كتبه: ربى كلاح
في تحول يترقبه ملايين السوريون داخل البلاد وخارجها، أعلن المتحدث باسم وزارة الداخلية السورية، نور الدين البابا، عن تخفيض مرتقب على كلفة استصدار جوازات السفر السورية، وذلك في ظل واقع اقتصادي ومعيشي متردٍ يفاقم من معاناة المواطنين، وتوقعات متزايدة بالهجرة بحثاً عن فرص لحياة أفضل.
ويحمل هذا الإعلان، الذي جاء في مقابلة تلفزيونية، أملاً كبيراً بتخفيف العبء المالي والمعيشي عن كاهل المواطن السوري الذي عانى طويلاً من رسوم باهظة وإجراءات معقدة.
ومن المتوقع، أن يمثل هذا التخفيض الذي يتراوح بين 50 إلى 70 بالمئة، نقطة تحول جوهرية في مسار وثيقة السفر السورية التي عرفت طويلاً بأنها من الأغلى عالمياً، مما شكل عبئاً كبيراً على الأفراد والعائلات الراغبة في السفر أو تجديد إقاماتها في الخارج.
جواز السفر السوري: من الغلاء إلى الأمل
لطالما كان استصدار جواز السفر السوري رحلة شاقة محفوفة بالصعوبات والتكاليف الباهظة، تحولت إلى مصدر دخل كبير للنظام البائد، ووسيلة للابتزاز الأمني والمالي للمواطنين.
ففي مطلع شباط من العام الماضي، وقبل التغيير السياسي، كانت رسوم الجواز العادي داخل سوريا تبلغ 312,700 ليرة سورية، ويصدر خلال 30 إلى 45 يوماً، بينما ارتفعت الرسوم إلى 432,700 ليرة للجواز المستعجل (يصدر خلال 15 يوماً)، ووصلت إلى حد صادم بلغ 2,010,700 ليرة سورية للجواز الفوري الذي كان يسلم خلال يومين فقط.
هذا المبلغ، الذي عادل حينها نحو 200 دولار أمريكي، كان رقماً فلكياً مقارنة بمتوسط الدخل، مما دفع الكثيرين إلى البحث عن بدائل أو الوقوع في شباك السماسرة.
أما بالنسبة للسوريين في الخارج، فقد كانت التكاليف أعلى بكثير، حيث بلغت 300 دولار للجواز العادي و800 دولار للجواز المستعجل، ولم تكن هذه الأرقام مجرد رسوم، بل كانت حواجز حرمت آلاف المواطنين من ممارسة حقهم في التنقل والعيش بكرامة.
ومع سقوط النظام البائد في الثامن من كانون الأول 2024، اعتمدت إدارة الهجرة والجوازات على استصدار الجواز الفوري حصراً، مع الابقاء على الرسوم المرتفعة، ما زاد من تعقيد الأزمة.
إلا أن التعميم الجديد الصادر عن إدارة الهجرة والجوازات، والذي يتيح باب التسجيل لاستخراج جواز السفر للمقيمين داخل البلاد وخارجها، ويعالج بعض المشكلات الإجرائية، يشير إلى توجه نحو تيسير الأمور.
فعلى سبيل المثال، أصبحت إجراءات منح الجواز بمعزل عن معظم القيود الأمنية المتعلقة بالتوقيف أو منع السفر أو التخلف عن الخدمة الإلزامية، باستثناء بعض الحالات المرتبطة بالوظائف الحكومية الحساسة أو الإجراءات القضائية التي تتطلب تسويتها.
كما سمح التعميم بإصدار جوازات بدل تالف أو فاقد، وبمنح الجوازات بيد ذوي القربى حتى الدرجة الرابعة، في محاولة لتخفيف المعاناة عن المواطنين.
وفي هذا السياق، صرح مدير إدارة الهجرة والجوازات، وليد عرابي، بوجود دراسة لإلغاء خدمة الجواز العادي، والبدء بتخفيض رسوم الجواز الفوري داخل سوريا، وكذلك تخفيض رسوم المغتربين التي تعد مرتفعة جداً.
ورغم ما تحمله هذه التصريحات من بارقة أمل، فإنها لم تنعكس بعد على الواقع المعيشي الصعب، حيث تؤكد شهادات البعض على فيسبوك ولبعض وسائل الإعلام، استمرار تفشي الرشوة داخل دوائر الهجرة والجوازات، ما يضيف عبئاً فوق الكلفة الرسمية، ويجعل استصدار الجواز أمراً عصياً على كثير من العائلات.
ويمثل تذمر المواطنين من هذا الواقع دليلاً واضحاً على الحاجة الملحة لإصلاحات عميقة تتجاوز حدود الخطاب إلى التطبيق الحقيقي.
اقرأ أيضاً: خطوة نوعية في مطار حلب.. خلية أزمة لإدارة العمليات ومشروع جديد قيد الدراسة
مقارنة دولية وتطلعات “الحكومة الجديدة”!
عند مقارنة رسوم جواز السفر السوري بنظيرتها في دول الجوار، يتضح الفارق الكبير الذي يضعه في مرتبة الجوازات الأعلى سعراً على مستوى العالم، رغم أنه من الأضعف من حيث الترتيب الدولي.
ففي لبنان، على سبيل المثال، تبلغ رسوم جواز السفر لمدة خمس سنوات ستة ملايين ليرة لبنانية (حوالي 67 دولاراً امريكياً)، ولعشر سنوات عشرة ملايين ليرة (نحو 112 دولاراً)، مع رسوم إضافية للجواز المستعجل تبلغ 4,900,000 ليرة لبنانية (حوالي 55 دولاراً)، حتى الرسوم الخاصة بالأرقام المميزة لا تقترب من التكلفة السورية المرتفعة.
