في عمق الأزمة المعيشية التي تخيم على البلاد، يجد المستهلك السوري نفسه في مواجهة عدو خفي يتسلل إلى غذائه وشرابه ومستلزماته اليومية، عدواً ليس تقليدياً، بل خطر كامن في عبوات برّاقة ومنتجات تبدو للوهلة الأولى طبيعية، لكنها في حقيقتها قنابل موقوتة تهدد صحته وتستنزف جيبه.
وتكشف الأرقام الرسمية الصادمة عن حقيقة مقلقة؛ أن ثلث البضائع المتداولة في الأسواق السورية لا تتوافق مع أبسط المواصفات القياسية، ما يحول رحلة التسوق اليومية إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر، وتطرح تساؤلات عميقة حول فاعلية الرقابة وجدوى القوانين في حماية المواطن.
وتبدأ القصة من أروقة المخابر الرسمية، حيث كشفت مديرة المخابر في الإدارة العامة للتجارة الداخلية وحماية المستهلك، سمر الخليل، عن نتائج تبعث على القلق، فمنذ بداية العام الجاري حتى نهاية شهر أيار، خضعت 3715 عينة غذائية وغير غذائية للفحص، لتأتي النتيجة كصفعة للواقع الاستهلاكي، إذ تبين أن نحو 33% منها كانت مخالفة للمواصفات.
وتتربع منتجات الألبان والأجبان على عرش المخالفات الغذائية، حيث يلجأ المصنعون إلى استبدال الدسم الحيواني بالزيوت النباتية الأرخص ثمناً والأكثر ضرراً على الصحة.
أما المنتجات غير الغذائية، فكانت المنظفات هي البطل السلبي، مع انخفاض ملحوظ في تركيز المادة الفعالة وزيادة نسبة الملح، بهدف خداع المستهلك بمظهر جودة زائف.
وهذه التحاليل، التي حققت للدولة عائدات تقارب ثلاثة مليارات ليرة سورية، تكشف بوضوح عن حجم الكارثة، وتؤكد أن ما يصل إلى يد المواطن قد لا يكون سوى وهم اسمه “الجودة”.
الأسواق السورية في مهب الغش!
إن انتشار هذه الظاهرة ليس وليد الصدفة، بل هو نتيجة منظومة معقدة من الأسباب الاقتصادية والرقابية.
ويسعى بعض الصناعيين والتجار، في ظل الارتفاع الهائل في تكاليف المواد الخام، إلى تعظيم أرباحهم عبر طرق ملتوية، فتارة يتم تقليص كمية المنتج داخل العبوة مع الحفاظ على مظهرها الخارجي، وتارة أخرى يتم التلاعب بالمكونات الأساسية، كما يحدث في استبدال الدسم الحيواني بالزيوت النباتية المهدرجة في الألبان، والتي يحذر الخبراء من أنها تشكل خطراً جسيماً على صحة القلب والشرايين.
ويوضح الكيميائي نضال عدرا، مدير المديرية الغذائية في هيئة المواصفات والمقاييس، في تصريحات إعلامية، أن ضعف الرقابة فتح الباب على مصراعيه لانتشار هذه المنتجات الرديئة التي أثرت سلباً على صحة المجتمع، وخصوصاً الأطفال.
فهؤلاء الذين يعتمدون على الحليب ومشتقاته كمصدر أساسي للكالسيوم والبروتين في مرحلة النمو، يتلقون منتجات خالية من القيمة الغذائية، وهو ما قد يكون أحد الأسباب الخفية وراء انتشار ظاهرة التقزم، التي ارتفعت نسبتها، بحسب الدكتورة هلا داود من مديرية الرعاية الصحية، من 12% عام 2016 إلى 16% في 2023.
وتتفاقم المشكلة مع انتقال التصنيع من المعامل الكبيرة الخاضعة للرقابة إلى ورشات صغيرة وأقبية أبنية في مناطق عشوائية، بعيداً عن أعين الأجهزة المعنية.
ويضاف إلى ذلك، التدفق الهائل للبضائع المهربة عبر الحدود، والتي تدخل الأسواق دون أي فحص أو تدقيق، لتجد طريقها إلى “البسطات” التي انتشرت كالفطر في شوارع المدن.
وهذه البسطات، التي كانت في السابق ظاهرة محدودة، أصبحت اليوم سوقاً مفتوحاً لكل ما هو رخيص ومجهول المصدر، من معلبات ومنظفات ولحوم مجمدة، مستغلة ضعف القوة الشرائية للمواطن الذي يبحث عن السعر الأرخص، غير مدرك في كثير من الأحيان أنه يشتري المرض.
ويقول أحمد، أحد سكان دمشق، بمرارة: “تعرض ابني لحالة تسمم بعد تناوله قطعة شوكولا من إحدى البسطات، لقد دفعنا ثمن الرخص في صحة طفلنا”.
