في ظل الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي تشهدها سوريا، وتراجع فرص العمل وركود الإنتاج، إلى جانب تدهور قيمة الليرة وارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق، أصبحت الحوالات المالية الخارجية شريان حياة أساسياً لملايين العائلات السورية، تساعدهم في البقاء والاستمرار رغم قسوة الظروف اليومية.
وتشكل هذه الحوالات، التي تتدفق بشكل يومي من دول اللجوء مثل تركيا وألمانيا ولبنان والدول الخليجية، أحد أهم مصادر الدخل لأكثر من خمسة ملايين شخص داخل البلاد، بحسب تقديرات مصرف سورية المركزي، الذي أشار إلى أن قيمة هذه التحويلات بلغت نحو 1.8 مليار دولار خلال عام 2024، رغم تسجيلها انخفاضاً نسبته 40% مقارنة بالأعوام السابقة.
ورغم هذا التراجع، إلا أنها لا تزال تمثل “طوق نجاة” حقيقاً لمئات آلاف العائلات السورية، التي تعاني من انهيار قيمة الليرة وارتفاع جنوني في الأسعار، إلى جانب رواتب حكومية هزيلة لم تعد تكفي لتغطية أبسط متطلبات الحياة اليومية.
ففي دمشق وحلب وحمص، وفي مختلف المحافظات السورية وحتى في أقصى القرى النائية، تحولت الحوالة الشهرية التي يرسلها الأخ أو الزوج أو الابن المقيم بالخارج من مجرد مساعدة مالية إضافية إلى ضرورة وجودية لا يمكن الاستغناء عنها، في ظل الظروف المعيشية الصعبة.
الحوالات المالية مصدر رزق أساسي
في مجتمع يعاني من بطالة جماعية وغياب آليات الدعم الاجتماعي، يرى غالبية الشباب أن الاغتراب هو الخيار الوحيد أمامهم لتأمين مستقبلهم ومستقبل عائلاتهم.
فبينما يعجز الاقتصاد المحلي عن توفير فرص عمل، وتنكمش المؤسسات الرسمية عن تقديم خدماتها الأساسية، يلجأ الكثير منهم إلى الهجرة أو السعي للعمل في الخارج، ليس فقط للبحث عن حياة كريمة، بل لضمان استمرار عائلاتهم في الداخل.
ويقول محمود، موظف سابق ترك عمله منذ سنوات، إن الحوالة التي يرسلها ابنه من هولندا هي مصدر دخله الوحيد، لأن فرص العمل غائبة تماماً، والراتب الحكومي لا يساوي شيئاً في السوق.
ويضيف أن أسعار المواد الغذائية وإن انخفضت بعد سقوط النظام البائد، إلا أن ذلك لم ينعكس على الواقع اليومي بسبب غياب القدرة الشرائية لدى معظم السكان، مشيرًا إلى تفشي البطالة وجمود سوق العمل بعد هروب عدد كبير من أصحاب رؤوس الأموال.
أما سعاد، مدرسة في دمشق، فتشكو من تلاعب بعض شركات الصرافة بأسعار الصرف، ما يؤدي إلى خسائر كبيرة للمستلمين الذين يعتمدون على هذه الأموال لتغطية نفقاتهم الشهرية.
اقرأ أيضاً: عقارات الوقف في سوريا: إرث منهوب بأرقام خيالية ومسار استرداد شاق!
سوق الحوالات بعد سقوط النظام البائد
شهد سوق الحوالات المالية في سورية تغيرات جوهرية خلال السنوات الماضية، خاصة بعد تحرر السوق من القيود الأمنية التي كانت تسيطر عليها أجهزة النظام السابق.
ففي ظل الرقابة الأمنية المشددة، كان التعامل بالعملات الأجنبية محصوراً ضمن شركات محددة، وتخضع عمليات التحويل لرقابة مشددة، مما كان يمنع تسليم المبالغ المحولة بالدولار أو اليورو.
أما الآن، فقد أصبح بمقدور شركات الحوالات تقديم التحويلات بالدولار الأمريكي أو اليورو، مقابل عمولة بسيطة لا تتعدى 5%، وفقاً للسعر الرسمي المعتمد من قبل المصرف المركزي.
ويؤكد راكان المرعي، صاحب شركة حوالات تعمل داخل وخارج سوريا في حديثه لأحدى الوسائل الإعلامية المحلية، أن الوضع مختلف تماماً اليوم، حيث باتت الحوالات الخارجية عاملاً حاسماً في إعالة ملايين السوريين داخل البلاد، في ظل ضعف الرواتب وفشل المؤسسات الرسمية في تأمين متطلبات المعيشة.
ويشير إلى أن أكثر من ستة ملايين سوري في أوروبا وتركيا ودول الخليج يسهمون بشكل مباشر في دعم عائلاتهم من خلال تحويل الأموال، ما يجعل من هذه الحوالات “شرايين حياة حقيقية للاقتصاد السوري.