أما في الأردن، فيتراوح رسم تجديد الجواز العادي بين 50 و100 دينار أردني (مايعادل 70 إلى 141 دولاراً امريكياً)، بينما في تركيا، تبلغ رسوم جواز السفر لمدة تزيد عن أربع سنوات حوالي 3796.50 ليرة تركية (ما يعادل 95 دولاراً امريكياً).
هذا التباين الواضح يعكس أن الرسوم السورية لم تكن تمثل تكلفة حقيقية للخدمة الحكومية بقدر ما كانت أداة استغلال لحاجة المواطنين الملحة.
وعلى صعيد الترتيب الدولي، لا يزال جواز السفر السوري في ذيل القائمة، رغم تداول انتشار أخبار غير صحيحة مؤخراً تفيد بتحسن ترتيبه.
فوفقاً لأحدث بيانات عام 2025، يحتل الجواز السوري المرتبة 99 عالمياً على مؤشر “باسبورت إندكس”، والمرتبة 105 على مؤشر “هينلي وشركاؤه”، ما يضعه ضمن أضعف جوازات السفر على مستوى العالم، حيث يسمح لحامليه بالدخول إلى عدد قليل جداً من الدول بدون تأشيرة أو بتأشيرة عند الوصول.
وبحسب مؤشر “هينلي”، يتيح الجواز السوري لحامله السفر إلى 27 دولة فقط بدون تأشيرة، متقدماً على الجواز الأفغاني (26 دولة) ومتراجعاً خلف جوازات العراق واليمن وباكستان.
في حين يظهر مؤشر “باسبورت إندكس” إمكانية الدخول إلى 40 دولة فقط، ما يؤكد محدودية حرية التنقل ويزيد من صعوبة الحصول على تأشيرات أو إقامات في دول أخرى.
وفي مواجهة هذا الواقع، تسعى الحكومة الجديدة إلى تغييره، إذ أعلن مدير دائرة الوثائق والمستندات، أحمد المصطفى، عن وجود دراسة لخفض التكاليف ورفع مدة صلاحية الجواز إلى ست سنوات، إضافة إلى التنسيق مع جهات دولية لتحسين موقع الجواز الجديد.
ورغم ما تحمله هذه التصريحات من مؤشرات إيجابية، إلا أن التحديات ما زالت ماثلة، بدءاً من الطوابير الطويلة أمام فروع الهجرة والجوازات في دمشق، وصولاً إلى الأعطال المستمرة في منصة حجز المواعيد الإلكترونية، وهي مشكلات تتطلب معالجات جذرية وفورية.
ومن شأن أي تخفيض فعلي في رسوم جواز السفر أن يحدث أثراً كبيراً في تخفيف الأعباء عن كاهل المواطنين، ويفتح آفاقاً أوسع للعمل والدراسة في الخارج، مما قد يسهم بشكل غير مباشر في دعم الاقتصاد عبر زيادة تحويلات المغتربين.
ومع ذلك، فإن تحقيق الفائدة المرجوة من التخفيض يتطلب أكثر من مجرد خفض الرسوم، إذ ينبغي أن يرافق بإصلاحات إدارية شاملة، ومكافحة فعالة للفساد، وضمان الشفافية، إلى جانب جهود دبلوماسية حثيثة لتحسين ترتيب الجواز على الساحة الدولية، وتمكين السوريين من ممارسة حقهم في التنقل بحرية وكرامة، باعتباره حقاً إنسانياً تكفله المواثيق الدولية.
إصلاحات ضرورية لكسر حلقة الاستغلال وتأكيد الحقوق
الواقع الراهن لجواز السفر السوري يفرض ضرورة إجراء إصلاحات جذرية وشاملة تنسجم مع المبادئ الدستورية والالتزامات الدولية.
ويستدعي هذا الوضع تخفيضاً حقيقياً وجذرياً في الرسوم المالية المفروضة، بما يتناسب مع الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للسوريين، إلى جانب توحيد الرسوم بين الداخل والخارج لإنهاء مظاهر التمييز القائم.
كما تبرز الحاجة إلى تسريع إجراءات إصدار الجوازات، ومعالجة مشكلات الازدحام وفترات الانتظار الطويلة التي تثقل كاهل الموظفين والطلاب على حد سواء.
كذلك، تبرز أهمية محاسبة المسؤولين المتورطين في الفساد والرشوة والتواطؤ مع السماسرة، إضافة إلى إطلاق آلية شكوى فعالة داخل إدارات الهجرة والجوازات والسفارات، بما يضمن تمكين المواطنين من الإبلاغ عن التجاوزات، مع توفير الحماية اللازمة للمبلغين.
وقد شكلت بعض الخطوات التي اتخذتها الحكومة الجديدة، كمنح مهلة ستة أشهر لتجديد الجوازات مجاناً في عدد من البعثات الدبلوماسية، وإلغاء إلزامية الخدمة العسكرية، وإسقاط الملاحقات الأمنية، مؤشرات إيجابية باتجاه التغيير.
ومع ذلك، فإن إحداث تحول حقيقي في واقع جواز السفر السوري يظل رهناً بإرادة سياسية راسخة وإصلاحات مؤسسية عميقة، تضمن حق السوريين في التنقل بحرية وكرامة، بعيداً عن الاستغلال والابتزاز اللذين عانوا منهما طويلاً.
اقرأ أيضاً: سويسرا ترفع العقوبات: ما الفائدة السورية وماذا عن الملفات القديمة؟!