الكاتب: أحمد علي
بين دعوة لافروف التي لم يُعلَن بعد عن موعد تلبيتها، ومشاركة مرتقبة في أول قمة عربية–روسية، تبدو دمشق أمام مفترق خيارات يعيد رسم شكل علاقتها مع موسكو: فهل سيلبي الشيباني دعوة موسكو قريباً؟! وهل تمهّد القمة المقررة في تشرين الأول لعودة تدريجية لسوريا إلى المشهد الإقليمي والدولي؟ في الوقت ذاته، يفتح قرار إلغاء عقد مرفأ طرطوس الموقّع مع شركة روسية نافذة الباب أمام تساؤلات أكبر: هل دخلت الاتفاقات الاقتصادية بين البلدين مرحلة إعادة تقييم جذرية؟ وكيف تقرأ موسكو الانسحاب الفعلي من قاعدة حميميم في ظل تمسّكها بطرطوس؟ وما بين سعي القيادة السورية الجديدة لإعادة التوازن في شراكاتها الدولية، ورغبتها بالانفتاح على الجميع شرقاً وغرباً، يبقى السؤال الأهم: هل نحن أمام علاقة سورية–روسية أكثر نضجاً واستقلالية، أم أمام بداية قطيعة ناعمة تُدار بحذر خلف الأبواب المغلقة؟
دعوة الشيباني إلى موسكو
في أواخر أيار 2025، أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن نظيره السوري أسعد الشيباني تلقى دعوة رسمية لزيارة موسكو، استجابةً لاقتراح تركي وبدعم دبلوماسي روسي. لاحقاً، أكّد ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي، أن دعوة الشيباني ما زالت مطروحة، وهم ينتظرون اقتراح موعد رسمي من دمشق، واصفاً الحال بأن «كل شيء يسير بشكل جيد حتى الآن».
أول قمة عربية – روسية في أكتوبر…
بالتوازي، وقبل أيام، أعلن الكرملين رسمياً عزمه توجيه دعوة للقيادة السورية لحضور القمة الروسية–العربية الأولى المقررة منتصف تشرين الأول من العام الجاري 2025. وهذه القمة تمثل محطة دبلوماسية مهمة لإعادة تموضع دمشق في إطار عربي–روسي. وحضور الشيباني شخصياً أو وفد سوري رسمي كبير سيعزز من حضور سورية بين الدول العربية من جهة، وسيمثل دفعة عالية للعلاقة السورية مع روسيا من جهة أخرى.
إنهاء عقد مرفأ طرطوس
وقبل ذلك، صدر قرار يقضي بإلغاء عقد الاستثمار الموقّع عام 2019 مع الشركة الروسية STG، والذي منحها حق إدارة ميناء طرطوس لـ 49 عاماً، وذلك بالاستناد إلى بنود قانونية من اتفاقية فيينا لعام 1969 التي تنظّم العلاقات التعاقدية بين الدول والشركات الدولية. وفي البيان الرسمي الصادر عن الحكومة السورية الحالية قيل إن العقد «مجحف» ومخالف للسيادة السورية، مع الإشارة إلى أن الشركة الروسية «فشلت في تحديث البنى التحتية فعلياً».
وكشفت مصادر مطلعة على سير القرارات الاقتصادية الجديدة في دمشق عن كواليس إلغاء عقد الاستثمار الموقع مع شركة روسية كانت تتولى تشغيل مرفأ طرطوس، مؤكدة أن القرار جاء نتيجة تراكم إخلالات قانونية وفنية ومالية، إضافة إلى ارتباط الشركة بأوساط نافذة في النظام السابق.
وأشارت المصادر، وفق ما نقلته تقارير إعلامية متقاطعة، إلى أن الشركة الروسية “STG-Stroytransgaz“، التي أبرمت الاتفاق عام 2019، كانت نصف أسهمها مملوكة لـ «مجموعة القاطرجي»، وهي مجموعة أعمال سورية كان يديرها محمد براء القاطرجي.
