مقالات

حين توقفت الرشاوى… تعطّلت الدولة!

مقال رأي – عروة درويش – حين توقفت الرشاوى… تعطّلت الدولة!

لم يكن الفساد في سوريا انحرافاً عن القاعدة، بل كان هو القاعدة. طوال سنوات الحكم السابقة، صار مألوفاً أن يطلب الموظف «المعلوم» قبل أي معاملة، وأن يوقف الشرطي السيارات على الطرقات بحثاً عن إكرامية، وأن تتحول النقابات إلى ممرات للزبائنية والمحسوبيات، وأن وأن وأن…الخ. الفساد المباشر في هذه البلد لم يكن ممارسة يومية وحسب، بل صار نظاماً متكاملاً لإدارة وتسيير دواليب جهاز الدولة الفارغة من الهواء.

لكن حين سقطت السلطة، توقّع الناس أن تنهار هذه المنظومة معها. بالفعل، خاف الموظفون فجأة من مدّ أيديهم علناً، وتراجعت ظاهرة الرشاوى الصريحة بشكل ملحوظ. لكن سرعان ما اكتشف المواطنون أن حياتهم لم تصبح أسهل، بل ازدادت تعقيداً. اختفت الرشوة العلنية، لكن بقيت الإدارة نفسها: متخشبة، متناقضة، بيروقراطية تتضخم بدلاً من أن تنكمش.

الرشوة كانت الزيت في ماكينة الصدأ

هنا يظهر المعنى الحقيقي للفساد البنيوي. الرشوة، رغم أنها كانت ظلماً فاضحاً، لعبت دور «الزيت» في ماكينة قديمة صدئة. كان المواطن يختصر وقته ووجعه بدفع عدّة أوراق نقدية للموظف، فتدور العجلات ولو بشكل أعوج. وحين توقفت هذه الآلية، لم تتحسن الماكينة، بل تعطلت بشكل شبه نهائي، وفج.

تبيّن أن العطب ليس في الموظف وحده، بل في طريقة الإدارة بكاملها: قوانين متراكمة لا علاقة لها بالواقع، أجهزة إدارية لم يتم إصلاحها وتحديثها منذ عقود، وعقلية سلطوية موروثة لا تزال ترى في المواطن مشروع مشتبه به لا صاحب حق.

من يريد اليوم ورقة «براءة ذمة» أو «مخططاً تنظيمياً» يجد نفسه في رحلة أيام من الطوابير والتنقل بين المكاتب. من يطلب إذناً من البلدية بتركيب منظومة طاقة شمسية يواجه سلسلة من الشروط التي لا علاقة لها بالواقع. شرطة المرور لم تعد ترتشي كما في السابق، لكن ازدحام الشوارع وسوء التخطيط وغياب المصفات جعل الحياة أصعب. المواطن لم يعد يدفع مباشرة، لكنّه يدفع بطريقة أخرى: من وقته، من أعصابه، من كرامته.

طريق الإصلاح: من الأشخاص إلى البنية

الدرس الأهم هنا سياسي: لا يكفي أن تسقط السلطة كي يسقط الفساد، لأن الفساد – بجزئه المباشر الصغير، أو غير المباشر الكبير المرتبط بحيتان السوق – لم يكن مجرد أشخاص، بل كان بنية مترسخة. الحل لا يكمن في تبديل الوجوه بل في إعادة صياغة الإدارة نفسها.

لابد من تبسيط القوانين، وتقليص البيروقراطية إلى حدود أقرب إلى الصفر، والانتقال السريع إلى الأتمتة والخدمات الرقمية. حينها فقط يمكن القول إننا تجاوزنا «النظام الفاسد» لا بوصفه سلطة سياسية فقط، بل كبنية إدارية وثقافة حكم.

إنّ التمعّن في فساد الرشوة في سوريا يكشف لنا أنّه مجرّد رأس جبل الجليد الظاهر من فساد البنية. الرشوة اختفت قليلاً وقد تعود طالما أنّ البنية الفاسدة باقية وتتجدد بأشكال مختلفة، ما لم تتمّ إعادة بنائها من الأساس. والسؤال الذي سيبقى مفتوحاً أمام السوريين هو: هل نملك الشجاعة للانتقال من إسقاط الأشخاص إلى إصلاح البنية؟ في الحقيقة، حتى نتمكن من إصلاح البنية بشكل كامل وفاعل، علينا أن نبحث عن الفساد الكبير، ذاك الذي يعيش في مكاتب رجال الأعمال والصفقات… عندها سنكون بدأنا من المكان الصحيح.

اقرأ أيضاً: خصخصة محطات الوقود: الذهب لا يلمع إلا بالضوء والعدالة!

————————————————————————————————————

تنويه
يفتح موقع «سوريا اليوم 24» صفحاته لكل من يحمل رأياً ويرغب في التعبير عنه بحرّية ومسؤولية، إيماناً منا بأن الحوار هو السبيل الأمثل لفهم الواقع وصياغة المستقبل. نحن نُجري لقاءاتنا مع ضيوف من مشارب فكرية وسياسية متعددة، نستمع إليهم ونعرض ما لديهم بأمانة وموضوعية، وننقل الآراء المختلفة من مصادر متعددة. ولكن نشرنا لآرائهم لا يعني بالضرورة تبنّيها، بل يأتي في إطار رسالتنا الهادفة إلى ترسيخ ثقافة الحوار وتبادل الرؤى في فضاء من الاحترام والانفتاح.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى