تستحضرني كلمات جبران خليل جبران التي شدت بها فيروز في أغنيتها “أعطني الناي وغنِّ”، كلما تذكّرت غابات الساحل السوري الجميلة، فهذه الكلمات تليق بتلك الطبيعة الأخّاذة، التي لطالما ظنناها ملاذاً للحياة لا للحزن، لم نكن نعلم أن الحزن يمكن أن يأتي من الطبيعة ذاتها، التي عهدناها دائماً معطاءة لا مُنتقِمة، ولكن، ها هي الحرائق المندلعة منذ أيام في ريف اللاذقية توجعنا وتُشعل قلوب السوريين حسرةً على أشجار كانت تعدنا بموسم زراعي متنوع، ومناظر خلّابة تُبهج الزائرين والسياح، من رأى تلك الغابات من قبل، لا يمكنه اليوم إلا أن يتحسر على ما التهمته النيران من جمالها وسحرها.
سنتعرف في هذا المقال على أسباب اندلاع الحرائق الحالية في ريف اللاذقية، والحرائق السابقة التي طالت سوريا خلال السنوات السابقة، كما سنحاول الإضاءة على التحديات التي ستواجه الحكومة خلال السنوات القادمة بعد هذه الكارثة البيئية، وكيف يمكن تخطي نتائجها بسلام.
تحتل سوريا المرتبة التاسعة عربياً من حيث الغطاء النباتي والغابات، إذ تمتد الغابات على مساحة تُقدَّر بـ 5221 كيلومتراً مربعاً، أي ما يعادل قرابة 3% من المساحة الجغرافية للبلاد، ومع تكرار موجات الحرائق، فقدت سوريا نحو 1.9% من هذه المساحة الخضراء.
حتى الآن، التهمت النيران ما يقارب 140 كيلومتراً مربعاً – آلاف الهكتارات – من ريف اللاذقية الشمالي المعروف بكثافة غاباته. بدأت هذه الحرائق منذ يوم الخميس، ووفقاً لما صرّح به عبد كيال، مدير الدفاع المدني في محافظة اللاذقية، فإن فرق الدفاع المدني لا تزال تعمل جاهدة على إخمادها.
أسباب اندلاع الحرائق في ريف اللاذقية
اندلعت النيران في مناطق متعددة أبرزها البسيط، قسطل معاف، وجبل التركمان، وأوضح كيال، بحسب ما ورد في معرفات الدفاع المدني، أن هذه الموجة من الحرائق تُعد من الأصعب على الإطلاق، وذلك بسبب وعورة التضاريس، ووجود ألغام وذخائر غير منفجرة، إلى جانب صعوبة الوصول إلى بؤر النيران وغياب خطوط إطفاء قريبة.
وأشار إلى وجود تنسيق مع محافظات سورية أخرى مثل دمشق، حمص، حلب، إدلب، حماة، وطرطوس لإرسال مؤازرات. كما شاركت فرق إطفاء تركية في عمليات الإخماد براً وجواً، وانضمت اليوم فرق أردنية إلى جهود إطفاء الحرائق، وأكّد كيال: “نحن نحاول استثمار كل الإمكانات المتاحة لإنهاء هذه الحرائق في أسرع وقت ممكن، وحماية المساحات الخضراء التي نخسرها، والتي تُعدّ من ركائز التوازن البيئي”.
من جانبه، قال وزير الطوارئ والكوارث في سوريا، رائد الصالح، إن منطقة قسطل معاف شهدت توسعاً في رقعة الحريق بفعل اشتداد الرياح وارتفاع درجات الحرارة، مما زاد من صعوبة مهمة السيطرة عليه، كما أشار إلى أن غياب خطط التأهيل المسبقة وصيانة الطرق الحرجية فاقم من التحديات، في ظل وجود مخلفات الحرب من ألغام وذخائر غير منفجرة، والتي تُشكّل تهديداً إضافياً لفرق الإطفاء، ودعا الصالح المواطنين للإبلاغ عن أي محاولة لإشعال الحرائق من قبل أي شخص.
كما أعلنت محافظة اللاذقية عن خروج محطة تحويل البسيط عن الخدمة، بسبب تضرر بعض مخارج التوتر المتوسط الواقعة على مسار النيران، ما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي عن جميع المناطق التي تغذيها، بما في ذلك مضخات المياه المرتبطة بها.
حجم كوارث الحرائق منذ بداية العام الحالي بالأرقام
وفقاً لوكالة سانا، تم تسجيل 3579 حريقاً في 12 محافظة سورية منذ بداية نيسان/أبريل وحتى نهاية حزيران/يونيو، ما يُهدد التوازن البيئي المستقبلي للأجيال القادمة، وبلغ عدد المهمات التي نفذتها فرق الدفاع المدني أكثر من 16,200 مهمة باستخدام 312 آلية موزعة على 116 مركز إطفاء، ضمن خطة تشغيلية تجاوزت 4600 ساعة عمل، لتُسجّل واحدة من أكبر عمليات الإطفاء المنسّقة في تاريخ سوريا.
ومن الجدير بالذكر أن البحر الأبيض المتوسط سجل، يوم الأحد الماضي، درجة حرارة قياسية بلغت 26.01 درجة مئوية، وهي الأعلى لهذا الوقت من العام، وفقاً لبيانات خدمة “كوبرنيكوس” الأوروبية، ومع تزايد احتمالية الجفاف وحرائق الغابات نتيجة الأنشطة البشرية، تواجه سوريا منذ سنوات موجات حرّ شديدة وتراجعاً في منسوب الأمطار، ما فاقم من حجم الكارثة البيئية.
وفي تقرير حديث، قالت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) إن سوريا لم تشهد ظروفاً مناخية بهذا السوء منذ 60 عاماً، محذّرة من أن الجفاف غير المسبوق سيجعل أكثر من 16 مليون شخص عرضة لانعدام الأمن الغذائي.
اقرأ أيضاً: التغير المناخي إلى أين في السنوات المقبلة؟
الغطاء النباتي بين عامي 2018 و2020
نشرت منظمة PAX تقريرًا بعنوان “المساحات الخضراء بين القطع والحرق”، يُعد من أعمق الدراسات العلمية التي تناولت أسباب وعواقب تدهور الغطاء النباتي في مختلف أنحاء سوريا.
واعتمدت الدراسة على بيانات الأقمار الصناعية، لتُظهر أن أكثر من 36% من الغابات في غرب البلاد تضررت بسبب القطع غير المنظم للأشجار واندلاع حرائق شديدة بين عامي 2018 و2020.
وفي مناطق مثل شمال حلب، أُزيل نحو 60% من الأشجار نتيجة القطع المكثف في الغابات الطبيعية، كما أسهمت الحرب بشكل مباشر في تدمير مساحات واسعة من الأراضي الزراعية والبساتين، مما أثّر بشكل كبير على سبل عيش السكان.
أما مدينة تدمر، فقد فقدت أكثر من 52% من أشجار الفاكهة، وفي العديد من المناطق الأخرى، دفعت الحاجة الملحّة للطاقة السكان إلى الاعتماد بشكل متزايد على قطع الأشجار كمصدر بديل.
وعلى مدى العقد الماضي، ألحق الصراع الدائر أضراراً جسيمة بالموارد الطبيعية، وأدى إلى سرقة مصادر رزق المزارعين، وأثّر سلباً على النظم البيئية والتنوع الحيوي، إلى جانب تراجع قدرة الغابات على امتصاص الكربون، في بلد يواجه تحديات مناخية متزايدة من حيث ارتفاع درجات الحرارة وشح المياه والجفاف.
