حلب ليست مدينة عادية ولا تقليدية، لا يمكن للمرء إلا أن يقف عند اسمها ويتأمل تاريخها وينبهر بحضارتها وما تعاقب على أرضها من أوابد وحضارات. لم تسحر سكانها فقط بل امتد سحرها ليجعل من “جان كلود دافيد، المفكر والباحث الفرنسي أسيراً لها ولعراقتها، حيث تغنى بحلب كثيراً وتعلق بها وبهندستها منذ أن عمل كخبير في بلدية حلب عام 1972، ومنذ ذلك الحين سحر حلب لم يفارقه. ألّف كتباً عنها وتعمق بها وبعبقها، فالشهباء أبت أن تفارقه وأراد أن يرينا حلب بعيونه، فألف كتاب “حلب تراث وحضارة” يحكي عن عمران حلب ويروي حضارتها ويختزلها بصفحات ورقية لكن بعيون فرنسية، لهذا الكتاب نسخ مترجمة ومن إصدار مركز أبو ظبي للغة العربية.
لم يترجم عشقه فقط في هذا الكتاب، بل ألّف لحلب منذ العام 2010 كتاب بعنوان ” أوابد سويقة علي في حلب” مع الباحث “تيري غراندان”. لكن ماذا يميز كتاب “حلب تراث وحضارة”؟ ماذا وجد جان في حلب حتى يعيد إحيائها في كتاب آخر بعد مرور 15 عام؟
من هو صاحب كتاب “حلب تراث وحضارة”
هو الباحث الفرنسي جان كلود دافيد (Jean-Claude David) ولد عام 1943، متخصص في تاريخ العمارة والمساحات الحضرية من جامعة ليون، قدم إلى سوريا وعمل من عام 1968 إلى عام 1972 كمتدرب ثم كخبير في بلدية حلب.
شارك في وضع المخطط التنظيمي الجديد للمدينة، ثم في تطوير وحماية المدينة القديمة، ثم عمل في المعهد الفرنسي للدراسات العربية (IFEAD) في مدينة دمشق بين عامي 1977 و 1983 بغية إجراء بحث حول مدن الشرق الأدنى.
لينتقل إلى ليون ويعمل كباحث في المركز الوطني للبحث العلمي في العام 1985، أما الآن هو باحث ومشارك ضمن فريق آثار الشرق في المركز القومي للبحث العلمي (Archéorient du CNRS) في بيت الشرق والمتوسط، بمدينة ليون بفرنسا.
اقرأ أيضاً: وجهات سياحية في حلب تجذب السياح الأجانب
لمحة عن الكتاب وأبرز ما يتناوله
نقل إلى العربية عبر الدكتورة هلا أحمد أصلان، تمت مراجعته وترجمته من قبل كاظم جهاد. تناول الكتاب مدينة حلب كونها واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم.
قدم المؤلف قراءة معمقة فنّد من خلالها نشأة حلب وتطورها في معرض نسيجها الجغرافي والحضاري، كما طرح دافيد العديد من التساؤلات حول ما إذا كانت المدينة لا تزال تحتفظ بشواهدها الحية من تاريخها البيزنطي والروماني والهلنستي والآرامي والحيثي والأكادي في ذاكرة قاطنيها، أم أن ما تبقى من هذا التاريخ لا يعدو كونه مجرد جدران وقطع أثرية صامتة، لا تنطق إلا بما تبقى من تاريخها.
تأرجح الكتاب ما بين الذاكرة والهوية، فتناول جدلية الذاكرة والهوية في السياق والمنحى الحلبي، وطرح قراءة متعددة الأبعاد للمدينة، فناقش كونها في آنٍ واحد مدينة إسلامية ومسيحية ويهودية، عربية وآرامية وأرمنية وسريانية، كما أنها مدينة متوسّطية وسامية وشرقية وغربية.
كما فنّد الكتاب خصوصية المجتمع الحلبي وأبرز فيها مشاهد الانتقاء والتفضيل والرفض لموروثات الماضي، وأوضح كيف أن تراث هذه المدينة الغني بالمهرات الحرفية يواجه أنماط العولمة السائدة، وكيف لهذه المدينة أن تتعايش بها الثقافات رغم صراعها.
وطرح الباحث تساؤلات ملهمة وغريبة، متسائلاً عن سرّ استمراريتها عبر العصور كمدينة نابضة بالحياة بقوله: “أهو تعدّد الحيوات التي مرت بها منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد؟ أم أنها هوية حضارية متماسكة استطاعت تجاوز التقلبات السياسية والثقافية التي عرفتها المنطقة؟”.
كما تحدث عن المراحل المتعاقبة على المدينة منذ أن نشأت وتطرق للحديث عن الأمم والحضارات التي خضعت لحكم حلب أو خضعت لإمرتها، لكن الباحث لم يخض كثيراً في تناول التاريخ السياسي للمدينة، على الرغم من أهميته البالغة، فقد أولى اهتماماً أكثر بالجانب الاجتماعي والفني لها، تحديداً ما يتعلق بالعمران والعمارة وسرد قصص المدينة وأهم التقلبات التي شهدتها والعناصر التراثية والجمالية والتاريخية التي تميزها.
وقدم في كتابه دراسة مثمرة عن أهم مناطقها، وهو ما يعتبر مواصلة لمشروعه البحثي في كتاب “أوابد سويقة في حلب” الذي تناول فيه الأبنية الأثرية في منطقة سويقة علي في حلب القديمة ومنها دار جنبلاط وخان قورت بك ودار الأميري وزاوية أصلان دادة.
كما وصف حلب بأنها: “عنقاء كروما، مدينة أبدية.. ولدتْ على غرار دمشقَ وغيرها من مدن الداخل السوري قبل مدينة روما بكثير، وهي واحدة من المدن القليلة من بين المدن الأولى التي لا تزال تنبض بالحياة. عبرت التاريخ بفضل حضورها عند تقاطع طرق راسخة”.
اقرأ أيضاً: حريق ساروجة “الغامض” قضى على معالم تراثية بدمشق بينها منازل قادة سوريين تاريخيين
مناقشة ما عرض الكتاب
عند النظر إلى مدينة شرقية بعين غربية يبدو المشهد غير مألوف بعض الشيء، مشهد يسوده الحياد ينسج تفاصيله حضارة المدينة عراقتها وعبق تاريخها، مشهد تعبر فيه المدينة عن نفسها عن وجودها بآثارها وبجدرانها وبجذورها فلا حنين الانتماء يتكلم ولا رابط الهوية، فقط الحضارة تتسيد المشهد والتاريخ يروي فصل الخطاب.
عين غير عربية رصدت ملامح حلب وحضاراتها، مدينة متعددة الأعراق والملامح كحلب لابد من الحياد لتأمل تفاصيلها ولغوص بمكنوناتها. ما يساهم في تقديم صور غير منحازة أو معتادة، صور تنطلق أساساً من مبدأ علمي ومن معاينات كاشفة بعمق للخفايا وملامح الجمال والحكايات المنسية.
كما أظهر المؤلف وعياً نقدياً بخلفيته الاستشراقية، وسعى من خلال قراءة موضوعية تجاوز النظرة النمطية وإنصاف حلب وتراثها، بعيداً عن الأحكام الجاهزة والسيناريوهات المعادة في وصف المدينة.
ومن شأن هذا الكتاب أن يدوّن جزء مهم من تاريخ المدينة التي تعد من أقدم المدن المأهولة في التاريخ البشري، مدينة تقصدها كل الطرق وتؤدي إليها كل الطرق من الشرق والغرب، حيث مزجت حلب من تراث عريق ولكنَة محببة، وطعام حار وطرب أصيل.
ويحسب لجان كلود دافيد المفتون بحلب أنه ابتعد كلياً عن النظرة الاستشراقية التي ميزت تعامل الباحثين الغربيين مع التاريخ الشرقي، وقدم بالتالي دراسة موضوعية، تساهم في توثيق تاريخ المدينة.
ختاماً، حلب في كتابتها ولفظها ساحرة، كيف لمن عاش فيها وتشبع بعبقها؟
لا يلام جان دافيد بحبه لحلب وتأليفه لكتب عنها لا يمكن أن يروي عطشه تجاهها، حاكى بكتابه أحجارها، طعامها، هندستها، أصوات ناسها وطبيعة مجتمعها. سيبقى دربها قصداً للكاتب المفتون ولكل من يبحث عن التراث والثقافة، ستبقى القصد والسبيل لكل مفكر وباحث يريد أن يرتوي من التاريخ وينهل من الأصالة.
اقرأ أيضاً: نواعير حماة: نغمات الماء الخالدة