لطالما غابت مفاهيم الشفافية والمحاسبة عن السوريين لعقود طويلة، فكيف الحال إذا كانت المحاسبة تطال أحد عناصر الأمن أو الشرطة التابعين لوزارة الداخلية أو تقديم شكاوى ضدهم؟
في خطوة غير مسبوقة، وبعد إعادة هيكلة وزارة الداخلية وإصدار عدة قرارات لتنظيم العمل الأمني والشرطي في سوريا، افتتحت الوزارة أول مكتب لاستقبال شكاوى المواطنين بشأن تجاوزات أفرادها من عناصر الأمن والشرطة، يقع المكتب خلف مبنى وزارة الداخلية القديم في حي المرجة، وقد جرى افتتاحه بحضور كل من المتحدث الرسمي باسم الوزارة، نور الدين البابا، ومعاون وزير الداخلية للشؤون الشرطية، اللواء أحمد لطوف.
وبحسب التصريحات الرسمية، فإن دائرة الشكاوى لا تقتصر مهمتها على تجاوزات عناصر الأمن والشرطة فحسب، بل تشمل أيضاً المشكلات التي قد يواجهها المواطن خلال استخراج الوثائق الرسمية المرتبطة بوزارة الداخلية، كإذاعات البحث وغيرها، وتُراجع الشكاوى المقدمة وتُحقق فيها، وفي حال ثبت أنها كيدية، تُحال إلى القضاء للبت فيها.
وأعلنت الوزارة عن نيتها افتتاح فروع مماثلة لهذه الدائرة في باقي المحافظات تباعاً، لتشمل مدن: حلب، اللاذقية، حمص، ودير الزور، بهدف تسهيل وصول المواطنين إلى الجهات المختصة وتقديم شكاواهم بسهولة.
وفي تطور لافت، صرّح المتحدث الرسمي باسم الوزارة، نور الدين البابا، بأن الوزارة ستعمل، بعد ترسيخ هذه الخطوة، على إطلاق برنامج أو تطبيق هاتفي يتيح للمواطنين تقديم شكاواهم من أي مكان داخل الأراضي السورية، مرفقة بالأدلة المناسبة.
تأتي هذه الخطوة في أعقاب عدة تجاوزات ارتكبها بعض عناصر الأمن في مدينة دمشق، كان آخرها توقيف شابين على أحد الحواجز في أوتوستراد المزة وتعرضهما للضرب لأنهما كانا يرتديان الشورت، بحسب رواية والد أحد الشابين، وقدّمت إدارة فرع الأمن في المزة لاحقًا اعتذاراً لوالدة أحد الشابين، التي تعرضت للترهيب أثناء توجهها إلى الحاجز للاستفسار عن ابنها، كما تم إحالة العناصر المتورطين إلى التحقيق.
وقد تفاوتت ردود الفعل على وسائل التواصل الاجتماعي بين مؤيد ومشكك في فعالية هذا المكتب. ففي أحد التعليقات، تساءل أحد المواطنين: “بعد تقديم الشكوى، كيف سيُحاسَب العنصر في ظل غياب القضاء العسكري؟” بينما اقترح آخر وضع أسماء أو أرقام على بدلات عناصر قوى الأمن لتسهيل التعرف عليهم عند تقديم الشكاوى ضدهم.
ويبقى السؤال الجوهري الذي يشغل بال كل مواطن سوري لم يعتد على مثل هذه الإجراءات:
هل ستُعالَج الشكاوى فعلًا، أم ستُركَن في صناديق الدائرة وتُنسى؟
اقرأ أيضاً: تشكيل مجلس الأمن القومي في سوريا بموجب قرار رئاسي
الشكاوى في زمن النظام السوري السابق
عمل النظام السابق خلال العقود الماضية على ترسيخ تسلّط أجهزة الأمن والمخابرات على الحياة العامة من خلال مجموعة من القوانين، مثل قانون الطوارئ الذي تم تفعيله عقب انقلاب حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1962، واستمر ساريًا لعقود طويلة. كما كانت جميع قوى الأمن الداخلي والخارجي تتبع لما كان يُعرف آنذاك بـ “الحاكم العرفي” أو رئيس مجلس الوزراء.
وبحسب المادة الرابعة من الدستور، كان يحق للحاكم العرفي توقيف أي مواطن، ووضع قيود على حرياته وتحركاته، وحتى مراقبة رسائله. كما كان يحق له مراقبة وسائل الإعلام والصحف، وسنّ قوانين تكمّم الأفواه، حتى لا يتم المطالبة بأي حقوق أو الاعتراض على أي تصرف، ومن أبرز هذه القوانين كان القانون الذي يُجرّم كل من يشكك في “الثورة” عام 1964، ومحاكم الأمن الاقتصادي التي تشكلت على إثرها محكمة استثنائية، ظلم فيها آلاف المواطنين، وتم إنزال عقوبات تصل إلى السجن لسنوات طويلة بحق كل من يعرقل تطبيق التشريعات الاشتراكية، بالإضافة إلى ذلك، تم سن قانون مكافحة الإرهاب الذي كان يُسجن بسببه آلاف الأشخاص دون إجراء تحقيقات شفافة معهم.
