق بأي شكل، إذ يُفترض بالصائدين التخلص منها فور ظهورها في شباكهم، إما بإتلافها أو بإعادتها إلى المياه فوراً.
تعيد هذه الحادثة المأساوية إلى الواجهة أحد أهم أسباب استمرار هذه الكوارث: مزيج قاتل من الجهل المنتشر بين العامة حول أنواع الأسماك، والرغبة في شراء الأسماك الأرخص ثمناً، وانعدام الضمير لدى بعض الصيادين الذين يبيعون هذه السمكة رغم معرفتهم بخطورتها. إضافة إلى ذلك، فإن الجهات الرقابية لا تزال تتعامل مع هذه القضايا برد فعل مؤقت، بدلاً من حملات توعية واسعة ورقابة صارمة وطويلة الأمد.
سمكة البالون
تُعرف سمكة البالون، أو كما يسميها البعض «السمكة المنتفخة» أو «الفوغو»، بأنها من أخطر الكائنات البحرية على الإطلاق رغم مظهرها اللطيف والمضحك أحياناً. هذه السمكة، التي تنتفخ عند الإحساس بالخطر لتصبح مثل كرة مزوّدة بأشواك، تحتوي في داخلها على سرّ مميت: مادة سامة تُدعى «التترادوتوكسين»، وهي مادة كيميائية عصبية قاتلة تفوق سمّيتها الزرنيخ والسيانيد بآلاف المرات، ولا يوجد لها ترياق معروف حتى اليوم.
تتوزع هذه المادة في أنحاء مختلفة من جسم السمكة، لكنها تتركّز غالباً في الكبد والمبيضين والجلد وأحياناً حتى في اللحم نفسه. الخطير في الأمر أن السم لا يختفي لا بالغسل ولا بالتجميد ولا حتى بالطهي، بل يبقى فعّالاً ويستطيع الانتقال من الغدد السامة إلى الشرائح اللحمية أثناء التحضير، مما يجعل أي محاولة لطهو هذه السمكة بمثابة مجازفة مميتة.
تبدأ أعراض التسمم بعد تناولها بفترة قصيرة، عادة ما بين 30 إلى 60 دقيقة، وتشمل تنميلاً في الشفاه والوجه، ودواراً وغثياناً، ثم تتطوّر إلى شلل عضلي تدريجي قد يصل إلى عضلات التنفس، مما يؤدي إلى فشل تنفسي حاد قد ينتهي بالموت إذا لم يُقدّم دعم تنفسي فوري.
وفي بعض البلدان، مثل اليابان، يُسمح بتناول سمكة «الفوغو» ضمن شروط صارمة جداً، ويُطلب من الطهاة الخضوع لتدريب طويل واختبارات صارمة للحصول على رخصة تسمح لهم بإعدادها.
ختاماً، إن حادثة وفاة الطفل في اللاذقية ليست الأولى من نوعها في سوريا، وقد لا تكون الأخيرة إن استمر التهاون الرقابي والجهل الشعبي بهذه المخاطر، فالتهاون فخ قاتل ويكلّف أرواحاً بريئة، كما ظهر في هذه القصة المؤلمة.
اقرأ أيضاً: إنعاش قطاع الثروة السمكية في سوريا.. خطة لإنتاج 10 ملايين إصبعية