أسباب سرعة انتشار الحرائق
بالإضافة إلى العوامل المناخية كالجفاف وارتفاع درجات الحرارة، تُشير مهندسة زراعية في مديرية زراعة طرطوس إلى أن غابات المنطقة، المكوّنة بمعظمها من أشجار الصنوبر، تُعدّ بيئة شديدة القابلية للاشتعال بسبب احتوائها على زيوت راتنجية، كما أن قشور الساق والمخاريط المتطايرة أثناء الاحتراق تساهم في تمدد ألسنة اللهب بسرعة كبيرة، خاصةً مع حركة الرياح.
ويضيف الطبيب جلال (28 عاماً)، الناشط في جمعية بيئية في طرطوس: “تبقى الأغصان وأوراق الصنوبر القريبة من الأرض يابسة وتشكل وقوداً أولياً لأي حريق، لهذا يجب أن تعمل مديرية الزراعة والحراج على تقليمها سنوياً ضمن إجراءات وقائية.”
ماذا بعد انطفاء الحرائق؟
توصي الأمم المتحدة والمنظمات البيئية الدولية باتخاذ خطوات عاجلة لإعادة تأهيل الغابات المتضررة، مع التركيز على التحديات التي خلّفتها سنوات الحرب والعقوبات.
أولى هذه الخطوات تتمثل في دعم مبادرات التشجير المحلية، لما لها من دور في إشراك المجتمع وتعزيز وعيه البيئي، على أن تُزرع أنواع نباتية تتلاءم مع طبيعة المناخ والتربة السورية لضمان استدامتها، كما ينبغي دعم مشاريع إعادة تشجير واسعة النطاق في المناطق المتضررة، وتوفير الموارد اللازمة لإعادتها إلى حالتها الطبيعية.
ورغم أن القوانين السورية تجرّم قطع الأشجار المثمرة دون ترخيص، إلا أن الفساد الذي ساد سابقاً أدى إلى تجاهل هذه القوانين، ما ساهم في تدهور الغطاء النباتي.
من جهة أخرى، يمكن للتكنولوجيا أن تكون أداة فعالة في رصد وتتبع المناطق المتضررة عبر الأقمار الصناعية والذكاء الاصطناعي، لتحديد المناطق الأكثر حاجة للتدخل، ووضع خطط تشجير أكثر كفاءة، أما على الصعيد الدولي، فإن التعاون مع منظمات مثل “الفاو” وغيرها من الهيئات البيئية الأممية يُعد أساسياً في هذه المرحلة.
التحديات التي تعرقل التعافي البيئي
رغم أهمية الخطوات السابقة، تواجه سوريا تحديات كبرى في سعيها لإعادة التشجير واستعادة الغابات، أبرزها:
التمويل المحدود: ضعف الإمكانات المالية يجعل من الصعب تنفيذ مشاريع التشجير، لا سيما في ظل توجه الأنظار نحو إعادة الإعمار العمراني على حساب البيئة.
تغير المناخ: تفاقم الجفاف وارتفاع درجات الحرارة يزيدان من تعقيد المهمة، ويجعلان الحاجة إلى التحرك أكثر إلحاحاً
الوضع الاقتصادي: أدّى نقص وسائل التدفئة لدى كثير من السكان إلى لجوئهم لقطع الأشجار بهدف التدفئة أو البيع، في ظل غياب فعّال للرقابة القانونية.
ختاماً، إن مستقبل الغابات السورية يتوقف على مدى قدرتنا، محلياً ودولياً، على مواجهة هذه التحديات بشكل متكامل. فالغابات ليست مجرد مساحات خضراء، بل هي خط الدفاع الأول في الحفاظ على التنوع البيئي، وتوازن المناخ، وصون الموارد الطبيعية للأجيال القادمة، ومع تفاقم آثار التغير المناخي والاحتباس الحراري، لم يعد تأهيل الغابات خياراً، بل ضرورة وطنية وبيئية ملحّة تتطلب تخطيطاً مستداماً وجهوداً جادة من الجميع.
اقرأ أيضاً: الكوكب يزداد قسوة: مناخ متحوّل وسوريا منسية في تقارير الإنصاف العالمي