بين السعر والتسعير.. هل انتقلت سوريا إلى السوق الحر بشكل واقعي؟

شكل قرار وزارة الاقتصاد والصناعة الأخير حول وضع التسعير النهائي على المنتجات نوعاً من محاولة ضبط السوق والأسعار، ومنع تحقيق هوامش ربح جنونية في ظل ما يشهده السوق السوري من تخبط نتيجة الانتقال من نظام السوق الاجتماعي إلى نظام السوق التنافسي. وفي ظل مباركة غرفة تجارة دمشق للقرار تُطرح تساؤلات عدة حول انتقالنا بشكل حقيقي للسوق الحر، وتطبيق مبدأ المنافسة بما يحقق التوازن العادل بين أطراف العملية التجارية.
فقد أصدرت غرفة تجارة دمشق بياناً في 14 تشرين الأول أوضحت فيه موقفها من قرار وزارة الاقتصاد والصناعة المتعلق بآلية التسعير الجديدة التي تُلزم جميع المنتجين والمستوردين بتدوين السعر النهائي للمستهلك على السلع، في خطوة تهدف إلى ضبط الأسواق وتعزيز الشفافية. وٱكدت حرصها على حماية مصالح التجار وتنظيم العمل الاقتصادي في البلاد.
وأشارت الغرفة إلى أنها تواصلت مباشرة مع مسؤولي وزارة الاقتصاد عقب صدور القرار، وتلقت توضيحات تؤكد أن الإجراء لا يعني فرض تسعيرة موحدة على الصناعيين أو المنتجين كما تم تداوله، بل يقتصر على الإعلان الواضح عن السعر النهائي في نقطة البيع، وهو نظام معمول به في كثير من الدول المتقدمة لضمان حق المستهلك في معرفة السعر قبل الشراء.
وأكدت الوزارة بحسب بيانها أن الهدف من القرار مزدوج، فهو من جهة يهدف إلى حماية المستهلك من الغبن، ومن جهة أخرى يصون حقوق التجار الملتزمين، بما يحقق توازناً بين طرفي العملية التجارية.
وقد أبدت غرفة التجارة تأييدها لهذا التوجه، معتبرة أن إلزام إصدار فواتير رسمية والإعلان عن الأسعار خطوة مهمة نحو تنظيم السوق وتعزيز الثقة بين البائع والمستهلك، إضافةً إلى الحد من المخالفات التجارية. كما طالبت الغرفة بإصدار توضيح رسمي إضافي من الوزارة يبيّن آليات تنفيذ القرار بشكل دقيق، لتفادي أي التباس وضمان تطبيقه بما يخدم مصالح جميع الأطراف من الصناعيين والتجار والمستهلكين.
وفي ختام بيانها، دعت الغرفة الفعاليات الاقتصادية إلى التريث والهدوء إلى حين صدور التوضيح الرسمي، مؤكدة استمرارها في التنسيق مع الجهات الحكومية لضمان استقرار السوق وحماية مصالح القطاعين التجاري والصناعي.
من جهته، أوضح أمين سر جمعية حماية المستهلك عبد الرزاق حبزة أن مبدأ ضبط الأسعار وتحديد هوامش الربح معمول به في العديد من الدول مثل الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا واليابان، حيث تحدد هذه الدول نسباً قصوى لهوامش الربح تختلف حسب نوع السلع، إذ لا تتجاوز في الصناعات الغذائية 25%، وفي الألبسة 20%، وفي الصناعات الهندسية 30%، بينما تصل في الصناعات الاستخراجية مثل الحديد والإسمنت والسيراميك إلى 35%.
ويُظهر هذا الطرح أن التوجه نحو تنظيم الأسعار والإعلان عنها بوضوح ليس أمراً استثنائياً، بل خطوة نحو تحديث آليات السوق السورية بما يتماشى مع المعايير العالمية ويحقق توازناً بين حرية التجارة وحقوق المستهلكين.
ضبط هوامش الربح
شدد حبزة على أهمية تحديد هامش ربح واضح ومنضبط للمنتجين والمستوردين، بهدف الحد من حالات الربح المبالغ فيه التي يشهدها السوق السوري أحياناً، في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة.
وأوضح حبزة أن عدم استقرار سعر الصرف، إلى جانب تبدلات تكاليف الإنتاج والشحن والجمارك بشكل شبه يومي، يجعل من الصعب على المنتجين والمستوردين الالتزام بتسعيرة ثابتة، خاصة بالنسبة للسلع التي تمتد صلاحيتها لسنوات طويلة، قد تصل إلى خمس سنوات، ما يجعل تثبيت السعر النهائي أمراً معقداً وغير مضمون.
