الكاتب: أحمد علي
في حيٍّ دمشقيٍّ كانت تصدح فيه أصوات المعامل والورش، يتم اليوم خوض معركة من نوع آخر. لم تعد الأسلحة هي وسيلة الصراع، بل أصبحت الخرائط واللجان والقرارات التنظيمية أدوات جديدة لتحديد مصير حي القابون الصناعي. فهل تتحقق العدالة التاريخية لأبنائه، أم يُعاد إنتاج سلطة الحرب بوجه عمراني جديد؟
حي القابون: الخرائط جبهة قتال
في دمشق، حيث تُكتب فصول المدينة بالتاريخ والنار، يبرز حي القابون بوصفه عقدة حضرية غارقة في معركة متشابكة الأطراف. ليست معركة عسكرية هذه المرّة، بل مواجهة تدور رحاها خلف مكاتب التخطيط وغرف صناعة القرار. اسم المعركة: «المخطط التنظيمي 104». وهدفها المُعلن: إعادة إعمار القابون وتحويله إلى منطقة سكنية وتجارية. أما الهدف المضمر، وفقاً لما يراه البعض ويعلن رؤاه، هو محاولة لإعادة تدوير امتيازات أمراء الحرب الذين استثمروا في الدمار، وخرجوا من الحصار بجيوب ممتلئة وسلطة ميدانية واسعة.
يقع حي القابون في المدخل الشمالي الشرقي لمدينة دمشق، متاخماً لأحياء مثل جوبر وبرزة والزبلطاني، ومحاطاً بشبكة مواصلات حيوية: من كراجات العباسيين والمتحلق الجنوبي، إلى الأوتوستراد الدولي الذي يربط دمشق بحمص وحلب ودير الزور. لطالما شكّل هذا الموقع أهمية استراتيجية واقتصادية، كونه معبراً رئيسياً للمنتجات الزراعية والصناعية القادمة من الريف إلى العاصمة، ما جعله نقطة تخزين وتوزيع مركزية لأسواق المدينة.
على هذه البقعة النابضة بالحركة، بُنيت عبر عقود شبكة من الورش والمعامل، معظمها غير مرخّص رسمياً، لكنها كانت المحرك الخفي لاقتصاد دمشق الصناعي. ومع بدء الحرب، تعرّض الحي لتدمير شبه كامل، وتهجّر سكانه، فيما بقيت فئة واحدة قادرة على البقاء: الصناعيون المرتبطون بالنظام وأجهزته الأمنية.
مرسوم 66: وسيلة النظام السابق للإقصاء
مع مطلع عام 2012، أُعيد تفعيل مرسوم 66، الذي سبق أن استُخدم في منطقة بساتين الرازي (ماروتا سيتي)، ليكون أساساً لإعادة تنظيم القابون. الهدف الرسمي كان نقل الصناعات “الملوّثة” إلى مدينة عدرا الصناعية، كما نص مرسوم 2000 القاضي بإنشاء ثلاث مدن صناعية في سوريا.
لكن خلف هذا الغلاف البيئي – الإداري، جرت وقائع مختلفة على الأرض. إذ استمر بعض الصناعيين النافذين في تشغيل معاملهم داخل القابون، رغم القرارات الصادرة بالإخلاء. وتم ذلك بتواطؤ واضح من أجهزة السلطة السابقة، حيث جرى توفير الكهرباء للمعامل في وقت كانت فيه أحياء القابون المدنية تغرق في الظلام والخراب.
وهؤلاء الصناعيون – وغالبيتهم محسوبون على الدوائر الأمنية أو استفادوا من الفوضى – حققوا أرباحاً خيالية، مدعومة بفراغ السوق وصعوبة وصول البضائع من الريف.
وحين بدأت الحكومة السابقة إعداد تقييمات للأراضي تمهيداً لاعتماد المخطط التنظيمي، تحولت اللجان العقارية إلى ساحة نفوذ للصناعيين أنفسهم. تم تصنيف أراضي وممتلكات تعود لسكان مهجرين على أنها «زراعية»، رغم أنها كانت مناطق عمران مأهولة قبل الحرب.
في المقابل، صُنّفت المعامل التابعة لأصحاب النفوذ على أنها «صناعية»، ما منحها قيمة مضاعفة وصلت إلى أربعة أضعاف السهم الزراعي.
ببساطة، تم تهشيم القيمة القانونية لممتلكات السكان الأصليين، وإقصاؤهم من المشهد العمراني المستقبلي. ومع هذا التوزيع الجائر، أصبحت الكلمة العليا لأقلية لا تتجاوز 5% من ملاك المنطقة.