لقد ذكرنا هذه القوانين السابقة لنستنتج منها أن المواطن السوري لم يكن يحق له الاعتراض على أي قرار من قرارات الدولة، بل كان المجال مفتوحاً للاعتقال التعسفي بفضل وجود هذه القوانين، حيث يتم اتهام أي مواطن بها وجرّه إلى السجن. ولكن ماذا عن حالة تجاوز أحد عناصر الأمن أو الشرطة لصلاحياته أو ارتكاب أي جريمة؟
تم تحصين أجهزة الأمن والشرطة بمجموعة من القوانين التي رسّخت ثقافة الإفلات من العقاب، ومنها المرسوم رقم 14 الصادر عام 1969، الذي يقضي بإحداث إدارة أمن الدولة، وينص المرسوم على أن عنصر الأمن لا يُحاسب أو يُلاحَق بسبب الجرائم التي يرتكبها خلال قيامه بمهامه الموكلة إليه، إلا بموجب قرار يصدر عن مدير الإدارة.
أما بالنسبة للمخابرات، فلا يجوز ملاحقتهم أو إحالتهم إلى القضاء في حال ارتكابهم تجاوزات وظيفية أو جرائم، قبل عرضهم على المجلس التأديبي واستصدار أمر ملاحقة من المدير.
وفي عام 2008، تم إصدار المرسوم رقم 64، الذي نص على نقل الاختصاص بملاحقة عناصر الأمن من شعبة الأمن السياسي، وكذلك من عناصر الضابطة الجمركية، من القضاء المدني إلى القضاء العسكري. اعتبر كثيرون بأنّ ذلك كان بهدف تخليص هؤلاء من الملاحقة أمام القضاء المدني لزيادة منعتهم، رغم أنّ البعض تحدّث عن أنّ ذلك ليس أكثر من عملية تنظيم.
مع وجود الترسانة التشريعية التي حمت عناصر الأمن، كانت الآليات التي تضمن وجود هيئات قضائية مستقلة وحيادية لتلقي الشكاوى والنظر فيها، آلية فاسدة ومستبدة، ناهيك عن الخوف من الأعمال الانتقامية التي قد تطال مقدمي الشكاوى.
آليات النظام السابق
كان القضاء العسكري – بالمعنى النظري – هو السلطة المختصة في النظر في الشكاوى ضد الأجهزة الأمنية. لكن على الرغم من وجود آلية اللجوء إلى القضاء العسكري في ظل النظام السابق، إلا أن سلطته كانت محدودة ومقيدة، ما جعله عاجزاً عن أداء دوره في تحقيق العدالة، خاصة في القضايا التي تمسّ الجهات الأمنية. وقد كان مردّ هذا التهلهل ثلاثة أسباب:
– الأول أن سلطة الاستبداد لم تكن لتسمح بمحاسبة حقيقية تمنع التجاوزات والمعاملة غير الإنسانية، فهذا كان سينزع من يدها قدرة القمع المباشر الذي اعتمدته طريقة للبقاء في السلطة.
– السبب الثاني هو الفساد والرشاوى التي كانت عنواناً لجميع مؤسسات الحكم السابقة. فإن نفذت إحدى الحالات من سطوة الاستبداد، ستواجهها سلطة الرشاوى والمحسوبيات التي تمنع تحقق أي عدل.
– أمّا السبب الثالث فهو الخوف من الانتقام. فالذي وقع عليه الظلم لم يكن قادراً على ضمان أمن نفسه من الانتقام، سواء من الجهات الأمنية بشكل مباشر، أو حتى من عناصرها القادرين في الكثير من الأحيان على ترهيب من وقع عليه الظلم فلا يتمكن من اللجوء إلى القضاء العسكري.
وكما أشرنا سابقاً، فإن الحل لا يكمن فقط في إنشاء مكتب لتلقي الشكاوى وحسب، رغم أنّها خطوة لازمة لا يستوي الأمر دونها، بل في عدم السماح للمشكلات الجذرية السابقة بالظهور بأشكال جديدة، وتطوير آلية قانونية فعّالة تضمن تطبيق القانون بشكل عادل، وتعزز الثقة في مؤسسات العدالة.
في الختام، يبقى مدى الحرية والكرامة التي يجب أن يضمنها تقدّم الثورة السورية مرتبطاً بقدرة الحكومة السورية الحالية وما تؤسسه من نظام ضامن للكرامات، على العمل في إطار من الشفافية والمحاسبة الفاعلة، والتعلّم من أخطاء الماضي.
اقرأ أيضاً: ما هي خطط وزارة الداخلية لمستقبل سوريا الأمني؟