وأشار إلى تجربة قطاع الأدوية خلال السنوات الماضية، حين فُرض على الشركات وضع السعر النهائي على عبوات الدواء، وهو ما أدى إلى ارتفاعات متكررة في الأسعار وفوضى في عمليات البيع، نتيجة التغيرات المستمرة في التكاليف وعدم مرونة التسعير.
وفي تحليله للقرار الاقتصادي الأخير، رأى حبزة أن الخطوة تنسجم مع التوجه نحو اقتصاد السوق التنافسي الحر، الذي يتيح للمنتجين والموردين تسعير منتجاتهم بناءً على آليات العرض والطلب، مع ضرورة وجود دور رقابي فعّال من الدولة لضمان التوازن في السوق ومنع الاحتكار أو التلاعب بالأسعار.
كما شدد على أهمية تعزيز المنافسة عن طريق دعم دخول منتجين جدد إلى السوق، مما يسهم في رفع الجودة وخفض الأسعار، مع إمكانية تحديد سقف أسعار بشكل مؤقت لبعض السلع الأساسية عند الحاجة، كإجراء تنظيمي يحقق حماية المستهلك دون الإخلال بحرية السوق.
الرقابة السعرية
تشهد الأسواق السورية تفاوت واضح في الأسعار بين المحال التجارية، في ظل غياب الرقابة الفاعلة وآليات التسعير الواضحة، ما يثير تساؤلات لدى المواطنين حول قدرة الجهات المعنية على ضبط الفوضى السعرية، خصوصاً في ظل التقلبات الاقتصادية المستمرة التي تشهدها البلاد.
وفي هذا السياق أوضح بلال الأخرس المسؤول الإعلامي في مديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك، أن عمل المديرية الرقابي يتركز حالياً على التحقق من وجود التسعيرة بشكل واضح على المنتجات، مؤكداً أن اختلاف الأسعار بين محل وآخر لا يُعد مخالفة طالما أن كل تاجر يعلن عن سعره بشكل علني.
وبيّن الأخرس أن مهمة المديرية تقتصر على محاسبة التجار الذين لا يلتزمون بوضع الأسعار على بضاعتهم، وأوضح أنه في حال بيع منتج واحد بسعرين مختلفين لدى محلين متجاورين، فإن الزبون هو من يملك حرية الاختيار بين السعرين، بينما لا يُعاقَب التاجر إلا إذا أخفى تسعيرته أو خالف مبدأ الشفافية في الإعلان.
وفي ما يتعلق بالمطالبات بفرض تسعيرة موحدة للسلع، أشار الأخرس إلى أن هذا الخيار غير ممكن عملياً، لأن السوق السوري يقوم على مبدأ السوق الحر، الذي يمنح التجار حرية تحديد أسعار منتجاتهم استناداً على تكاليف الإنتاج وظروف العرض والطلب.
وأوضح أن النظام الاقتصادي القائم على السوق المفتوح يتيح للمستهلكين المفاضلة بين الأسعار والجودة، ما يشجع المنافسة بين التجار ويخلق توازن طبيعي في الأسعار، شريطة التزام الجميع بالإفصاح عن السعر بوضوح لضمان الشفافية وحماية المستهلك من الغبن أو الاستغلال.
هل انتقلت سوريا فعلاً إلى اقتصاد السوق الحر؟
أثار محمد الحلاق، نائب رئيس غرفة تجارة دمشق السابق، تساؤلات حول مدى واقعية انتقال سوريا إلى اقتصاد السوق الحر، واعتبر أن الواقع الحالي يشير إلى التحرير الشكلي للأسواق، بينما لا يوجد حرية اقتصادية فعلية.
وأوضح الحلاق أن الأسواق السورية وإن كانت قد تحررت من القيود الإدارية القديمة، إلا أن العقلية التجارية السائدة لدى عدد كبير من البائعين والصناعيين والمستثمرين لا تزال تعمل وفق الأساليب التقليدية، دون مواكبة التحولات الاقتصادية التي تتطلبها المرحلة الراهنة.
وأشار إلى أن بعض التجار والصناعيين والمزارعين يفرضون هوامش ربح مرتفعة تتجاوز الحدود المقبولة، مستفيدين من تمركزهم الجغرافي أو الاقتصادي الذي يمنحهم قدرة على التحكم في الأسعار، وهو ما يزيد من الفجوة والفوارق بين المناطق والأسواق، وأكد أن تصحيح هذا الوضع يحتاج إلى وقت كي تتوازن الأسعار بشكل طبيعي وفق آليات السوق.