محاولة لكسر الهيمنة: المخطط 104 مجدداً
اليوم، وبعد انقضاء سنوات الحرب وسقوط الهيكل السياسي الذي مكّن تلك الامتيازات، يعود مشروع «المخطط التنظيمي 104» للواجهة، ولكن هذه المرة كفرصة لإعادة العدالة. فالمخطط المطروح حالياً يتضمن رؤية لتحويل المنطقة إلى محور عمراني متكامل، يوفر السكن والخدمات والتجارة.
إلا أن هذا التوجه يواجه مقاومة شرسة من قبل الصناعيين المتضررين من المخطط الجديد، والذين يحاولون عبر غرفة صناعة دمشق تحويله مجدداً إلى منطقة صناعية، ضامنين بذلك بقاء امتيازاتهم.
يقول المهندس ظافر الحموي، رئيس لجنة حي المصانع في القابون، إن ما يحدث اليوم ليس سوى امتداد لمحاولات «فئة جشعة» للاستحواذ على مستقبل الحي كما استحوذت على ماضيه. ويطالب بتقييم عادل يعيد الحق لأصحابه، لا أن يبقى رهينة مَن اغتنوا من الحرب.
القابون ليست «عشوائية»
من يصف القابون بأنه «منطقة عشوائية» يتجاهل تاريخاً طويلاً من التهميش المُمنهج. فلم يكن البناء غير المرخّص خياراً فردياً، بل ضرورة فرضها غياب التخطيط الحضري العادل، وانعدام سياسات الإسكان الرسمية. لقد جرى سحب الصوت السياسي من سكان هذه المناطق، وتحويلهم إلى كتلة اجتماعية بلا تمثيل حقيقي، مقابل غض الطرف عن التوسع العشوائي الذي شكّل لاحقاً اقتصاداً منتجاً قائماً بجهود الأهالي.
تشير تقديرات أولية إلى أن القيمة السوقية المتراكمة للقابون قد تتجاوز 10 مليارات دولار، تمثل استثمارات حقيقية للأهالي وليست مجرد «مخالفات بناء». وانتزاع هذه القيمة دون تعويض عادل يعني ببساطة تفجير احتقان اجتماعي قابل للانفجار في أي لحظة.
آخر التطورات: بداية تصحيح المسار؟
في الأوّل من تموز 2025، عُقد اجتماع رسمي ضم محافظ دمشق وعدداً من وجهاء القابون، لبحث مستجدات المخطط التنظيمي ومطالب السكان. وقد أبدى المحافظ انفتاحاً على مبدأ الشراكة المجتمعية، وهو تطور إيجابي نظرياً، لكنه يحتاج إلى خطوات ملموسة لترجمته على الأرض.
من بين المطالب التي طرحها الأهالي:
- إعادة دراسة توزيع الحصص السهمية بشكل عادل.
- تعديل المخطط التنظيمي بما يلبّي الاحتياجات الواقعية.
- تشكيل لجنة قانونية منتخبة من أبناء القابون.
- تحديد موعد رسمي ومعلن لتسليم سندات أسهم الملكية.
وهذه المطالب ليست تعجيزية، بل تُعبّر عن الحد الأدنى من حقوق سكان جرى تهجيرهم وتعويضهم بأقل من ربع القيمة السوقية الحقيقية لممتلكاتهم.
بين الإعمار والاستثمار: هل تُنصف الذاكرة؟
المعركة في القابون ليست حول الطوب والإسمنت فقط، بل على «رواية» ما جرى خلال الحرب. فهل يُعاد رسم الحي كمشروع ربحي يتجاهل ذاكرته الجماعية؟ أم تُكرّس خريطته الجديدة كإعلان اعتراف بمعاناة سكانه وحقهم في استعادة حياتهم؟ وما يحدث في القابون هو نموذج مصغّر عن شكل الإعمار الذي قد تُقبل عليه سوريا: فإما إعمار يعيد الحقوق، أو «استثمار حرب» يعيد إنتاج الجور بوسائل قانونية الشكل.
ختاماً، ما يُطرح اليوم من تسويات عمرانية لا يمكن فصله عن السياق السياسي العام. فالمجتمع السوري ليس بحاجة إلى مشاريع ناطحات سحاب أو مراكز تسوق فاخرة، بقدر ما يحتاج إلى عدالة تعيد الاعتبار للإنسان، وتحفظ له أرضه وذاكرته. وإذا أردنا لسوريا أن تنهض فعلاً، فعليها أن تبدأ من حيث نزفت أكثر: من القابون، وداريا، واليرموك، وكل حي دفع ثمن الحرب دون أن يُستشار في رسم ملامح مستقبله.
اقرأ أيضاً: وقف استيراد السيارات المستعملة في سوريا.. تفاصيل وآراء ونتائج!