بعد انهيار سقف الداخلية.. كيف نحمي المباني التاريخية من السقوط؟!

الكاتب: أحمد علي
على سطح مبنى عاش أكثر من قرن من التحوّلات، يصف شاهدٌ عيان ميولاً خطِرة وشقوقاً نافذة وسقفاً محمّلاً بقرميد فوق حديد، فيما تُستعاد الهمسات القديمة للطوب “اللبن” وقد تعب من المطر والزمن. المشهد ليس لقطة سينمائية عابرة؛ إنّه إنذار مبكر لمدينةٍ تُساكن التاريخ وتستمدّ هويتها منه. فحين سقط جزء من سقف “السرايا” (المبنى العثماني القديم لوزارة الداخلية في ساحة المرجة) أثناء أعمال ترميم، وتعرّض عمّال لإصابات، بدا السؤال مباشراً وحاداً: هل نتعامل مع التراث كواجهة جميلة تُجبَّص ثم تُنسى، أم كموروثٍ حيّ يحتاج خطة إنقاذ علمية صارمة من التشخيص إلى الصيانة؟
هذا المقال يحاول أن يقدّم إجابة عملية، مستنداً إلى الوقائع الموثّقة وأفضل المعايير العالمية في ترميم المباني في دمشق. وقد أكّدت تغطيات إخبارية وقوع انهيار جزئي للسقف خلال أعمال الترميم في مبنى السرايا بوسط العاصمة وإنقاذ عمال عالقين، مع تباين في حصيلة الإصابات، وهو ما يعكس خطورة التدخّل غير المحسوب في مبنى تاريخي هشّ.
ترميم المباني في دمشق قضية سلامة وهوية معاً
قصة السرايا ليست حدثاً منفصلاً؛ إنّها عيّنة من تحدٍّ أوسع يطال نسيج دمشق التاريخي. فـ “المدينة القديمة” مدرجة على قائمة التراث العالمي، لكنّ تقارير اليونسكو نبّهت مراراً إلى أن عناصر أصالتها تتعرّض للتآكل عندما تُهمل أساليب الصيانة التقليدية ويُستعاض عنها بمواد وطرائق لا تنسجم مع المباني القديمة، ما يهدد القيم المادية والروحية للمكان.
كما شهدت سوريا خلال سنوات الأزمة أضراراً طالت مواقع تراثية عدّة، وهو ما وضع حماية التراث العمراني في قلب النقاش العام حول إعادة الإعمار ومعاييرها.
“دار السرايا”: سيرة مبنى يختصر قرناً من الدولة والمدينة
شُيّد مبنى السرايا مطلع القرن العشرين كمقر للسلطة العثمانية، على تخطيط مستطيل بثلاثة طوابق غرب ساحة المرجة، قبل أن يتحوّل لاحقاً إلى مقر لرئاسة الوزراء ثم لوزارة الداخلية؛ وهو موقعٌ ليس معماريّاً فحسب بل سياسي أيضاً، إذ يتجاور مع عمود التلغراف العثماني الذي يختزل روح التحديث في تلك الحقبة. هذه العناصر تمنح المكان قيمةً مضاعفة: تاريخ بنيوي ووظيفي ورمزي.
ما الذي يقوله التشخيص الهندسي عن الخطر؟
التسجيل المتداول من سطح المبنى يصف ميولاً كبيرة في بعض المواضع، وشقوقاً كبيرة أيضاً في بلاطات السقف. مثل هذه العلامات غالباً ما تدلّ على تراكم رطوبة قديمة، وتغيّر في توزيع الأحمال بسبب تعديلات لاحقة أو مواد تغطية ثقيلة، وربما على تآكل عناصر معدنية أو فقدان الترابط بين طبقات بنائية قديمة من اللبن أو الحجر والقصارة ((وتُسمّى أيضاً اللياسة/المحارة/البياض) هي طبقة ملساء من ملاط تُلصَق على الجدران أو الأسقف لتسويتها وحمايتها وإعطائها شكلاً نهائياً قابلاً للدهان أو الزخرفة).