لكن الحلاق لفت إلى أن جوهر المشكلة لا يكمن في التجار وحدهم، بل في ضعف دور المصرف المركزي في ضبط سعر الصرف، إذ لم يقم بدوره في تحديد سعر واقعي وواضح للدولار، ما جعل السوق يعتمد على الصفحات الإلكترونية غير الرسمية في تحديد الأسعار، وهو ما أدى إلى فوضى في التسعير وفقدان المرجعية الرسمية.
ورغم أن سعر الصرف أصبح موحداً نسبياً في تعاملات معظم الفعاليات الاقتصادية، فإن غياب سياسة نقدية واضحة من المصرف المركزي ما زال يخلق ضبابية وعدم استقرار في السوق، الأمر الذي ينعكس سلباً على الثقة بالاقتصاد المحلي.
كما شدد الحلاق على أن القوة الشرائية للمستهلك السوري تمثل حلقة أساسية في أي عملية إصلاح اقتصادي، فإن التوازن السعري الظاهري لا يعكس بالضرورة قدرة المواطن على تحمّل التكاليف المعيشية. وأعطى مثالاً على ذلك ارتفاع سعر ربطة الخبز من 200 إلى 4000 ليرة سورية، وهو ما وصفه بزيادة مرهقة للأسَر، إلى جانب الارتفاع الكبير في أسعار المحروقات وانقطاع الكهرباء، ما أجبر الشركات على تحمّل أعباء إضافية كشراء مستلزمات الطاقة البديلة.
ويرى الحلاق أن هذه الضغوط الاقتصادية المتراكمة عطّلت تعافي النشاط التجاري والصناعي، وبالتالي فإن استقرار سعر الصرف وتفعيل دور المؤسسات المالية يمثلان مدخلاً ضرورياً لتحقيق سوق حر حقيقي ومتوازن، يقوم على المنافسة العادلة وحماية المستهلك في آن واحد.
المنافسة في السوق السورية ما تزال غير ناضجة
أوضح الحلاق أن المنافسة في السوق السورية لم تصل بعد إلى مرحلة النضج الحقيقي، إذ ما تزال تعاني من تشوهات اقتصادية واضحة ناتجة عن غياب التنسيق بين العرض والطلب، وعدم معرفة الاحتياجات الفعلية للسوق.
وبيّن أن هذا الوضع يُعد طبيعياً في ظل مرحلة التحول من اقتصاد السوق الاجتماعي إلى اقتصاد السوق الحر التنافسي، وهي عملية تحتاج إلى عام أو عامين على الأقل حتى تستقر دورة الإنتاج والتوزيع، وتنتهي تأثيرات البضائع المهربة التي ما زالت تتدفق إلى الأسواق وتؤثر على الأسعار.
وأشار إلى أن أسعار السلع في سوريا تتأثر بعدة عوامل متداخلة، من بينها العرض والطلب والاستهلاك المحلي والأسعار الخارجية، وبالتالي لا توجد جهة واحدة تتحكم بالأسعار بشكل مباشر، بل إن عدم التوازن بين العرض والطلب، إلى جانب وجود كتل نقدية ضخمة بيد أشخاص لا يعملون في مجالات إنتاجية، أسهم في تشويه السوق وغياب الشفافية في التسعير.
وأكد الحلاق أن قانون المنافسة ومنع الاحتكار يُعد قانوناً جيداً من حيث المبدأ، لكنه يحتاج إلى بعض التعديلات الجزئية لتفعيل دوره بالشكل المطلوب، والأهم من ذلك هو منح الهيئة المختصة بالمنافسة الصلاحيات الكاملة لسبر الأسواق والكشف عن أي حالات إغراق أو احتكار تؤثر سلباً على الإنتاج المحلي أو على مبدأ العدالة في المنافسة.
وشدد على ضرورة إعادة تفعيل الهيئة الوطنية للمنافسة وتوسيع صلاحياتها التنفيذية والرقابية، بما يضمن مراقبة الأسواق بشكل فعّال، وتنظيمها بطريقة تحقق التوازن بين المنتجين والمستهلكين، وتسهم في نضوج السوق السورية تدريجيًا نحو بيئة اقتصادية تنافسية حقيقية.
على الرغم من قرار وزارة الاقتصاد وتأييد غرف التجارة لها، إلا أن القدرة على تطبيقه وتحديات السوق هو الحاكم النهائي لمدى فعالية قرارات الوزارة.
اقرأ أيضاً: ثلث بضائع الأسواق السورية سم في الدسم كيف يشتري المواطن الخطر بماله؟