وفي السياق ذاته، يوضح مدير صالة حوالات في دمشق أن السوق شهد تطوراً كبيراً مع دخول شركات جديدة قادرة على توفير خدمات تحويل خارجية، لم تكن متاحة سابقاً إلا عبر قنوات محددة.
ويشير إلى أن الإقبال على هذه الشركات تضاعف، خاصة أنها تقدم أوراقاً نقدية جديدة من فئة 5 آلاف ليرة، خلافاً للشركات القديمة مثل “الهرم” و”الفؤاد” التي ما زالت تسلّم أوراقاً مهترئة أو قديمة، ما يدفع الناس لتفضيل التعامل مع الشركات الحديثة.
ويضيف أن فتح قنوات تحويل من مختلف دول العالم ساهم أيضاً في استقطاب الزبائن الذين كانوا سابقاً يعانون من صعوبات كبيرة في استلام حوالاتهم، لافتاً إلى أن تحسن سعر الصرف وحرية التعامل بأنواع متعددة من العملات جعل السوق أكثر تنافسية ومرونة.
تراجع الحوالات.. لماذا؟
رغم هذا التحسن التنظيمي، يشير الخبير الاقتصادي شفيق عربش إلى أن الحوالات الخارجية تراجعت بنسبة 40% مقارنة بالأعوام الماضية، وهو ما يرجع إلى عدد من العوامل، منها الإجراءات التي اتخذتها بعض دول اللجوء، والتي بدأت بتقديم قسائم شراء للاجئين السوريين بدلاً من منحهم مبالغ نقدية، مما حدّ من خروج الأموال خارج بلدان اللجوء.
كما يضيف عربش أن حركة الأسواق ضعيفة جداً بسبب انخفاض القدرة الشرائية، وأن التحسن النسبي في قيمة الليرة السورية ساهم أيضاً في تقليل المبالغ المرسلة، إذ بات نفس الغرض يحقق بتحويل أقل من ذي قبل؛ لكنه يستثمر في الوقت نفسه أن فتح المجال أمام تسليم العملات الأجنبية مباشرة قد يساهم في استقرار الحوالات أو حتى زيادة حجمها مع مرور الوقت.
اقرأ أيضاً: دمشق تعيد فتح سوق الأوراق المالية.. خطوة باتجاه تنشيط الاقتصاد وجذب الاستثمار
آثار اقتصادية واجتماعية
تسبب هذا التراجع في تداعيات اقتصادية واجتماعية خطيرة، أبرزها ارتفاع الأسعار بنسبة 20% خلال العام الماضي، واستمرار توقف الإنتاج، وضعف إمدادات الطاقة، وانتشار البضائع المستوردة منخفضة الجودة، مما أثر سلباً على الصناعات المحلية، خصوصاً الغذائية منها.
ويشير الخبير الاقتصادي حيان حبابة إلى أن الحوالات الحالية تستخدم في تغطية الحاجات المعيشية فقط، ولا توظف في مشاريع تنموية أو استثمارية، مشيراً إلى أن معظم العائلات تنفق هذه الأموال مباشرة على الغذاء والدواء والسكن، دون أي توجه للاستثمار أو التوفير.
ويقدر حبابة أن نسبة اعتماد الأسر السورية على الحوالات تتفاوت بين 10 إلى 70% من دخلها الشهري، وهي نسبة تعكس حجم الفراغ الاقتصادي الذي تركه النظام السابق، وتكشف عن هشاشة الواقع المعيشي الراهن.
اقتصاد هش يعتمد على الخارج
في ضوء هذه المعطيات، يبدو أن الاقتصاد السوري في المرحلة الحالية يقوم بدرجة كبيرة على الحوالات الخارجية كمصدر وحيد تقريبًا للدخل والسيولة.
ومع استمرار تدهور الإنتاج المحلي وغياب بدائل مستدامة، تحولت الحوالات إلى بديل فعلي عن الدولة في تأمين الإنفاق اليومي للأسر.
ويعتبر التحدي الأكبر أمام صناع القرار في سوريا هو تحويل هذا الدعم المالي من الخارج إلى فرصة تنموية حقيقية، عبر وضع سياسات تشجع على الاستثمار، وتوفير بيئة آمنة ومستقرة لتحويل الأموال إلى مشاريع صغيرة ومتوسطة تنعش السوق المحلي وتقلل من الاعتماد المطلق على الخارج.
فإذا لم تترجم هذه التحويلات إلى استثمارات حقيقية، فإن الاقتصاد السوري سيبقى رهينة تقلبات الخارج، ويعيش على إيقاع كل حوالة تأتي أو تتأخر، في ظل بنية اقتصادية هشة، وواقع اجتماعي مضطرب يتطلب حلولاً جذرية وسياسات تنموية بعيدة المدى.