تشدّد المعايير الدولية للحفاظ على العمارة الطينية واللبن على أن «سدّ الشرخ» ليس علاجاً إن لم تُعالج أولاً مسبّبات الحركة، وأن الحشو يجب أن يكون متوافقاً بنيوياً وكيميائياً مع مادة الجدار، لأنّ موضع الإصلاح لا يصبح “نقطة قوّة” تلقائياً وقد يتسبّب بانتقال التشقّقات إلى مناطق أضعف. الفكرة الجوهرية هنا هي التشخيص أولاً، ثم تقنيات تدخّل متدرّجة أقلّها إزعاجاً وأكثرها قابليةً للعكس.
كيف يُدار ترميم مبنى عثماني من اللبن والحديد والقرميد؟
العمل الرشيد يبدأ بإجراءات إنقاذ سريعة: إخلاء المناطق المعرّضة للخطر، تدعيمٌ خشبيّ مؤقّت للبلاطات والجدران، وتحقيقات هندسية غير هدّامة (اختبارات رطوبة، تصوير حراري، مسح ثلاثي الأبعاد) لرسم خريطة دقيقة للتشوّهات.
يلي ذلك تفكيك مدروس لأي إضافات حديثة ثقيلة أو غير متوافقة (طبقات قصارة إسمنتية مثلاً)، ثم إصلاح التشقّقات بحقن ملاط طيني-كلسي معدّل أو مفاتيح قصّ من مادة متوافقة، مع تعزيز نقاط الارتباط بين الجدران والأسقف باستخدام روابط وخوابير خشبية أو معدنية صغيرة مخفية، وبشرط أن تكون قابلة للفك مستقبلاً.
وتتطلّب معالجة السقف إعادة ضبط الميل وتخفيف الوزن وإضافة طبقة عزل “نفّاذة للبخار” لا تحبس الرطوبة داخل الجسم البنائي، وإعادة صفّ القرميد وفق تفاصيل تقليدية تحمي من التجمعات المائية. وهذه الخطوات ليست وصفة عامة فحسب؛ بل خلاصة ممارسات منشورة في أدبيات اليونسكو/إكروم وإيكوموس ومعاهد متخصّصة في صون العمارة الطينية.
يشار هنا إلى أن إكروم (ICCROM) هو المركز الدولي لدراسة صون الممتلكات الثقافية وترميمها. منظمة حكومية دولية مقرّها روما تُعنى ببناء القدرات والبحث والتدريب والتأهّب للطوارئ في مجال التراث المادي. وإيكوموس (ICOMOS) هو المجلس الدولي للمعالم والمواقع. منظمة خبراء غير حكومية تُعدّ الهيئة الاستشارية الأساسية لليونسكو في تقييم مواقع التراث الثقافي، وتنتج مواثيق ومبادئ توجيهية (مثل ميثاق البندقية ووثيقة نارا عن الأصالة).
مشاريع الترميم حين تتحول إلى “تجميل”؟
حين يُختزل الترميم في معالجة موضعية لشقّ ظاهر أو طلاء واجهة، تُؤجَّل المشكلة بدل حلّها. مبادئ الحفاظ تُشدّد على التوافق (compatibility) والحدّ الأدنى من التدخّل (minimal intervention) وقابلية الرجوع (reversibility) والتوثيق الكامل لكل خطوة، بما يسمح بأي معالجة لاحقة دون تدمير طبقات أصيلة.
كما تحذّر الأدلة المتخصصة من استعمال مواد إسمنتية صلبة فوق بنى ليّنة (لبن/حجر مع ملاط ترابي) لأنها تُحدث “بطانة صمّاء” تحبس الرطوبة وتُضعف الجوار. وهذه القواعد ليست ترفاً وفق ما يقول الخبراء في الشأن، بل شروط سلامة عمرانية تقلّل احتمالات الانهيار وتضمن بقاء المبنى قابلاً للتشغيل والصون.
