مقال رأي/ سمير سعيفان
في وقتٍ تُعيد فيه سوريا رسم ملامحها الاقتصادية بعد سقوط سلطة الأسد، وتتهيأ لمرحلة إعادة الإعمار وسط وعودٍ عالمية باستئناف الدعم الدولي، تبرز الحاجة إلى أصوات خبيرة وواقعية تُعيد النقاش إلى جذوره: ما هي الخيارات الفعلية للاقتصاد السوري؟ ما الذي يمكن إنقاذه من مؤسسات الدولة المنهارة؟ وكيف يمكن توجيه استثمارات الخارج وطاقات السوريين في الداخل والشتات لإنهاض بلد دُمّر لعقود؟
في هذا السياق، يُمثّل رأي الخبير الاقتصادي سمير سعيفان مرجعية مهمة، ليس فقط بسبب خلفيته البحثية والمهنية، بل لأنه من القلائل الذين عاينوا التجربة من داخل لجان التخطيط ومحاولات الإصلاح الاقتصادي في العقدين الماضيين. ولذلك نعيد في هذا النص نشر حوار مطوّل أجرته معه صحيفة «العربي الجديد» ضمن ملحق «سورية الجديدة» بتاريخ 27 أيار 2025، وحاوره الصحفي عماد كركص. حيث يقدم سعيفان رؤية متكاملة حول العقوبات، وإعادة الإعمار، والخصخصة، وهوية الاقتصاد السوري، والفرص الكامنة في القطاعات المنتجة، وأولويات المواطن بعد سنوات من التهميش والانهيار.
سعيفان عن رفع العقوبات: كسر العزلة وفتح النوافذ
يرى سعيفان أن رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية، يشكل لحظة حيوية للاقتصاد السوري، موضحاً أن ما فرض بعد 2011 كان مدمراً، إذ حاصر البلاد وجعلها طاردة للاستثمار، ورفع معدلات الفقر إلى 80 بالمئة. ويضيف أن العقوبات عطلت التجارة، والاستيراد، والتحويلات المالية، وجعلت الحياة اليومية شبه مستحيلة لمعظم السوريين.
لكنه يشير إلى أن القرار الأمريكي ما زال بحاجة لتشريعات تنفيذية، لا سيما من الكونغرس، مبيّناً أن الرئيس يمكنه تجميد العقوبات، لكنه لا يملك سلطة إلغاء ما فرضه الكونغرس. في هذا الإطار، يرى سعيفان أن التفاوض جارٍ داخل المؤسسات الأمريكية، لكن منطق «العقوبات تُفرض بسهولة وتُرفع بصعوبة» لا يزال حاضراً، ما يستوجب المتابعة الدقيقة للمرحلة المقبلة.
الخصخصة: التسرع خطرٌ على الثروة الوطنية
يحذر سعيفان من خصخصة القطاع العام على نحو مرتجل، ويرى أن الدولة تمتلك نحو 250 منشأة لا يجوز التخلي عنها من دون دراسة. ويؤكد ضرورة الحفاظ على قطاعات مثل النفط والكهرباء والتعليم والصحة في يد الدولة، مع إمكانية فتح المجال أمام القطاع الخاص في الصناعات الغذائية والنسيج وغيرها.
ويُعيد التأكيد أن الاقتصاد السوري لم يكن اشتراكياً بالمعنى الحقيقي، بل كان «اقتصاد محاسيب» تتحكم به الدولة وأذرع السلطة الأمنية والمالية، مشدداً على ضرورة رسم نموذج اقتصادي جديد يُراعي دور الدولة كمنظم وضامن للعدالة، دون أن تُمارس الهيمنة.
كما يرى سعيفان أن إعادة الإعمار لا يمكن أن تتم بالاعتماد على القروض فقط، لأن لا جهة قادرة على منح سورية 100 إلى 150 مليار دولار. ويطرح بدائل عملية، منها المساعدات الخليجية النقدية والعينية، واستثمارات السوريين في الخارج، ودور محدود للبنك الدولي وصناديق التنمية العربية.
المفتاح هنا، حسب رأيه، هو الإدارة الرشيدة ومحاربة الفساد، وخلق بيئة استثمارية قائمة على الشفافية وسيادة القانون، وهو ما يبحث عنه المستثمرون في أي بلد يريد جذب الأموال.