اقرأ أيضاً: زيادة الرواتب 200%: بشرى حقيقية أم فخّ تضخمي؟
ما وراء بطاقة البيان: أضرار صحية واقتصادية تهدد الأسرة السورية
الضرر هنا لا يقتصر على الخداع التجاري، بل يمتد ليصبح تهديداً مباشراً للصحة العامة والاقتصاد الوطني.
وعلى المستوى الصحي، فإن تناول أغذية مغشوشة، كالألبان المحتوية على دهون مهدرجة أو المعلبات مجهولة المصدر التي قد تكون منتهية الصلاحية، يرفع من مخاطر الإصابة بأمراض القلب والسكري والسرطان، فضلاً عن حالات التسمم الغذائي التي باتت خبراً متكرراً.
ويشير الخبير الاقتصادي وأمين سر جمعية حماية المستهلك، عبد الرزاق حبزة، إلى خطورة اللحوم المجمدة التي تعرض على الأرصفة، حيث يزول عنها التجميد ثم يعاد تجميدها، ما يجعلها بيئة خصبة لنمو الجراثيم القاتلة.
أما اقتصادياً، تتسبب هذه الظاهرة في نزيف متعدد الأوجه، فالمستهلك يدفع ثمن سلع منقوصة الجودة والكمية، ويفقد ثقته بالمنتجات المتوفرة، ما يفاقم الأعباء المالية عليه.
وعلى نطاق أوسع، يؤدي إغراق الأسواق بالبضائع المهربة والرديئة إلى تدمير الصناعة المحلية التي لا تستطيع منافسة الأسعار المتدنية للمنتجات المغشوشة، خصوصاً في ظل ارتفاع تكاليف الإنتاج بسبب نقص الطاقة والمحروقات.
وهذا الأمر لا يضر بالمنتج المحلي فحسب، بل يحرم خزينة الدولة من الرسوم الجمركية، ويفاقم من حالة الفوضى في السوق.
ويؤكد حبزة أن الكثير من المعلبات تحمل علامات تجارية معروفة، لكن محتواها مغاير تماماً لما هو مدون على بطاقة البيان، وتاريخ صلاحيتها غالباً ما يكون مزوراً.
رقابة متعثرة وقوانين صارمة: هل يكفي التشريع لردع المخالفين؟
في مواجهة هذا الواقع، لم تقف الحكومة الجديدة مكتوفة الأيدي، بل تحركت لوضع حد لسنوات من التراخي في ضبط الأسواق، مستندة في تعزيز الرقابة ومعالجة المخالفات إلى المرسوم رقم 8 لعام 2021، الذي تضمن قانوناً جديداً لحماية المستهلك، وشدد العقوبات بصورة غير مسبوقة.
وينص القانون على عقوبات قاسية تصل إلى السجن لسنوات وغرامات مالية ضخمة تطال كل من يغش في تركيب السلع، أو يتلاعب بالوزن، أو يبيع بسعر زائد، أو يتاجر بالمواد المدعومة.
وعلى سبيل المثال، تصل عقوبة غش أغذية الإنسان أو الحيوان إلى الحبس سنة وغرامة خمسة ملايين ليرة، بينما تصل عقوبة سرقة أو الاتجار بالدقيق المدعوم إلى السجن سبع سنوات على الأقل.
ولكن، على الأرض، تبدو الصورة مختلفة، فرغم وجود هذا الإطار القانوني الرادع، تبقى فاعليته محدودة في ظل التحديات الهائلة التي تواجه الأجهزة الرقابية.
ويوضح نضال عدرا أن المشكلة تكمن في غياب المخابر المعتمدة دولياً، وتردي حالة الأجهزة، ونقص الكوادر، وانتشار المحسوبيات التي قد تسمح للمخالفين بالإفلات من العقاب.
ومن جهته، يشير عبد الرزاق حبزة إلى أن العدد المحدود للمراقبين الصحيين والتموينيين يجعل من المستحيل تغطية الحيز الجغرافي الواسع للأسواق، خاصة مع الانتشار العشوائي للبسطات، فالرقابة موجودة، لكنها، على حد تعبيره، “غير قادرة على تغطية الأسواق ومتابعة جودة المواد”.
وفي خضم هذه المعادلة المعقدة، يقف المواطن حائراً بين مطرقة الأسعار الملتهبة وسندان البضائع المغشوشة، محاطاً بقوانين صارمة لا يرى أثرها الكامل في حياته اليومية، وبسوق مفتوح على كل الاحتمالات.
ويبقى السؤال الذي يتردد صداه في كل بيت سوري: إلى متى سيظل المستهلك هو الحلقة الأضعف، يدفع من صحته وماله ثمن فوضى الأسواق وعجز الرقابة؟
اقرأ أيضاً: جواز السفر السوري.. ما بين غلاء النظام البائد وأماني الحكومة الجديدة!