ساحة المرجة كمرآة للمدينة
المرجة ليست ساحة عادية؛ إنها واجهة دمشق الحديثة منذ أواخر القرن التاسع عشر، وفي قلبها عمود التلغراف الذي صمّمه الإيطالي رايموندو دأرونكو Raimondo D’Aronco وتعلوه نسخة مصغّرة لمسجد يلديز في إسطنبول، علامة على مشروع تحديث عثماني جمع البنية التحتية بالرمزية السياسية.
وجوارُ هذا العمود مع مبنى السرايا يزيد من حساسية أي تدخّل؛ فأي خطأ تشكيلي أو مادي سيشوّه مشهداً حضرياً كاملاً لا مبنى منفرداً.
من يدير المشهد؟
المبنى بحاجة إلى قيادة ترميمية توازن بين الخبرة الأكاديمية والممارسة الحرفية المحلية. وفي هذا الإطار، أشارت تقارير اليونسكو إلى أهمية صون المهن التقليدية والمواد المحلية، وأن البرامج التدريبية والحرفية جزء من الحلّ لا من الديكور.
عملياً، يفترض تشكيل لجنة مستقلّة تضم مهندسين إنشائيين ذوي خبرة في العمارة التاريخية، ومعماريي تراث، وخبراء مواد، وممثلين عن الحِرَفيين، مع صلاحيات واضحة وجدول زمني وتمويل مستدام؛ على أن تُنشر تقارير دورية للعموم لمنع غموض القرارات. فهذا النمط من الإدارة المتعدّدة التخصّصات مجرّب في مواقع تاريخية عالمية، ونجاحه مشروط بالتزام معاييرٍ لا تحابي السرعة على حساب السلامة.
ماذا نتعلم من انهيار سقف السرايا؟
الدرس الأهم أن ترميم المباني الأثرية في دمشق ليس ملفاً إنشائياً داخلياً فحسب، بل قضية سلامة عامة. فقد كشف الحادث هشاشة مقاربة “أثناء العمل نتعلّم”، وأعاد التذكير بأنّ الترميم يبدأ من السقف إلى الأساسات عبر تشخيص سببي، وأنّ الاستعانة بخبرات دولية متخصّصة ليست نقيصة، خاصة حين يتعلّق الأمر بعمارة عثمانية لها تقاليدها وموادها وتقنياتها.
كما يفرض الحدث إعادة تقييم أولويات الصيانة الدورية، من تنظيف مجاري التصريف وتخفيف الأوزان الإضافية على الأسقف، إلى برامج مراقبة تشقّقات دورية تُقرأ بآلات قياس لا بالعين المجردة.
لذلك، فإنّ تحويل السرايا إلى نموذج يُحتذى يتطلب خطة إنقاذ متكاملة: تثبيت عاجل، تشخيص عميق، تصميم تقوية متوافق، تنفيذ حرفي موثّق، وصيانة مستدامة؛ وإلا سنبقى نراوح بين صور “قبل/بعد” لا تلبث أن تتحول إلى “قبل/انهيار”.
إنقاذ الذاكرة لا يقبل أنصاف الحلول
ختاماً نقول: حين يترنّح سقف مبنى أثري، لا يسقط حجرٌ فقط؛ تسقط معه طبقات من المعنى والسيرة. والمدينة التي تُهمل علم الترميم تُقايض حاضرها بماضٍ مُشوّه. ولهذا، فإنّ تبنّي معايير واضحة في ترميم المباني الأثرية في دمشق، وتوثيق كل خطوة، وتغليب الحِرفة على الاستعجال، سيحوّل مأساة السرايا إلى نقطة انعطاف نحو ثقافة صيانة مسؤولة.
والمسؤولية هنا جماعية: مؤسسات ومهنيون وجمهور، بحيث تصبح كل زيّة قرميد، وكل ملّيمتر ميلان، وكل شرخ قديم، لغةً مفهومة تُعالج باحترامٍ للزمن، لا بالطلاء السريع.
اقرأ ايضاً: العراق يفتح الملف الأكثر تعقيداً بلا تنسيق معلن مع دمشق!