القطاعات القادرة على تحقيق قفزة سريعة
يرى سعيفان أن الاقتصاد السوري ما زال يمتلك عناصر قوة، أبرزها القطاعات التقليدية مثل النسيج والزراعة، إلى جانب قطاعات جديدة منخفضة الكلفة لكنها عالية العائد مثل البرمجيات والتصميم الهندسي.
كما يلفت إلى أهمية الاستثمار في الموقع الجغرافي عبر مشاريع النقل و«الترانزيت»، بالإضافة إلى السياحة الدينية والثقافية، التي لم تُستثمر بجدية رغم غِناها وتنوعها.
الأم الآخر الذي يشير سعيفان إلى أهميته هو رغبة شريحة كبيرة من السوريين المغتربين في العودة للاستثمار، لكنه يذكّر أن الوطنية وحدها لا تكفي، بل يحتاج المستثمر إلى بيئة مستقرة وشفافة. ويقترح ما يسميه:
«تمييزاً إيجابياً» لحماية المستثمرين المحليين من الشركات الكبرى القادمة من الخارج.
أولويات المواطن: الكرامة والحد الأدنى من الحياة
يحدد سعيفان بوضوح أن أولويات السوريين هي:
«دخلٌ كافٍ، مدرسة، فرصة عمل، وسكن كريم»
مع تأكيده على ضرورة تمهيد الطريق لعودة النازحين واللاجئين من خلال تحسين البنية التحتية وتوفير فرص العمل في الداخل.
ويحمّل سعيفان الإدارة الجديدة مسؤولية ثقيلة، خصوصاً في ظل انعدام الموارد الحالية بعد أن بدّد النظام السابق الاحتياطيات، واستخدمها لتمويل الحرب.
يقترح أيضاً فتح حوار وطني مجتمعي، يكون نقطة انطلاق لتحديد الأولويات، وبناء رؤية جامعة تحفّز المجتمع الدولي على دعم سورية بثقة.
تشريح لهوية الاقتصاد السوري منذ الاستقلال
يستعرض سعيفان تاريخ الاقتصاد السوري منذ الاستقلال، بدءاً من اقتصاد السوق النشط قبل 1958، مروراً بالتأميم وسيطرة الدولة في الستينات، ثم مرحلة «رأسمالية الدولة» التي دمجت الخاص والعام.
ويقول إن الاقتصاد السوري في عهد بشار الأسد لم يتحول فعلياً إلى «اقتصاد سوق اجتماعي» بل إلى اقتصاد نيوليبرالي ريعي يخدم المتنفذين، متهماً عبد الله الدردري بأنه روّج لمصالح رامي مخلوف أكثر من مصالح البلاد.
ويتحدث سعيفان بصراحة عن كيفية طرد النظام السابق لكبار المستثمرين، مثل مجموعة الخرافي، بسبب الفساد والمحسوبيات. ويشدّد على أن عودة هؤلاء اليوم، ضمن بيئة جديدة وخطة وطنية، ستكون خطوة فارقة.
ويدعو سعيفان إلى بناء اقتصاد سوق حر، يسمح بحرية الدخول والخروج من السوق، وحرية تشكيل الأسعار، لكنه في الوقت نفسه يحافظ على الدور الاجتماعي للدولة من خلال إعادة توزيع الدخل، والحد من الفوارق الطبقية، وتشجيع التوازن بين القطاعين العام والخاص.
هل تكفي الموارد السورية وحدها؟
الإجابة المختصرة هي: نعم.
يختم سعيفان بالتأكيد على أن الموارد السورية قادرة على بناء اقتصاد قوي، إذا ما أُديرت بكفاءة وشفافية. ويذكّر بأن سورية في الخمسينيات كانت من بين دول الريادة في المنطقة، وتملك اليوم كلّ مقومات النهوض مجدداً إذا توافرت الإدارة الرشيدة.
اقرأ أيضاً: مصطفى عيسى: نريد لسوريا أن تستعيد أبناءها عبر مشاريع ذكية لا شعارات
اقرأ أيضاً: “قنديل أم هاشم”: مرآة الصراع من القاهرة إلى دمشق