وأوضح المصدر أن الخطوة السورية لا تعني بأي حال توتراً في العلاقات بين موسكو ودمشق، بل تعكس توجهاً لإعادة تنظيم العلاقة مع الشركات الخاصة التي فشلت في الوفاء بالتزاماتها، خصوصاً تلك التي وُصفت بأنها واجهة لفساد سياسي أو مالي، مشيراً إلى أن دمشق لا تعتبر هذا الفسخ مساساً بالاتفاقيات الاستراتيجية مع الدولة الروسية.
مصير الاتفاقات الاقتصادية مع روسيا في الميزان
وقرار فسخ عقد طرطوس يفتح الباب أمام مراجعة أوسع لاتفاقات كبرى عقدتها دمشق مع موسكو خلال العقد الماضي، لا سيما تلك التي أبرمت باسم التعاون الحكومي لكنها نُفذت عملياً عبر شركات خاصة محسوبة على رجال أعمال مقربين من النظام.
ومن أبرز هذه الاتفاقات ما يتعلق بقطاع الفوسفات، إذ لا يزال عقد أُبرم عام 2017 قيد التفعيل، ويمنح إحدى الشركات الروسية حق استخراج الفوسفات من مناجم منطقة الشرقية في تدمر لمدة 50 سنة. وتشير المعطيات إلى أن هذا الملف، أيضاً، قد يشهد مراجعة خلال المرحلة المقبلة، خاصة إذا استمرت موجة إعادة تقييم العقود “الرمادية” التي نُفذت في بيئة فساد اقتصادي وشحّ رقابة قانونية.
وجود روسي متغير في سوريا

تعليقاً على هذه المسائل وغيرها، وفي سياق المتغيرات المتسارعة على الساحة السورية، تحدّث المستشار والدبلوماسي المقرب من الخارجية الروسية، رامي الشاعر، عن ملامح جديدة في تموضع موسكو العسكري داخل سوريا، وكشف العديد من المسائل. إذ أوضح في تصريحات صحفية له يوم أمس الأربعاء 2 تموز 2025 أن روسيا لا تزال مهتمة بالحفاظ على وجودها في قاعدة طرطوس البحرية، نظراً لأهميتها اللوجستية في دعم أسطولها بالمتوسط، بينما لم تعد ترى ضرورة استراتيجية للإبقاء على قاعدة حميميم الجوية، مرجّحاً أن قرار استمرار أو إنهاء هذا الوجود بات بيد القيادة السورية الحالية.
وكشف الشاعر أن موسكو لم تتلقَّ أي طلب رسمي من دمشق لمغادرة القوات الروسية المتبقية، والتي وصفها بأنها «رمزية» من حيث العدد والدور، بعد أن بات الطابع العسكري للوجود الروسي شكلياً، واكتسب بُعداً لوجستياً أكثر من كونه عملياتياً. ولفت إلى أن غالبية العناصر العسكرية الروسية قد انسحبت تدريجياً من سوريا بعد انهيار النظام السابق، ولم تعد ثمة حاجة لمهامها السابقة.
واستعرض الشاعر الدور الذي أدّته روسيا خلال سنوات الحرب، مشيراً إلى أن قواتها عملت على تثبيت اتفاقات التهدئة، ومنعت الانزلاق نحو اقتتال داخلي، إلى جانب تصديها لتنظيمات مصنفة إرهابية بقرارات من مجلس الأمن. لكنه أوضح أن تلك المهام لم تعد مطروحة اليوم، لا سيما في ظل استقرار سياسي جديد بقيادة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، حيث «لم تعد هناك معارضة فعّالة على الأرض، وغالبية السوريين باتوا مؤيدين لمرحلة ما بعد الأسد» على حد تعبيره.
وأشار إلى أن تواجد روسيا في سوريا جاء بطلب رسمي من القيادة السابقة، وكان يحظى بتغطية قانونية دولية. أما اليوم، فمصير هذا التواجد، خاصة في قاعدة حميميم، أصبح رهن ما تقرره السلطات السورية الجديدة، التي لم تُظهر، حتى اللحظة، نية لإنهائه، لكنها أيضاً لم تطلب توسيعه أو تعزيزه.
نحو علاقة اقتصادية مرنة واحترام للسيادة
وتطرق الشاعر إلى طبيعة العلاقات الاقتصادية المستقبلية بين دمشق وموسكو، موضحاً أن روسيا لا تسعى لفرض أي امتيازات اقتصادية على سوريا، بل تؤمن بمبدأ التعاون المشترك والمصالح المتبادلة. وقال إن مصير العقود الاستثمارية، سواء في الساحل السوري أو في قطاعات أخرى، سيحدده الطرف السوري وحده، مشيراً إلى أن من حق القيادة الجديدة مراجعة هذه العقود أو حتى إلغاؤها، إن رأت أنها لا تخدم مصلحة البلاد.
وفي هذا السياق، كشف أن عقد استثمار مرفأ طرطوس الذي أُبرم سابقاً (في عام 2019) مع شركة روسية لم يُنفّذ فعلياً على الأرض، وأن من حق دمشق الجديدة إعادة تقييمه في ضوء أولوياتها الاقتصادية. وأكّد أن موسكو تتفهم هذا التوجّه، ولن تفرض على سوريا أي التزامات تتعارض مع نهوضها الاقتصادي.
أما بخصوص مستقبل الساحل السوري، حيث تتركز القواعد الروسية، فأشار الشاعر إلى أن روسيا تدعم وحدة الأراضي السورية، وتؤمن بأن أي نقاش بشأن شكل الدولة السورية أو الفيدرالية يجب أن يكون بيد السوريين وحدهم، من خلال الدستور الجديد. وأضاف أن موسكو لم تتجاهل المآسي التي شهدتها بعض المناطق، بل استقبلت آلاف العائلات المهجّرة في قاعدة حميميم، وقدمت لهم الدعم الإنساني، وساهمت في تهدئة الأوضاع وتأمين العودة الآمنة للأهالي.
وفي ختام حديثه، عبّر الشاعر عن ثقته بقدرة الشعب السوري على تجاوز المحنة، مشيداً بدور روسيا في إنجاح عملية الانتقال السياسي، ومشيراً إلى أن التنسيق مستمر لتحديد موعد زيارة مرتقبة لوزير الخارجية السوري إلى موسكو، بناءً على دعوة رسمية سبق أن وُجّهت له. أي وفق قول الشاعر، فإن الشيباني سيزور موسكو في وقت قريب، ويأتي هذا الكشف من الشاعر في وقت لم تعلق فيه الحكومة السورية على مسالة دعوة لافروف للشيباني رغم مضي أكثر من شهر على الدعوة.
على أية حال، مع هذه المعطيات، وبعيداً عمّا هو شائع، يبدو أن المستقبل قد يخط تعاوناً سورياً بنّاءً مع موسكو بما تمثله من قوى الشرق، رغم الانفتاح السوري على الغرب وأمريكا، والذي كان ضرورياً ومفهوماً بظلّ العقوبات المفروضة على الدولة السورية. إذ كانت هذه العقوبات تكبل الدولة السورية وتمنعها من أي تقدم في المجالات الاقتصادية وتوقيع الشراكات والتفاهمات وتلقي الدعم، وخفّ هذا الضغط الآن رغم أن العقوبات لم ترفع بالكامل حتى اللحظة. وإعلان الحكومة السورية الحالية والرئيس الشرع عن رغبتهم بالانفتاح في العلاقات مع الجميع يجعل هذا الخيار راجحاً، فيما ستظهر الأيام القادمة بأي اتجاه ستسير الأمور…
اقرأ أيضاً: هل انتهت أيام روسيا في سوريا؟